عدن لا تمنح حبها للغريب عنها بالروح أكان بدوياً جهولاً، أو قبيلياً غازياً، أو قرصاناً إمبراطورا *
وجه محروقة
* أبو بكر السقاف، أطياف عدن
*
يقال إن الدكتاتورية محكومة بالبلادة والتكرار والدائرية. ولن نأتي بجديد إذا ما تطرّقنا لجوانب الشبه والتماثل بين دكتاتور ليبيا السابق والرئيس اليمني السابق أكان على مستوى علاقة كل منهما بالتحالفات أو المنافسين، أو في الإصابة بجنون العظمة والتعلق الهستيري بالسلطة وتضخم الأنا ومركزيتها، أو في الانجراف نحو تملك البلاد وتحويلها إلى مزرعة وضيعة للدكتاتور الفاسد وعائلته وحاشيته.
ويتوحّد (العقيد) مع (المشير) في الإهدار النزق لحق الحياة وحرمتها، وفي ممارسة كافة أشكال القمع والمصادرة والنكث بالعهود والاتفاقيات حتى في أشد اللحظات حراجةً وقتامة.
وكما لم يستفد “القذافي” من حبل النجاة حين تدلى أمامه عبر مبادرة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوجان مطلع يونيو الماضي حين تقدم بمبادرة اقترحت خروجه من ليبيا مع ضمان عدم ملاحقته، يبدو أن “صالح” يمضي في نفس السبيل ولن يقبل بأقل من منصب رئيس الطوفان في بلاد طالما ثابر على تمزيق أوصالها بالعصابات المسلحة وعبر التغذية المستمرة للنزاعات الضارية بين القبائل والجماعات والجهات.
وثمة فارق تافه لا يمكن إدراجه في أي بند أو ضمن أي حساب بين (العقيد) و(المشير)، وهو يتجلى في واقع أن الأول تمكن من تفخيخ ليبيا وتأمين شروط تفجيرها بعد رحيله، وواقع أن الثاني عمل نفس الشيء ولكنه ما زال حتى اللحظة حريصاً كل الحرص على الإشراف التام، على عملية اختطاف بقايا البلاد من قبل الفوضى والجماعات والميليشيات المسلحة.
ويبدو أن صاحبنا صار رهينة لبومة الثأر والانتقام الجاهل والأعمى، وكأنه ما زال مركوبا بالطيش والنزق والنزوة إلى الحد الذي لا يمنعه من اشتهاء رؤية وجه اليمن وهو محروق على نحو ما كان عليه وجهه في أول إطلالة بعد محرقة جمعة 3 يونيو.
ذلك ما يفسر بقاءه على رأس جيش موازٍ وسلطة خفية موازية و”نظام” يحمل كامل العناصر والمفردات التي تعكّز عليها طوال عهده، وهو نظام الفوضى الذي اعتمده كأسلوب وممارسة وسياسة لإدارة البلاد خلال 33 سنة.
وإذا كانت ليبيا تتخبط هذه الأيام، وبالأحرى منذ رحيل القذافي في 20 أكتوبر العام الفائت، في صراعات قبلية وميليشياوية، ويُسوَّغ فيها اللجوء إلى السلاح في خلاف على رمي القمامة، ويتقوّس على أرجائها شبحُ الانقسام بعد مطالبة المناطق الشرقية الغنية بالنفط بحكم ذاتي مستقل كرد طبيعي على معاناتها الطويلة من التهميش والاستبعاد والحرمان..
وإذا كانت العاصمة طرابلس ترقد تحت أطنان من جبال القمامة ولا يوجد فيها من يراقب الالتزام بإشارات السير، ولا تعرف السكينة والنوم تحت قعقعة الأسلحة وحركة الفصائل المسلحة التي تتوزعها وتقتسم أحيائها وأسواقها وحاراتها ومناطقها، فإن ذلك هو حال يمن اليوم الذي تتجاذبه وتتناتشه أكثر من سلطة وفرقة وميليشيا وجماعة، وتلك هي محصلة الخراب الممنهج، والحروب المستدامة، واختطاف البلدان والشعوب من قبل المستبدين الأجلاف والجهلة، الفاسدين من القاع حتى النخاع، وجلّهم، بل كلّهم، ملتقون على خط الانتقام من كل ما هو مدني وحداثي.
