إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
بعد أن قام بعضُ المفكرين السوريين بإعادة طرح النظرية الخاطئة والتي يكون ًبموجبها لبنان جزءاً “مبتوراً” من الجمهورية السورية، يُترجم “الشفاف” نسخة منقّحة من مقال نُشِرَ في صحيفة “لوريان-لوجور” عام 2018 يبيِّن عدم صحة هذا الطَرح وأحقية لبنان في مطالبته بالتراث السرياني/السوري مع أنه لم يكن يوماً جزءاً من الجمهورية السوريّة الحالية.
*
في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943، أي بعد ربعِ قرن من استسلام الإمبراطورية العثمانية وإنزال الفرنسيين في بيروت، أعلن لبنان استقلاله وأصبح بذلك دولةً ذات سيادة، وأحد مؤسسي الأمم المتحدة عام ١٩٤٥.
لكن الجمهورية السوريّة قامت بمنازعة استقلال وسيادة لبنان، بل واحتلّت بلد الأرز لما يقارب الثلاثين عامًا، وانتظرت حتى عام 2008 لإقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين.
عارضت استقلال لبنان أيضاً بعض التيارات السياسية في لبنان نفسه والتي ذهبت حتى للدعوة لضم البلد إلى جارته.
تنازعت نظريتان متعارضتان العلاقة التاريخية بين ما أصبح الحمهورية اللبنانية والجمهورية السورية، وتجلّى هذا التعارض خلال عملية تفكيك الإمبراطورية العثمانية، من خلال الوفود الحاضرة في مؤتمر باريس للسلام (1919).
وفقاً للنظرية الأولى، كان لبنان الحالي دائماً جزءاً لا يتجزأ من سوريّا، لكن الاستعمار الفرنسي بَتَرهُ عنها وجعل منه دولة مختلفة. دافع عن وجهة النظر هذه، بمضامين سياسية وجغرافية مختلفة، العروبيون مثل أنصار الحسين بن علي، شريف مكة، أو فيما بعد، مؤسسو حزب البعث مثل ميشال عفلق وصلاح البيطار. تبنى هذه النظرية، قبل الكل، أنصارُ الوحدة من “اللجنة المركزية السوريّة” – بما في ذلك شكري غانم وجورج سَمنه وجميل مردم بك – ثم أنصارُ الحزب السوري القومي الذي أسسه أنطون سعادة عام 1932.
أما الأطروحة الثانية المخالفة والذي تبناها أنصار” الفينيقية” مثل البطريرك الياس الحويك وبعض أعضاء “مجلة فينيقية” (ومنهم شارل قرم وميشال شيحا وسعيد عقل) فكان فحواها أن لبنان كان دائماً متميزاً عن سوريا ولم يكن يوماً ما جزءاً منها.
تستندُ هاتان الروايتان إلى قاسمٍ مشترك يعكس إشكاليةَ سوء فهم كبيرة: الخلط الجوهري بين سوريّا التاريخية الرومانية والجمهورية العربية السورية الحالية.
هناك، من جهة، قطيعة واضحة بين سوريّا التاريخية والجمهورية العربية السورية الحالية. ومن جهة أخرى، الإرث الثقافي الكبير الذي أعطته سوريّا التاريخية ما زال مستمراً في الجمهوريتين اللبنانية والسورية وباقي دول المشرق.
وراثة بدون استمرارية
هناك نوعان من انتقال مسؤولية الدول في العلاقات الدولية والجغرافيا السياسية، وهما الاستمرارية والوراثة. على سبيل المثال، كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) هي استمرارية روما بعد عام 476، أما فرنسا فهي الدولة الوارثة لروما في الغرب. في حالة الاستمرارية، تستمر الدولة بالشخصية القانونية القديمة نفسها على الرغم من التغييرات الكبيرة التي طرأت على أراضيها وسياساتها. أما في حال وراثة الدول فهناك قطيعة في الشخصية القانونية بين القديم والجديد: تُمنح الدولة الجديدة شخصية قانونية جديدة تستند طبعاً إلى ما كان موجودًا على أراضيها سابقًا، ولكن دون الادعاء بأنها مجردُ استمرارٍ للشخصية السابقة أو تكميلٌ لما كان موجوداً من قبل.
ليست الجمهورية العربية السورية بأي حال من الأحوال الدولة الاستمرارية لسوريّا التاريخية.
فهي تظهر على المسرح الدولي بعد ألف وثلاثمائة عام من اختفاء الأخيرة. وشخصيتها القانونية مختلفة تمامًا عن شخصية الأولى إن لم تكن غريبة عنها تماماً. علاوة على ذلك، فإن الجمهورية العربية السورية نفسها ليست دولة وارثة لسوريا التاريخية. فوجودها ليس نتيجة تسوية أو معاهدة كانت سوريا التاريخية طرفاً فيها. الجمهورية العربية السورية المعاصرة هي وريثة الإمبراطورية العثمانية مثل كل دول الشرق الأدنى.
مصطلح “سوريّا” هو اسم جغرافي استخدمه الإغريق منذ هيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد). كانت سوريّا الرومانية مقاطعة مهمة منذ الأيام الأولى للإمبراطورية ومتمركزة حول أنطاكية العظمى (أو أنطاكية سورية) عاصمة ملوك السلوقيين ورثة الإسكندر الأكبر. كانت سوريّا الرومانية مهد المسيحية، وتكلم سكانُها الآرامية (سلفَ السريانية) واليونانية بشكل رئيسي، بالإضافة إلى اللاتينية والأرمنية والعربية والعبرية ولغات أخرى.
