في الكتاب الجديد للكاتبة العراقية فاطمة المحسن، «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث» (الجمل، 2010)، مجال واسع للتأمل والسجال والمقارنة، تغطّي زمن نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، متناولةً الشعراء والروائيين والمصلحين والمؤرخين الذين حملوا مشروعاً فكريا أو أدبيا «تنويريا» أو «نهضويا»؛ كلٌ بحسب تاريخه الشخصي وثقافته الحداثية وتنوّع وسائطها.
ثمة زخم عراقي في أفكار هؤلاء الكتاب، فضلا عن الشغف والحماسة.
لذلك كان لا بد من اختيار نقاط بعينها، لو أردنا الافادة في تناول الكتاب. أول النقاط هي دور تركيا «الحديثة» في النهضة العراقية. تتوقف الكاتبة عند مراحل النهضة المختلفة، وتصف حقباتها الاربع. ثلاث منها ذات هوى تركي، وكذلك وسائطها. الأولى، بقيادة داود باشا، «آخر المماليك في العراق»، التواق الى نظام يشبه ذاك الذي اقامته الخديوية المصرية. وهي حقبة مستوحاة من مطالب الافغاني الى السلطان عبد الحميد: «السلطنة العثمانية تتألف اليوم من ثلاثين ولاية، فلنبدأ بالبعيد منها».
الحقبة الثانية بطلها مدحت باشا وكان مشروعه «دمج العراق بالمشروع العثماني الحداثي». ومن خطابه الأول، غير المنفصل عن العثمانية، شاعت مفردات الثورة الفرنسية، ومنها فكرتا الحرية والمساواة. الحقبة الثالثة، اعلان دستور 1908، لم تكن سوى تتويج للجهود النهضوية التي بذلها مدحت باشا لتحديث الامبرطورية العثمانية. الحقبة الرابعة، نهضة فيصل الاستقلالية عن الامبرطورية العثمانية عام 1921 التي انتهت فيها الوساطة العثمانية بين العراق والغرب، وتأسست الدولة والهوية العراقيتان اثناءها. الانفصال العراقي عن الامبرطورية تم بمساعدة البريطانيين، فكان لا بد من الاحتلال البريطاني، وبداية عصر مقاومته.
طوال الحقبات الثلاث الاولى من النهضة، كانت السلطنة العثمانية مصدرا أساسيا من مصادر الاحتكاك بثقافة الغرب وتصوراته. لذلك، فان «صدمة» العراق بالحضارة الغربية لم تكن كغيرها من «الصدمات» العربية السابقة لها. فحملة نابوليون على مصر وبلاد الشام أدّت الى قلبهما رأسا على عقب. وسميت آثار حملته بالـ«صدمة»؛ بالرغم من كل الارهاصات التي سبقتها، مثل البعثات الدينية والمطبعة و«التتنظيمات» العثمانية التي منحت المسيحيين واليهود حرية الانتقال نحو الغرب والتأثر بمنجزاته. أما «الصدمة» الحضارية في العراق في ظل العهد العثماني فخلقت حركة أفكار «محكومة بطابع الخوف من الاستمرار، ويعيقها التردّد وما تحفل به من فراغات معرفية حتى في درسها الديني». هذا الوصف لحال النهضة في ظل الهيمنة العثمانية، هذه الاشارة الى «فراغات معرفية» أثناء عملية حصولها يحيلنا الى اولى مقارناتنا، ويدفع الى التساؤل: هل الفراغات المعرفية كانت عائدة الى طبيعة «الحداثة» الآتية من تركيا؟ والتي قد تتصور الكاتبة انها غير موجودة في «الحداثات» التي أتتْ بعد احتكاك مباشر مع مصدرها، أي الغرب؟ هل كان ممكنا أن تكون غير ذلك وسط صخب التاريخ؟ الفراغات المعرفية هي ربما واحدة من الخصائص المشتركة بين هذه الحداثات العربية المختلفة. لهذا النقاش تتمة…
وما قد يعطي لهذا النقاش مادة دسمة اضافية هو أحد رواد النهضة العراقية، معروف الرصافي، صاحب المؤلف الضخم «كتاب الشخصية المحمدية». هذا الكتاب هو رواية عقلانية مؤمنة لأهم قصص الرسالة المحمدية، «أجرأ نص عربي في الاسلام والنبوة»، يتفوق فيه «على شيوخ الاسلام النهضويين في محاولتهم ردم الهوة بين العقل والنقل في الثقافة الاسلامية». «حتى علي عبد الرازق نفسه لم يتعرض الى سؤال يخص النص الديني نفسه» تتابع الكاتبة. وقد عانى حين صدور كتابه الثاني سخط رجال الدين الذين هددوه بالقتل. فاستطلع مدير الاوقاف أمر الكتاب لدى اختصاصيين، فأجاب هؤلاء بأن الرصافي يظهر ايمانه برسول الله وبما جاء في القرآن، وهذا كافٍ. كل هذه الاشارات والرصافي عثماني الهوى، لا غربيّه، متأرجح بين «الثقافتين التركية والعربية»، لا بين الثقافتين العربية والغربية… اسطنبول في زمانه عاصمة الثقافة التي تترجم انتاجات الغرب. والعيش فيها هي لحظة ثقافية فارقة، «صدمة» غالبا، ولكنها أقل تعقيداً، ربما لأنها تحصل في «ديار اسلامية»، لم تطأها بعد الجيوش الغربية. والمختلف في هكذا حداثة كما تصفها الكاتبة: مهمة الحداثيين الاتراك هو إدراجها، أي الحداثة، ضمن خطة عصرية في الدولة العثمانية، بهمّة الحداثيين الأتراك. معروف الرصافي عاش عقدا من الزمن في اسطنبول وعاد الى بغداد بعد ان أصبحت بدورها دولة يحتلها البريطانيون، فكانت خلفية نتاجه مناهضة لهذا الاحتلال وولاء للامبرطورية العثمانية. ان قوة وفرادة كتابه الاساسي، « كتاب الشخصية المحمدية» عائد الى نوعية رؤية الرصافي الحداثية: ولاء سياسي للدولة التي أمدّته بالمفاهيم والمقولات، فجعلته رائداً نهضويا. هل كان لهذه العلاقة الخاصة بتركيا أثر على مجمل رؤيته النهضوية للرسالة المحمدية؟ هل أنتجت حداثة عربية كاتبا على هذه الدرجة من الاندماج اليسير مع ثقافته والانفصال عنها في آن؟
نقطة أخرى: على مدى صفحات الكتاب تقيم الكاتبة مقارنة بين نهضة مصر ونهضوييها، وينطبق ذلك بدرجة أقل بين نهضة سوريا ولبنان، ونهضة العراق. مقارنة بين المصادر، بين أشكال الروايات ومضامينها، بين الشعر والشعراء، بين طرق الاشتغال بالتراث، بين الاقليات المسيحية واليهوية الخ. لم تكن مصر أقل من تركيا حداثة في ذاك الوقت. بل انها سبقتها في بعض المناحي بعد اصلاحات محمد على باشا الحداثية. مصر عرفت الغرب، بنَت مؤسساتها النهضوية، برلمانها ووزاراتها ودولتها، وأرسلت بعثات تعليمية الى الغرب، وعرفت قبل غيرها أنواعا ثقافية جديدة هي نتاج التثاقف المرّ مع أفكار التقدم والتنوير. سبقت مصر دول المنطقة بقرن ويزيد. فكانت المرجع لحقبة من الزمن لكل من يود مواكبة النهضة. اما «بلاد الشام»، اي سوريا ولبنان، فهي ايضا نقطة استدلال، خاصة في ما يتعلق بدور النهضويين المسيحيين فيها، وكانوا على نفس الوتيرة الزمنية التي كانت فيها مصر، ولكن وسائطها وطرقها اختلفت. الكاتبة تغريك هنا أيضا بالمزيد من المقارنة. حسناً، تود ان تقول، ما هو الوصف المقارن الدقيق لهذه النهضات المتقاربة المتباعدة؟ ما هي مساراتها؟ ما هي نتائجها على بنى السياسة والاجتماع فيها؟ أي، هل تختلف النتيجة؟ أين تختلف حداثة لبنان عن حداثة مصر عن حداثة العراق؟ حداثة اليوم وحداثة الأمس؟ وما هي بالضبط مواضع هذا الاختلاف؟ والأكثر راهنية من كل ذلك، ما الذي جعل مصر، قائدة النهضة العربية بالأمس، طرفا عربياً هشّا وثانوياً اليوم؟
النقطة الاخيرة: هناك ملاحظات متناثرة توردها الكاتبة عن الحداثة العربية، تغري أيضا بالنقاش: تصف في احدى صفحاتها الحداثة في العراق فتقول ان المجتمع «لم تدخله الحداثة بمعناها الغربي، لكن تأثيراتها أنتجت ثقافته». الشق الثاني من هذه الصيغة يمكن الموافقة عليه، مع شيء من ضرورة الاستزادة. ولكن الشق الاول ينطوي ربما على رغبة دفينة… من قولنا ليت الحال كان كذلك، أي ليت المجتمع العراقي دخلته الحداثة بمعناها الغربي، ما يولّد اسئلة: كيف تكون الحداثة بمعناها الغربي؟ هل بوسعها حقيقة ان تكون كذلك، ولورغب ابطالها وانصارها؟ أو، هل يتوجب عليها ان تكون ذات معنى غربي؟
بعد ذلك، تصف الكاتبة الارتباك الذهني الذي نتجَ عن التواريخ المتضاربة لوصول المفاهيم النهضوية الجديدة، وتتساءل عن تسمية هؤلاء المفكرين أنفسهم بالـ«النهضويين»: «أليس في اختيارهم ما يشير الى اعتقادهم بأن نهضتهم تشبه نهضة الغربيين من حيث طابعها؟» الكتاب يزخر بهكذا تساؤلات تشير الى موقف نقدي للكاتبة من رجالات النهضة، ومن النهضة نفسها، التي قضت على الثقافة الشفاهية المحكية، وكرّست النحوية الكلاسيكية. وذلك اعتقادا منها، أو من فكرتها البديهية بـ«ضرورة تقليد الأوروبيين الذين ارتبطت فكرة نشأة الدولة الحديثة عندهم بانتهاء العمل باللاتينية». وكأن العربية المحكية هي لغة اخرى غير العربية، أو هينظيرة اللاتينية. هنا، ربما، نضع اصبعا على افتقاد النحوية العربية الى حيوية الواقع المحكية؛ اذ عوملت هذه الأخيرة منذ النهضة وكأنها لغة أخرى…
لا يمكن الاحاطة بكل التفاصيل الممتعة في كتاب فاطمة المحسن: مثل وصفها لدور رجال الدين، لدور المقاهي، ولعلاقة الرواد بالمرأة، نظريا وعمليا، ولمثلية بعض النهوضويين، الداخلة في صميم بعض التقاليد العراقية. كتاب دسم ومثير، كتب بلغة مسبوكة، وأفق نقدي يحرّض على نقد الحداثة نفسها، على نقد دوغما التقدّم الذي تنطوي عليه.
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية
نُشِرَ هذا الموضوع في جريدة “المستقبل” البيروتية