(الصورة: قادة “المجاهدين” مع الرئيس ريغان في البيت الابيض، في العام 1983، أثناء “الجهاد” ضد الإحتلال السوفياتي)
لا تستطيع أن تستحمّ في النهر مرتين، في المرة الثانية تكون أنت تغيّرت، ومياه النهر أيضاً!
مع ذلك:
يصعب عدم ملاحظة أن « اللاعبين » الذين لعبوا أدواراً أساسية في دخول جماعة شبه مجهولة تٌسمّى « الطالبان » إلى كابول في 27 سبتمبر 1996 كانوا، تقريباً، هم أنفسهم الذين ساندوا دخول أحمد الشرع إلى دمشق في 8 ديسمبر 2024. تقريباً. أميركا وباكستان، والسعودية طبعاً، في حالة « الطالبان »، وأميركا والسعودية وتركيا (وربما إسرائيل) في حالة « أحمد الشرع ». (على الهامش: يبدو أن دولة الإمارات كانت “الخاسر” الخليجي الأو من سقوط الأسد!)
عند الغزو السوفياتي لأفغانستان في 24 ديسمبر 1979 ، كان لحاكم الرياض، الأمير سلمان بن عبد العزيز، أكبر دور في حشد الدعم لـ « المجاهدين » الأفغان والعرب. كان ذلك في زمن « الحرب الباردة »، وبالتعاون مع الولايات المتحدة وباكستان. (للمفارقة، كل ملوك السعودية كانوا « إصلاحيين »، ولكن الملك سلمان، وولي عهده، نجحا في « إعادة تأسيس الدولة السعودية الحديثة »!). بعدها، تولّت باكستان مرحلة إسقاط أمراء الحرب « المجاهدين » الفاسدين، وتولية « الطالبان » على أفغانستان المثخنة بـ1،5 مليون قتيل،وهجرة ملايين الأفغان إلى باكستان وإيران ».
طريق باكستان ـ آسيا الوسطى مقابل « حزام الهند ـ الخليج، أوروبا »
عندما انتُخبت “أم الطالبان”، بينازير بوتو، رئيسةً للوزراء عام 1993، كانت حريصة على فتح طريق إلى آسيا الوسطى يمر من بيشاور إلى كابول، عبر جبال هندوكوش إلى مزار شريف، ثم إلى ترميز وطشقند في أوزبكستان، لكن هذا الطريق كان مغلقاً بسبب القتال الدائر حول كابول. حينها، ظهرت مقترحات جديدة، بدعم قوي من مافيا النقل والتهريب الباكستانية، وحزب « جمعية علماء الإسلام »، والمسؤولين العسكريين والسياسيين « البشتون ». وبدلاً من الطريق الشمالي، كان يمكن فتح الطريق من كويتا إلى قندهار، ثم هارات، وصولاً إلى عشق آباد، عاصمة تركمانستان.
في 9-10 أيلول/ سبتمبر 2023 وقّعت الولايات المتحدة الأميركية والسعودية والإمارات في والهند وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي،في « قمة الـ20 » في نيودلهي، مذكرة تفاهم لإنشاء ممر اقتصادي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، ويشمل بناء خطوط للسكك الحديدية وأنابيب لنقل الطاقة، وكابلات لنقل البيانات. وصف الرئيس الأميركي جو بايدن هذا المشروع بـ »التاريخي“. يشمل المشروع لبنان وإسرائيل ولكن ليس سوريا!
في العام الحالي، لعبت السعودية، في عهد الملك سلمان، دوراً كبيراً جداً في إضفاء الشرعية على نظام أحمد الشرع، وخصوصاً في رفع العقوبات الأميركية عن سوريا التي لم تعد تحتمل العقوبات.
بين كابول ودمشق!
يصف الصحفي الباكستاني الرائع « أحمد رشيد » مقاتلي « الطالبان » الذين دخلوا كابول في 27 سبتمبر 1996 على النحو التالي:
كانت الغالبية منهم صغيرة جداً في السن – بين 14 و24 – وكثير منهم لم يسبق له أن قاتل من قبل لكنهم، مثل جميع “البشتون”، يعرفون كيفية التعامل مع السلاح.