بين القرنين الثالث والسادس للميلاد، تم تقسيم سوريّا الرومانية إلى عدة مقاطعات جديدة، مثل فينيقية البحرية (التي كانت تحكم من صور) وفينيقية اللبنانية (دمشق وحمص) والثيوذوريادة (اللاذقية) وأسروانة (الرها) وغيرها من المقاطعات المذكورة في فهرست الجيش الروماني ومجموعة قوانين يوستنيانوس. لم تُحظَ سوريّا الرومانية بأي سيادة خاصة لها أو استقلال، إذ أنها كانت جزءاً فائقَ الأهمية من الإمبراطورية الرومانية ومنبتَ العديد من الأباطرة والبابوات والحكام والقانونيين والعلماء.
انتهى الوجود الرسمي لسوريّا الرومانية عام 637، عندما استولت الجيوش العربية الإسلامية على أنطاكية العظمى لتتبعها إيليا كابيتولينا (أورشليم) بعد قليل.
إرث يتجزأ
مع ذلك، تم الحفاظ على اسم سوريّا في جغرافيات القرون الوسطى وفي الألقاب الكنسية. كما ساوت ترجمات الكتاب المقدّس العربية في دير سيناء بين “سوريّا” و”الشام”. كانت “سوريّا” تعادل في كثير من الأحيان “الأرض المقدسة” كنوع من استمرارية النظرية الكلاسيكية لها كمهدٍ للمسيحية ولطوبوغرافية الكتاب المقدس. تابعَ الأوروبيون استخدامَ المصطلح في إسقاطاتهم للجغرافيا الكتابية على مقاطعات الدولة العثمانية دون أن يكون لها أي حضور إداري أو سياسي حقيقي. من ناحية أخرى تابع المسيحيون المشرقيون استعمال مصطلح “سوريين” كوصف ذاتي جغرافي مضاف إلى طوائفهم المختلفة من روم وموارنة وسريان وأرمن وغيرهم.
أما بالنسبة للمصطلح الحديث الإداري، فقد ظهرت “سوريا” على الخرائط العثمانية في “الأطلس الجديد” لعام 1803. ومن الغريب أن هذا المصطلح ظهر بعد حملة نابليون الفرنسية على مصر، للإشارة إلى منطقة جغرافية صغيرة حول جبل حرمون (جبل الشيخ) بين دمشق ووادي التيم. اعتباراً من عام 1867، أصبح هذا الاسم اسماً لتقسيم إداري عثماني مع ولاية سوريّا والتي مركزها دمشق (خلافاً لسوريّا التاريخية والتي قاعدتها أنطاكية).
بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، تم إنشاء المملكة العربية السورية عام 1920 على يد الأمير فيصل بن الحسين. عاشت هذه الدولة لعدة أشهر فقط ولم تحصل على اعتراف دولي رغم شعبية فيصل عند قسم كبير من أبناء المنطقة من كل الطوائف والتيارات السياسية.
بعد معركة ميسلون في تموز 1920، غادر فيصل دمشق وأصبح ملك دولة العراق الجديدة تحت الانتداب البريطاني.
أعلنت السلطات الفرنسية دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول 1920 كلبنان مُوَسَّع عن “متصرفية جبل لبنان”. أما في باقي مناطق المشرق تحت الانتداب الفرنسي، فقد أعلنت فرنسا دول دمشق وحلب وجبل الدروز وجبل العلويين، قبل أن يعود اسم سوريّا إلى الخريطة كدولة في 5 كانون الأول 1924 (التي وح”َدت ولايتي دمشق وحلب، قبل أن تَضم دولتي الدروز والعلويين في 1936).
وعلى أثر استفتاء متنازع عليه وعلى شرعيته، قامت السلطات التركية في 1939 بضم لواء الإسكندرونة، وبذلك أصبحت أنطاكية العاصمة التاريخية الوحيدة لسوريّا مجرد مدينة ثانوية في الجمهورية التركية.
رغم كل هذا التشرذم وانعدام الاستمرارية المعقد، أصبحت الجمهورية السورية دولة كاملة السيادة في نيسان 1946. رغم الانقطاع التام بين سوريّا الرومانية والجمهورية الحديثة، حاولت هذه الأخيرة أن تدعي دوماً أنها الوريث الوحيد لسوريّا الرومانية وبالتالي فكل ما يعود لسوريّا الرومانية يعود لها.
هذا الادعاء لا يثبت أمام النقد الجغرافي والتاريخي كما رأينا مسبقاً على اعتبار أن الجمهورية الحديثة تبنّت اسم القديمة نفسه من دون أية استمرارية أو وراثة.
وبالتالي، فإن هذه الحجة لا يمكن أن تشكل أساساً للطعن في استقلال وسيادة الجمهورية اللبنانية، ويمكن للبنانيين أن يطالبوا بحق بنصيبهم من إرث وتراث ولغات سوريّا القديمة الرومانية مثلهم مثل مواطني الجمهورية السورية ومن دون أن يكون لهذه الأخيرة حقوق “تاريخية” على الأولى.
ايه أكيد الموارنة بيحكوا سرياني بس مش من جمهورية سوريا