في غابة الانتحاريين، بحثاً عن معنى لما يفعلون

2

ثمة واقعة ربما شكلت محطة تحول في اهتمامي بالعمل الانتحاري. كان ذلك في بغداد مطلع العام 2004. وصلنا صباحاً الى مكتب الحياة في منطقة الكرادة، وبعد وقت قصير اتصل زميل من وكالة الصحافة الفرنسية وابلغنا بأن خمسة انتحاريين قاموا بتفجير أنفسهم بالقرب من مرقد الأمام الكاظم في منطقة الكاظمية، وهي إحدى ضواحي بغداد. توجهت مباشرة برفقة سائق عراقي الى الكاظمية التي سبق ان زرتها اكثر من مرة. طبعاً كان الوصول الى المنطقة بالسيارة متعذراً بسبب الإجراءات الأمنية. قطعت مسافة نحو 500 متر سيراً الى ان وصلت الى منزل رئيس سدنة المرقد السيد حسين الصدر الذي سبق ان زرته، واكتشفنا في تلك الزيارة ان ثمة قرابة تربطنا. سمحت لي هذه القرابة غير المثبتة بتخطي حواجز المسلحين على مدخل منزله والوصول الى الديوان الذي كان يعج بمسلحين يصرخون ويبكون. تمكنت من الاختلاء بشقيق السيد الذي روى لي كيف تمكن الانتحاريون من الوصول الى الجدار الخارجي للمرقد وتمكن أربعة منهم من تفجير أنفسهم بالزوار، في حين فشل الخامس بسبب عطل في حزامه الناسف، فألقي القبض عليه وهو في حالة إغماء كامل. سألت شقيق السيد: اين هو الآن وما هي جنسيته، قال انه يمني، وقد قتله الشباب بعد دقائق من استيقاظه من إغماءته. سألت اكثر فشرح ان الرجل وما ان فتح عينيه حتى شاهد السيد حسين بلحيته الطويلة البيضاء وعمامته السوداء، وأعتقد أنه في الجنة بين يدي الله وراح يصرخ «الله اكبر» فما كان من الشباب إلا ان أخرجوه من المنزل وبعد قليل وصلنا خبر انهم قتلوه.

كانت أسباب غضب الرجال في منزل السيد حسين لا تقتصر على فقدهم أقارب وجيران سقطوا في العملية الانتحارية، انما اعتقاد أحدٍ بأن قتله لهم سيدخله الجنة، هم الذين يمضون معظم أوقاتهم في الصلاة والتقرب الى الله. كان العراقيون في ذلك الوقت جديدي عهد بالعمليات الانتحارية. وكان هذا موتاً لم يألفوه.

محطتي التالية مع الانتحاريين هي لقائي بقيس إبراهيم: عراقي كردي من جماعة أنصار الإسلام حاول قتل نائب رئيس الحكومة العراقية برهم صالح بعملية انتحارية، والقي القبض عليه قبل تنفيذها. أمضيت مع قيس في سجن الأساييش في مدينة السليمانية الكردية العراقية نهاراً كاملاً حدثني من دون تردد ومن دون إبداء أي شعور بالندم عن كل ما اقدم او كان ينوي الأقدام عليه. أجاب بعربية فصيحة ومتينة عن كل الأسئلة هو الكردي الذي لا يرطن أبناء جيله بهذه اللغة. وما ارغب في استعادته من أقواله هنا إجابته عن اسئلتي حول مشاعره حيال أهله وعائلته، إذ قال لي: «لا أرغب بالحديث عن عائلتي التي تنتابني حيالها مشاعر متناقضة، فأخاف ان تأخذني الشفقة بهم فأخطئ ديني. شقيقي يعمل ضابطاً في شرطة الحزب الديموقراطي الكردستاني، وأنا كنت في جماعتي من دعاة قتال هذا الحزب وعدم قصر القتال على الاتحاد الوطني الكردستاني. ولطالما تراءى لي شقيقي هدفاً أفرح به لولا ان الشيطان كان يقف على حافة مشاعري فيحركها وأضعف حياله».

المحطة الثالثة التي ارغب في الإشارة اليها هنا تتناول إجابات انتحاري سعودي يدعى فهد الفهيقي فشل في تفجير معبر الكرامة على الحدود العراقية الأردنية وألقت السلطات الأردنية القبض عليه وحكمت عليه محكمة أردنية بالإعدام. إجاباته كانت رداً على أسئلة وجهها إليه صحافيون قبل إصدار الحكم بدقائق، وتتعلق بمشاعره حيال قتل أبرياء، فقال: «نحاول عدم قتل مسلمين والعمليات تدرس بعناية. أنا لا أضحي بنفسي لقتل أميركي واحد ومعه عشرة مسلمين. أما إذا صودف وجود مسلمين في مكان العملية فينطبق عليهم حكم التترس». انتهى كلام الفهيقي… ولكن اشارته الى حكم التترس، يعني جواز الأحتماء بالمسلمين او قتلهم في سبيل تحقيق اهداف «جهادية» وهو حكم معتمد من قبل الكثير من الجماعات السلفية الجهادية.