قضى الكثير منهم حياتهم في مخيمات اللاجئين في بالوشستان ومقاطعات الحدود الشمالية الغربية في باكستان، متقطعة بفترات من تلقي التعليم القرآني في عشرات المدارس الدينية التي نشأت على طول الحدود ويديرها مولويون أفغان أو أحزاب إسلامية باكستانية متشددة. هناك درسوا القرآن، وأحاديث النبي محمد، وأساسيات الشريعة الإسلامية كما فسرها أساتذتهم ذوو الثقافة المحدودة. لا المعلمون ولا الطلاب كانت لديهم أي خلفية في الرياضيات أو العلوم أو التاريخ أو الجغرافيا. وكثير من هؤلاء المقاتلين الشباب لم يكونوا يعرفون حتى تاريخ بلدهم أو قصة الجهاد ضد السوفييت.
كان هؤلاء الفتية مختلفين تمامًا عن المجاهدين الذين تعرفتُ عليهم خلال الثمانينيات: رجال قادرين على سرد أنساب قبائلهم وعشائرهم، ويستذكرون بحنين مزارعهم ووديانهم التي هجروها، ويروون الأساطير والقصص من تاريخ أفغانستان.
أما هؤلاء الفتية فكانوا من جيل لم يرَ بلاده في سلام قط أبداً. لم تكن لديهم ذكريات عن قبائلهم أو شيوخهم أو جيرانهم، ولا عن الخليط العِرقي المعقد الذي كان يتكون منه كثير من قراهم ومواطنهم.
كان هؤلاء الفتية مما أفرزته الحرب، كأمواج البحر التي تلقي بما تحمله على شاطئ التاريخ.
لم تكن لديهم ذكريات عن الماضي، ولا خطط للمستقبل، وكان الحاضر هو كل شيء بالنسبة لهم. كانوا حرفيًا أيتامَ الحرب، بلا جذور ولا استقرار، عاطلين عن العمل ومحرومين اقتصاديًا، مع وعي ذاتي ضئيل. كانوا يعجبون بالحرب لأنها المهنة الوحيدة التي يمكنهم التكيف معها. وكان إيمانهم البسيط بإسلام مهدوي متشدد، غُرس فيهم على أيدي مولويين قرويين بسطاء، هو الدعامة الوحيدة التي يتشبثون بها والتي منحت حياتهم شيئًا من المعنى. لم يتلقوا أي تدريب على أي عمل، حتى المهن التقليدية لآبائهم مثل الزراعة أو الرعي أو صناعة الحرف اليدوية. لقد كانوا ما كان كارل ماركس سيصفه بـ “البروليتاريا الرثة” في أفغانستان.
وفوق ذلك، فقد اجتمعوا طوعًا تحت لواء « الأخوية الذكورية » التي سعى قادة طالبان إلى إنشائها، لأنهم لم يعرفوا شيئًا آخر. كان كثير منهم أيتامًا نشأوا دون نساء – أمهات أو أخوات أو قريبات (لاحقاً، في “إدلب”، تفيد إحصاءات أنه كان هنالك 300 ألف “يتيم”، وكان رُبع السكان من “اللاجئين” من مناطق سورية اخرى!). والبعض الآخر كانوا طلاب مدارس دينية أو عاشوا في المخيمات التي تُطبق فيها عزلة صارمة، حيث كانت حركة النساء محدودة حتى بالمقارنة مع معايير المجتمع القبلي البشتوني المحافظ، حيث كانت القرى أو المعسكرات البدوية مجتمعات مترابطة يختلط فيها الرجال مع قريباتهم من النساء. أما هؤلاء الفتية، فقد عاشوا حياة خشنة وقاسية. ببساطة ، لم يعرفوا صحبة النساء.
كان المولويون الذين علموهم يؤكدون أن النساء مصدر فتنة، وتشتيت غير ضروري عن خدمة الله. لذلك، عندما دخلت طالبان قندهار وفرضت على النساء البقاء في منازلهن، ومنعتهن من العمل أو الدراسة أو حتى التسوق، لم يرَ غالبية هؤلاء الفتية القادمين من المدارس الدينية في ذلك أمرًا غريبًا.
كانوا يشعرون بالتهديد من نصف الجنس البشري الذي لم يعرفوه قط، وكان من الأسهل بكثير إقصاء ذلك النصف. خاصة إذا كان الأمر موجهًا من قبل المولويين الذين استندوا إلى أحكام بدائية لا أساس لها في الشريعة الإسلامية. وهكذا أصبحت السيطرة على النساء مهمة “المؤمن الحق“، وعلامة أساسية تميز طالبان عن المجاهدين السابقين.