في هذا المقام لا بأس من القياس بين ما فعله “القذافي” بطرابلس حين حوّلها إلى سجن كبيرٍ وفَصَلَ عنها البحر، واستأصل متنفساتها وذاكرتها ودمّر أجمل ما فيها، وبين ما فعله ولا زال “صالح” بما هو شخص ونظام بـ”عدن”.
استباحة عدن وفصلها عن البحر
المعلوم أنه بعد انهيار مشروع الوحدة اليمنية السلمية التي أعلنت في 22 مايو 1990م جرّاء حرب 1994م؛ استبيحت عدن، وتمت عملية استباحة المدينة وإطلاق يد السلب والنهب فيها بضوء أخضر من صالح الحاكم في صنعاء.
وفي عدن، التي كانت تتعايش فيها 112 ديانة وطائفة، جاء من يهدم الأضرحة والكنائس والمعابد، ويغلق ويصادر المتنفّسات والساحات والشواطئ والحدائق والمتاحف ودور السينما. وكما فعل “القذافي”، بالحذافير فعل “صالح”. فهو حوّل أجمل منطقة ساحلية ومتنفّس الى “مستوطنة عسكرية” لإقامته أصبحت محظورة ومحرمة على أهالي عدن.
ويعرف العدنيون ماذا كان يعني “خليج حقات” في ذاكرتهم وحياتهم، وكذلك منطقة و”جبل معاشيق” ومن خلفه يمتد الشاطئ الرملي الأبيض (أبو الوادي)!
كان خليج حقات يعتبر من أجمل متنفسات مدينة عدن وقد أقيمت فيه دار سينما حديثة –سينما بلقيس- وقاعة ضخمة للمؤتمرات، ومسبح كبير كان يخصص يومين للنساء، ويمتد على ساحة مفتوحة تطل على البحر، وكانت تقام فيه المهرجانات المتنوعة وقد استضاف هذا الموقع السيرك الهندي في الستينات، وكانت فيه حيوانات متنوعة، أهمها الأفيال. (هشام علي، خربشات على جبل شمسان/مجلة “ذاكرة”).
خليج حقات جبل معاشيق كان يمتاز بمناخه المعتدل وتشكيلاته الصخرية الجميلة، ويمتد أسفله شاطئ رملي أبيض يدعى (أبو الوادي) نسبة إلى ولي صالح مدفون في ذلك الشاطئ، وكان الناس يذهبون إليه بعد أن يصعدوا إلى منتصف جبل معاشيق أو يدورون حول الجبل على الصخور الفاصلة بين البحر والجبل، وبعد غزوة عدن وقدوم “فارس العرب” المخلوع علي صالح اختفى الجبل وساحل (أبو الوادي) والسينما والمسبح؛ وصار ذلك الساحل الجميل المترامي خلف معاشيق “منطقة أمنية محرمة”، ولم يعد بمقدور المواطنين الدخول إليها إلا من أراد المخاطرة بحياته وقرر الذهاب إلى ما وراء الشمس، كما حدث للرياضي الشاب يسلم مطر الذي كان يمارس رياضة الجري ذات صباح وحين اقترب من الشاطئ “المحرم” هجمت عليه قوات الحرس الجمهوري واقتادته إلى ما وراء الشمس ومن يومها لم يعثر له على أي أثر ولا تزال أمه وأشقاؤه يبحثون عنه ويطرقون كل الأبواب دون جدوى.
وبمصادرة ذلك المتنفس الجميل والشاطئ الخلاب حُرمت المدينة من أهم متنفساتها ومزاراتها، وحرم الأهالي من الزيارة السنوية لـ”أبو الوادي” والاحتفاليات البهيجة التي كانت تقام على الشاطئ.