تواجه متقصي هويات الانتحاريين العرب والمسلمين في بلاد الله الواسعة في كل مرة معضلة جديدة. فهوية كل انتحاري تضفي على الظاهرة مزيداً من الغموض، ليس بسبب تعثر جمعها وإنما لما تحمله من مكونات جديدة إذا ما أضيفت الى مجمل عناصر الظاهرة ادت الى تعقيدها.

الإجابات التقليدية ما عادت تكفي. القول مثلاً ان الانتحاري شاب دون الخامسة والعشرين، تنفيه عشرات الأمثلة، أما أن يحال فعله الى البيئة التي صدر منها، فذلك يدعو الى التساؤل عن أسباب اقدام هذا الشاب دون غيره على الهمل الأنتحاري، ثم ماذا عن بيئات أخرى لا تمت إليه بصلة لكنها لم تبخل بتقديم شبان آخرين الى موقد الظاهرة.

جميع الأجوبة جُربت ولم تصمد أمام التنوع الهائل لمصادر الانتحاريين وهوياتهم. «من هو الانتحاري؟» سؤال يبحث العالم كله عن إجابة له. العودة بالظاهرة الى بداياتها سينقلنا الى ميدان آخر قد لا أكون مفيداً فيه، فأنا صحافي أرسلتني صحيفتي الى بلاد الأنتحاريين الجدد، أفغانستان وباكستان والعراق وكردستان والأردن واليمن، وهذه البلاد هي وجهة الانتحاريين وليست مصدرهم الوحيد. ولا ادعي انني عدت بجواب عن ذلك السؤال على رغم أيام وأشهر أمضيتها في تعقب سيرهم والوقوف على أحوالهم، وعلى رغم مقابلتي في السجون لأكثر من شاب حاول ان يفجر نفسه وفشل. فقد التقيت في السجن بمن قال لي انه سيعيد محاولة تفجير نفسه ما ان يخرج من السجن، والتقيت بمن قال انه نادم وان الله أنقذه عندما أوقف عمل الحزام الناسف الذي كان يرتديه، وثالث قال انه غير نادم على رغم انه غير حزين لنجاته.

ومثلما لا تلتقي هذه الإجابات عند قناعة واحدة لا تلتقي سير الانتحاريين الذين تعقبتهم. فمن قادم من أوروبا الى قادمين من السعودية والمغرب العربي، ثم المشارقة. ومن متوسط الحال الى منعدمه، ومن المتعلم الى الأمي. ومن أبناء أحزمة المدن العربية الى أبناء البادية ثم الأرياف، وصولاً الى الانتحاري الحديث الملم بعلوم الكومبيوتر والاتصالات. وتتعاظم المعطيات الى أن يجد المرء نفسه أمام حقائق مخيفة، فيقول لنفسه: الانتحاري شخص عادي، مثلي تماماً. هو اقدم على ما اقدم عليه بفعل وقائع وظروف شبيهة بتلك التي تحيط بي. ما الفارق بيني وبينه؟ متى سأجد نفسي مزنراً بحزام ناسف؟

وبسبب هذا التشابه وهذه الشبهة سأسمح لنفسي أحياناً باستعمال ضمير المتكلم، في سياق تقديمي للظاهرة بصفتها جزءاً من مساهمتنا جميعاً في تاريخنا الحديث.

«الهدف ليس مهماً» إنها واحدة من الخلاصات السريعة يخرج بها متعقب أفعال الانتحاريين، بل المهم هو وقع ما اقدموا عليه. مئات العمليات الانتحارية كانت أهدافها بلا قيمة سياسية سوى القتل. استهداف مستشفى للأمراض العقلية في بغداد، أو باص لنقل الطلاب في مدينة بيشاور الباكستانية. تكمن القيمة السياسية لهذه الأعمال في حدث القتل نفسه. قتل مجرد من أي ادعاء. وعلى رغم ذلك ترانا ذاهبين إليه ومقدمون عليه.

العينات الثلاث التي استعرضنا بعضاً من حكاياتها تنتمي الى زمن انتحاري واحد، وربما كان من المفيد، ان نستبدل ميلنا الى البحث عن هوية الانتحاري انطلاقاً من جنسيته وعمره وظروف عيشه بالبحث عن زمنه. وأثبتت الملاحظة على الأقل ان موجات الانتحاريين تحمل قسمات زمن هذه الموجات. فبين 2004 و2005 تعاظم دور الأردنيين والفلسطينيين، فيما اعتبر 2006 عام السعوديين، اما 2007 فكان عام المغاربيين. ونحن نتحدث هنا عن العراق طبعاً بصفته المسرح الأول في العالم لهذا النوع من الرقص الدموي. ثم ان هناك تفاوتاً هندسياً داخل الموجة الواحدة من الانتحاريين، فبعد ان كان للجزائريين قصب السبق المغاربي في إرسال الانتحاريين الى العراق بين 2005 و2006، عادت ليبيا لتفوز به في 2007.