لقد قدمت هذه “الأخوّية الذكورية” لهؤلاء الشباب ليس فقط قضية دينية يقاتلون من أجلها، بل أسلوب حياة كاملًا يجدون من خلاله معنى لوجودهم. والمفارقة أن طالبان كانت تمثل عودة مباشرة إلى النظم العسكرية الدينية التي نشأت في العالم المسيحي خلال الحروب الصليبية لمقاتلة الإسلام – منضبطة، متحمسة، وشرسة في تحقيق أهدافها. وفي الأشهر الأولى، خلقت انتصارات طالبان السريعة أسطورة كاملة عن عدم قابليتها للهزيمة، وكأنها لا تتحقق إلا لجنود الله. وفي تلك الأيام المفعمة بالنشوة، كان كل انتصار جديد يعزز قناعتهم بأن الله معهم، وأن تفسيرهم للإسلام هو التفسير الوحيد الصحيح.
أعداد « الطالبان » عند استيلائهم على « قندهار » كانت ربما 30 ألف مقاتل، بينهم ألوف من الجنود الباكستانيين من القوات الخاصة. أعداد “هيئة تحرير الشام” عند سقوط الأسد كانت حوالي 20 الفاً، بينهم 5000 من الإيغور والشيشان والعرب.
لماذا رحّب شعب أفغانستان، عموماً، باستيلاء “طالبان” على كابول في العام 1996؟ لأن قادة “المجاهدين”، باستثناء “أحمد شاه مسعود” وحفنة آخرين، تحوّلوا إلى قادة ميليشيات يفرضون خُوّات على الشاحنات ويشتبكون بين بعضهم حول من منهم يحق له اغتصاب القاصرات والغلِمان! بالمثل، سيرحّب السوريون عموماً، بعد 28 سنة، باستيلاء “هيئة تحرير الشام”، المُهَمّشة في “إدلب”، على دمشق (في عملية غير مفهومة حتى الأن!) لأن سوريا كانت قد وصلت إلى حالة موت مُعلَن من غير أن تكون أي من القوى التي تمرّدت على بشار الأسد قادرة على الحسم.
هيئة تحرير الشام
سأعتمد هنا دراسة جيدة جداً نشرتها « المجلة » بقلم عباس شريفة في 8 فبراير 2025. وتلتقي معلومات مقال « المجلة » مع معلومات غربية موثوقة تجزم بأن تعاون أحمد الشرع مع الأميركيين بدأ قبل حوالي 8 سنوات، وأن الشرع زوّد الأميركيين بكل ما يملك من معلومات حول تنظيمي « داعش » و « القاعدة ».
بدأت هذه المرحلة مع تأسيس الشرع لـ“تحرير الشام” في 28 يوليو/تموز 2016 وهو تشكيل ضم عددا من الفصائل مثل “حركة نور الدين الزنكي وجيش الأحرار (= الإخوان المسلمين’ وحركة الفجر ولواء الحق“.
وبذلك أنهت “تحرير الشام” تبعيتها الفكرية للسلفية الجهادية ولم تعد شخصيات مثل المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني يشكلان أي تأثير شرعي في توجهاتها وقراراتها وفي هذه الفترة بدأت “هيئة تحرير الشام” تغيير خطابها الشرعي، قاطعة بذلك مع نهج “القاعدة” و“السلفية الجهادية“، متجهة إلى الحديث عن مرجعية المذاهب الأربعة الفقهية والاعتماد على العناصر السورية في المواقع القيادية والشرعية المتقدمة.
المرحلة الرابعة والتحول السياسي
بدأت هذه المرحلة تبدو ملامحها مع تشكيل “هيئة تحرير الشام” لحكومة الإنقاذ في شمال غربي سوريا، بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2017. مستعينة بشخصيات تكنوقراط مستقلة من خارج تنظيم “هيئة تحرير الشام” لتقديم الخدمات في منطقة شمال غربي سوريا كما عملت في حينها على استقطاب أكبر عدد ممكن من الناشطين والإعلاميين الذين يحظون بقبول شعبي، كما وافقت على إدخال نقاط المراقبة التركية إلى مناطق سيطرتها في أكتوبر/تشرين الأول 2017 وأرست الإدارة السياسية برئاسة أسعد الشيباني وهو ما فتح المجال لعلاقات راسخة بين تركيا و“تحرير الشام” ومع الكثير من الدول التي بدأت تتواصل معها.
ثانيا: العقيدة السياسية والعسكرية
في الوثائقي الأميركي الذي حمل اسم “الجهادي“، الذي أنتجه الإعلامي الأميركي مارتن سميث بداية شهر يونيو/حزيران 2021 اعتبر أحمد الشرع أن نهج تنظيم “القاعدة” نهج خاطئ ومنحرف وأن أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2000 جريمة مرفوضة، وتنظيم “داعش” تنظيم محظور في مناطق سيطرة “تحرير الشام” بمنطقة شمال غربي سوريا و“هيئة تحرير الشام” هي من تقوم بقتاله في إدلب اليوم كما اعتبر وضع “هيئة تحرير الشام” على قوائم الإرهاب مجرد تصنيف سياسي وأن السعي في إزالته واجب شرعي.
كما تحدث أحمد الشرع عن المصالح المشتركة والمهمة مع الولايات المتحدة والغرب.
كما أعاد الشرع تعريف ما يجري في سوريا بأنه ثورة شعبية ضد نظام سفاح مجرم وليس تجربة جهادية، وبات علم الثورة هو العلم المرفوع في مظاهرات إدلب بعد منعه لسنوات.
لم تقم “هيئة تحرير الشام » بأي نشاط عسكري أو أمني خارج الحدود السورية.. رغم وجود عناصر أجنبية في صفوفها لا يتجاوز عددهم 5 آلاف مقاتل من أصل 18 ألف مقاتل سوري محلي، والقسم الأكبر من هؤلاء المقاتلين هم من قومية الإيغور والباقي من مختلف الدول العربية والإسلامية بعدد قليل جدا.
كما أن منهجها الفكري بات يستند إلى فهم معتدل للإسلام ينفتح على كل المدراس الفقهية ولا ينحصر في منهج “السلفية الجهادية“.
نقطتان أخيرتان:
أولاً، حتى 11 سبتمبر 2001، كان الأميركيون، ومعهم فرنسا، يفضّلون الانفتاح على « الطالبان » والتفاوض معهم على التحالف مع أحمد شاه مسعود! زار مسعود فرنسا في شهر نيسان/أبريل 2001 (بدعوة من البرلمان الأوروبي وليس من وزير خارجية فرنسا المتأمرك « أوبير فيدرين » الذي « امتعض » من الزيارة) وطلب « منحاً دراسية » للطاجيك الأفغان فلم توافق باريس! قال لي « عبدالله عبدالله »، في الزيارة نفسها: « طلبنا من الأميركيين طائرة استطلاع صغيرة تسمح بمتابعة تحركات بن لادن والطالبان، لكنهم رفضوا »!
ثانياً، وهذه نقطة غير معروفة اكتشفتها مؤخراً بفضل « قيادي سلفي جهادي » لم يشأ الإفصاح عن إسمه: لم تكن حركة « طالبان » حركة « سلفية » كما تراءى للناس بسبب وجود بن لادن والظواهري تحت حمايتها! « الطالبان » (باستثناء « جماعة حقاني » السَلَفية التي انضممت للطالبان عسكرياً وسياسياً فقط) هم من « الديوبندية »، ويقول عنهم مصدر سلفي: « علماء ديوبند مسلمون ديناً، وأهل سنّة وجماعة فرقةً، وأحناف مذهباً، وصوفية سلوكاً، و « ماتريديون » عقيدة، و « جشتيون » طريقة ».

ويضيف: « وبلغ بهم الحال إلى أنهم وجهوا سهام الطعن والإفتراء إلى كل من شيخ الإسلام تقي الدين أحمد إبن تيمية، والإمام أبن القيم، والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب… » . ويضيف « ضيف: « وأشربوا في قلوبهم عقيدة وحدة الوجود »!! وهذا كله يبرّر رفع سيف « السلفية » عليهم.
كيف تعايش معهم الظواهري وبن لادن إذاًّ؟ يجيب مصدرنا: « الملا عمر كان شخصية استثنائية، ومتسامحاً »!!
أما عن مذهب الرئيس الموقت أحمد الشرع فقد عرضناه أعلاه.
في الحالتين، ليس « الطالبان » ولا « هيئة تحرير الشام » أُسودَ الإسلام السنّي “التقليدي” أو “السلفي” الذي يروّج له المحللون العرب الذين يرفعون كل يوم راية « الأكثرية » السنّية ضد ما يسمّونه « حكم الأقليات البائد »! باستثناء حكم الأسدين(العلوي، نظرياً فقط) ونظام صدام (« السُنّي، نظرياً فقط)، تحكم الأكثريات السنّية مصر والجزائر والمغرب وتونس وليبيا والسودان ودول الخليج كلها!!
كما يقول المثل البيروتي « روق يا فاروق »!!
(يَتبع)
أقرأ الحلقة الأولى هنا:
إلى د. رَضوان السيّد: ديمقراطية سوريا.. واستقلال لبنان!
***



شعب بيلبقلو هيك مناظر