ولم يكتف “صالح” بمصادرة سلسلة الفلل والمباني الساحرة التي بناها التاجر الفرنسي “أنطونان بس” على قمة معاشيق في النصف الأول من القرن الماضي، بل صادر الشاطئ والجبل والساحل وحوله إلى منطقة محرمة، وفي عهده راح “معبد الشمس” الذي كان يقع في أعلى جبل الخضراء بحقات، وراء الشمس.
وفيما تحولت عدن إلى منطقة جباية مثلى؛ فقد صار الاستيلاء على أراضيها وشواطئها هواية يومية، وأصبح كل مسلح حاكم بأمره، يقتل ويسطو وينهب ويلجأ إلى معسكره.
وأغلقت دور السينما بعد أن كانت في عدن أكثر من 11 دار سينما، وأغلق المسرح الوطني الواقع في قلب حي التواهي وتحول إلى أطلال تسرح فيها الفئران وينعق البوم، وكان جزءا من هوية التواهي. وأغلقت المكتبات وحديقة الحيوان، وتوقف نشاط قاعة المهاتما غاندي وصودر مبنى الغرفة التجارية في عدن وهي أقدم غرفة في منطقة الجزيرة والخليج وحولت إلى فرع لشؤون القبائل في صنعاء. وأغلقت المركز الثقافي الروسي في الخليج الأمامي بعدن، والمركز الثقافي الفرنسي، وتحول بيت الشاعر الفرنسي “رامبو” من بيت للشعر إلى فندق، وتحول نادي الفنانين بما يحتويه من مسرح وصالات إلى مسكن شخصي بضوء أخضر من الباب العالي.
ودمرت طواحين الهواء في المملاح واستبيحت أرض المملاح وتحولت كلها إلى غنيمة لواحد من شيوخ الحرب البارزين، واستهدف مسجد الهاشمي وضريح الهاشمي بقذيفة أطلقها عليه حلفاء الرئيس من السلفيين وسوّته بالتراب، وكذلك كان مصير الضريح الموجود في الغدير، وكانت تلك الأضرحة مزارات تقام فيها الطقوس والاحتفالات السنوية.
حتى خزانات المياه وصهاريج الطويلة وسائلة كريتر والأشجار المعمرة والحدائق لم تسلم من معاول هدم أعوان الرئيس!
وأبيدت الحديقة الكبيرة التي كانت تحيط بصهاريج الطويلة بما فيها من أشجار يرجع عمر بعضها إلى مئات السنين، واقتلعت معظم الأشجار العتيقة في الحديقة في عهد “الوحدة المباركة”!
وبعد استباحة عدن عقب حرب 1994، طاولت معاول الهدم “معبد الفرس” التابع للطائفة الفارسية التي تنتمي إلى المذهب الزرادشتي وأقيم في مكانه مسجد أطلق عليه اسم “سلمان الفارسي”!
وكما طمس هذا المعلم البارز من ذاكرة المدينة والمعبر عن إحدى مميزاتها الفارقة كمدينة حاضنة للحوار بين الأديان والثقافات فقد تعرّض “برج الصمت” و”هيكل النار” وهما من المعالم الزرادشتية البارزة لحوادث مماثلة، ودمر “معبد الألوان” التابع لأحد الأديان الهندية، وتحولت الكنيسة الكائنة في الجبل المقابل لساحة البنوك إلى مركز توثيق تابع للأمن، وانطمست معالم كنيسة القديس جوزيف من شارع الملكة أروى.
ونهبت كافة ممتلكات الدولة العامة وجرى الاستيلاء عليها من قبل زعماء الحرب وأتباع القائد وأصبح الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة رياضة يومية، وتغيرت أسماء الشوارع والمدارس والحدائق والمكتبات والمتاحف، وتحول اسم المتحف الذي يحمل اسم أول شهيد لثورة 14 أكتوبر راجح غالب لبوزة إلى “فرن 7 يوليو” وقناة عدن التلفزيونية وهي أقدم محطة تلفزيونية في المنطقة إلى تلفزيون 22 مايو ومطار عدل الدولي الذي كان ثالث مطار في منطقة الشرق الأوسط إلى مطار للرحلات الداخلية، و”أصبحت عدن مدى رحباً يتسع لكل غرائز ونزوات الحاكم” وأغلق ساحل أبين المترامي بصورة شبه كاملة، وصار النفاذ إليه عبر بوابة واحدة عملية لا يقوى عليها إلا الضالعون في شؤون البحر والسحر، وأقيمت الفلل والعمارات الخرسانية المزدانة بالقمريات الصنعانية على شواطئ ساحل أبين وجولدمور و….الخ.
ولم تكتف السلطات والإعلان الناطق بلسان “السيد الرئيس” عن تكرار القول بأن أهالي عدن بلا تاريخ ولا منجز ولا ذاكرة، وأن بداية التاريخ ونهايته بالنسبة لهم تقترن بلحظة غزو واستباحة مدينتهم عام 1994م.
وفي العموم يمكن القول إن غزو عدن في 1994 بالقصف المدفعي والديني وبعد إمطارها بالصواريخ وقطع الكهرباء والمياه والاتصالات عنها، قد أفضى إلى زج هذه المدينة التي تصل بين آسيا وافريقيا في أتون “أزمة وجود مقيمة في كل بيت، وفي كل نفس” –حسب أبوبكر السقاف- بموجب توجيهات الرئيس التي كانت دائما جزءا من الفوضى-النظام ودعس القوانين والدستور بممارسات وسياسات تقول لأهل عدن: أنتم لستم أحداً.
لقد قُوضت وحُجبت معظم الأماكن والمواقع الجميلة في المدينة وحتى هواء البحر صار يباع بتذاكر وحرمت الأسر العدنية من الاسترواح والانتجاع والفرح في النوادي والمنتجعات بما فيها عروسة البحر وغيرها من النوادي التي كانت تحتضن اجتماعات ولقاءات الكثير من الأسر العدنية في الإجازات والأعياد، وصارت التلال والجبال المطلة على تلك المتنفسات والشواطئ الخلابة عبارة عن مستوطنات للجنرالات وشيوخ القبائل من أتباع الرئيس والفلل والعمارات المزدانة بالقمريات وشتى أشكال البرقشة والخربشة الخادشة والمشوهة لطابع معمار عدن ولشكل انفتاحها على البحر وأمدائه والعالم عن سابق ترصد وقصد لاستهداف مدينة عدن وإفراغها من مدنيتها وتسويتها بتراب القبيلة وغبار البداوة.
الواضح أن ذاكرة ومعالم وعلامات وتاريخ المدينة ومحمياتها كانت وما زالت هدفا لعمليات الطمس والاستيلاء، وقد أريد إعادة تعريفها لتكون تلك المدينة التي يقع فيها جبل رئيس القبيلة المجاور لجبل شيخ قبيلة الرئيس وما إلى ذلك من متوالية جهنم القبائل.
mansoorhael@yahoo.com
كاتب يمني- صنعاء
إقرأ أيضاً:
طرابلس وعدن.. وفي عهد الغازي (القبيلي) صار هواء البحر يباع بتذاكر (الأخيرة)
بالطبع يوجد ترابط بين ليبيا واليمن في كثير الأشياء ,خاصة ان البلدين من حلفاء الاتحاد السوفيتي وفيما بعد مع بوتين .
إذا المشاكل والمصاعب التي تواجه البلدين , نشرنا على عهد الشرق بعض ذكريات لكاتب روسي عن زيارة العرب والمسلمين لموسكو منذ السبعينات من القذافي والأسد الأب و علي عبداللة صالح وعرفات وغيرهم سوف تنشر بالتدريج على هذا الرابط (http://orientpro.net/arab/orientpro–arab-17.htm) تم الجزء الأول .