وأقول ان للعمل الانتحاري زمنه الذي ربما يجب الاعتماد عليه في تفسير الظاهرة لأن الزمن ليس هواء ولا جماداً إنما وقائع وظروف. فما الذي أتى بنحو 175 ليبياً في 2007 الى العراق؟ لماذا لم يأتو قبل هذا التاريخ أو بعده؟

وأخيراً وفي سياق التحقيب الزمني للظاهرة، نشهد اليوم زمن الانتحاريات اللواتي باشرن الانخراط في جيش الانتحاريين، بدءاً بالعراقية ساجدة الريشاوي والبلجيكية الفلامنكـــية مورييل ديغوك، ووصــــولاً الى انتحاريات المسجد الأحمر في إسلام آباد اللواتي نفذن حتى الآن اكثر من عشر عمليات في نواح مختلفة من باكستان. وانتحاريات المسجد الأحمر هم ناجيات من عملية اقتحامه في العام الماضي حيث قتل منهن نحو 1000 امرأة كن طالبات في مدرسة حفصة التابعة للمسجد. لم يدم الأمر طويلاً. ما هي الا اشهر حتى بدأت نساء بشتونيات ناجيات بتنفيذ عمليات انتحارية في اهداف عسكرية ومدنية في باكستان. الأنتقال من كونهن نساء مستضعفات في بيئة تقليدية شديدة العداء للمرأة، الى نساء قاتلات ومقتولات. اشهر قليلة فقط احتاجها هذا التحول، حتى يكاد المرء يشعر هذا الأنتقال وبائي اكثر منه سياسي او ديني.

وأورد هنا وفي سياق تثبيت الزمن بصفته علامة أكيدة في تحديد هوية الانتحاريين والانتحاريات إجابة حصلت عليها في العام 2005 من أحد المسؤولين عن مكافحة الإرهاب في إحدى الدول العربية، عندما سألته عن تفسيره لعدم وجود نساء بين أعضاء الشبكات الإرهابية في حينها، قال في ما حرفيته: نحن في الأجهزة الأمنية نلعب مع هذه الشبكات على المكشوف. ثمة رسائل متبادلة بيننا وبينهم. سبق ان بعثت برسالة مباشرة الى الجماعات السلفية الجهادية، مفادها ان اكتشافنا لنساء يعملن في هذه الشبكات سيؤدي الى تجريدنا حملات اعتقال تطال نساء معظم الفارين والمختبئين والمعتقلين». وأضاف المسؤول «اعتقد انهم يرتعدون من فكرة اعتقال نسائهم وهذا ما يفسر إحجامهم عن إشراك النساء في أنشطتهم».

هذا الكلام يعود الى 2005. أما اليوم فثمة كلام مغاير. على الأقل هناك معسكر في اقليم الحدود الباكستاني، تتدرب فيه اكثر من 200 امرأة على كيفية ارتداء الحزام الناسف وتفجيره.

* كاتب وصحافي في «الحياة»، والمنشور أعلاه ورقة قدمت في ندوة حول العمليات الانتحارية ضمن مهرجان مؤسّسة «أشكال ألوان» في بيروت.

الحياة

http://www.daralhayat.com/opinion/ideas/04-2008/Item-20080416-57d52dbb-c0a8-10ed-01e2-5c7300688799/story.html

2 تعليقات
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
عمر عثمان حسين العلي
عمر عثمان حسين العلي
16 سنوات

في غابة الانتحاريين، بحثاً عن معنى لما يفعلون
لا أعرف لماذا لا يتناول شيعي واحد شريف تحليل نفسية صولاغ الذي مارس في وزارة الداخلية ثقب الرؤوس بالدريل وتعذيب الأبرياء وقتلهم ورميهم على المزابل .. لم لا يتناول ذلك أحد بينما قام الأمريكان بالحديث عن خرق وزارة الداخلية لحقوق الانسان…؟؟؟؟

أنّ أغلب التحليلات للأنتحاريين الذين يمارسون رد فعل على محتل أو طائفي أرهابي في المنطقة الخضراء هي تحليلات عوراء ترى أرهاب السنة لكنها تتسامح مع ارهاب الشيعة… فكونوا عادلين وفقكم الله لكي نحمل تحليلاتكم محمل الجد…

عمر عثمان العلي
عمر عثمان العلي
16 سنوات

عندما يحلّل العقل الطائفي العلماني الأعوار الأنتحار السني فقط دون الأرهاب الشيعيمن المؤسف جدا أنّ النقد الذي يوجهه الكاتب حازم الأمين الى الانتحاريين نقد طائفي لانّ عيناته هي عينات سنية وهابية فقط كما معروف من السياق. أنّ نقدا كهذا لا يكون له تأثير أيجابي اذا لا يتناول الأنتحاريين الأمريكان الذين قدموا الى العراق. فكلّ أمريكي من المرتزقة هو انتحاري لانه يعرف انه يخاطر بحياته كلّ لحظة. أن كان الانتحاري الوهابي يتوهم الجنة فأن المرتزق الامريكي يعرف أنّ مهمته القتل والظلم وانّ نهايته جهنم وبئس المصير. مع انّ حازم الأمين سيقول ان الامر يختلف لان انتحارييه سنه وشهدائه وابطاله انتحاريين شيعة.… قراءة المزيد ..

Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading