ها قد جاء الرّبيع،
وها هي ”حلّة قشيبة“ تكسو السّهول والهضاب حيثما حللنا وحيثما ارتحلنا. في الماضي الغابر عندما ذهبنا، في سني عمرنا الأولى، إلى المدرسة الابتدائيّة، بدأنا نتعلّم ”فكّ الحرف“، كما يُقال بلهجتنا. رويدًا رويدًا طفقت الحروف تأتلف وتختلف علينا، ويومًا بعد يوم أخذت تكبر حتّى اجتمعت أمام ناظرينا كلمات وجملاً بخطوط بريئة على دفاتر بأغلفة شاحبة. ثمّ جاء معلّمو اللغة العربية لاحقًا يُملون علينا القواعد والصّرف والنّحو إلى أن دلفنا بدروس الإنشاء في غرف يدلف فيها المطر.
في تلك الأيّام، وربّما لا زالت الحال على هذا المنوال حتّى يومنا هذا، لم تكن دروس الإنشاء تلك سوى إملاء لصيغ تعبيرية جاهزة تتناسل وتتكاثر في ذات القبيلة اللغوية، فتأتي مُستنسخة مُكرّرة بلا طعم ولا رائحة. فإذا طُلب منّا أن نكتب رسالة بدأناها بديباجة: ”سلام سليم، أحلى من العسل وأرقّ من النسيم“، وإذا طُلب منّا كتابة عن الربيع، كتبنا: ”ها قد جاء الرّبيع، واكتست السهول والهضاب بـحلّة قشيبة تبهر النّظر“، وما إلى ذلك من كلام معلوك.
لم نتعلّم في ذلك الزّمن الغابر
الدلالات العميقة للكلمات. ربّما لأنّ المعلّمين أنفسهم لم يكونوا على علم بها، أو لم يتعوّدوا أو يعوّدوا أنفسهم على ذلك، بل ترعرعوا هم أيضًا على ذات السّلف وذات المناهج، دون فحص أو محص.
أتذكّر الآن تلك الأيّام الخوالي، بعد أن هجرتني براءة ذلك الزّمن، وبعد أن وقعت في شراك وعشق اللغة، وهو عشق مزمن لم أبرأ منه منذ ذلك الأوان. ولأنّنا الآن قد حان وها نحن قد دخلنا في فصل الرّبيع، وعلى وجه الخصوص لأنّ الربيع قد شاع استعمالاً في توصيف ما يجري في العام المنصرم في أصقاع مختلفة من العالم العربي، فقد ارتأيت العودة إلى هذه ”الحلّة القشيبة“ التي تكسو الربوع العربيّة.
لقد انقطعت سيرة العقيد العنيد
في مشهد دراميّ عنيف شاهده القاصي والداني. لقد جاء هذا المشهد العنيف تتويجًا لما نفخ فوه وأوكت يداه من حكم عنيف إلى حدّ التهريج دام على الأرض الليبية أربعة عقود. وها هو ذلك الصقع الـ“عربيّ“ في الشمال الأفريقي قد عاد، بانقطاع العقيد عنه، إلى أصله وفصله، سيرًا على هدي المقولة العربية ”الطبع يغلب التطبّع“.
وهو بذلك لا يختلف عن أصقاع المشرق الـ”عربي“. فقبل عقد من الزّمان، ما أن انقطعت سيرة سفّاح العراق حتّى انفرطت تلك السبحة المسمّاة بلدًا وشعبًا وعادت إلى أصلها القبلي، الطائفي والمذهبي ليغنّي كلّ على ليلاه، ويتأوّه على بلواه. وليس من قبيل الصدفة أنّ هذا ”الربيع العربي“ لم يصل إلى العراق. إذ أنّ ”الحلّة الربيعيّة القشيبة“ تكسوه منذ عقد من الزّمان. وليس صدفة، بل هي من سخرية ومهزلة الأقدار، أنّ من أمسك بزمام العراق بفضل التدخّل الأجنبي يرفض الآن ذات التدخّل لكبح جماح سفّاح الشام عن أهل الشام.
فها هي الشّام الّتي طالما
تغنّى بها المغنّون وأغدق عليها الكلامَ الشّعراء، ومنذ عام مضى، تصطبغ هي الأخرى بالدّماء. إنّ هذه الدّماء التي تسيل في الشّام ليست بالأمر الجديد، فهي سنّة اختطّها هذا النّظام وسار على هديها منذ أن أمسك بالزّمام. وها هي الأخرى تعود الآن إلى أصلها وفصلها، تعود إلى طبعها الذي يغلب تطبّعها. فليتغنّ بها إذن المغنّون، كلّ على ليلاه، وليتأوّه كلّ على بلواه.
أمّا عن أمّ الدنيا، فحدّثوا ولا حرج!
فها هو أحد المغنّين الشعبيّين واسمه سعد الصغير، يرغب في أن يكون كبيرًا في مصر فيرشّح نفسه للرئاسة. إنّه يعمل في هذا الأوان، كما أفادت الأنباء، على أغنيات حملته الانتخابية التي تقول نصوصها: ”أنا واد جدع وطيب، وعارف ظروفكوا كويس.. ولا بعط ولا بهيس.. جد مليش فى الهزار … باختصار، أنا عايز أبقى الريس”. بل وأكثر من ذلك، فهو يستعدّ للقاء أوباما: ”وإذا كان على الإنجليزى وأنا رايح لأوباما.. هاخد معايا مترجم ونرجع بالسلامة”، يُبشّر المغنّي الصغير ناخبيه المصريين.
نعم، هذه هي مصر بعد عام على ميدان التحرير والتنظير. نعم، هذه هي ”أمّ الدنيا“ بقمحها وزؤانها. ”صوت الجماهير صوت الجماهير صوت الجماهير“، كما غنّى مغنّوها، على غرار شعبولا ومن على شاكلته، أو على غرار ”طزّ في مصر“، كمقولة زعماء ”الإخوان“ ومن لفّ لفّهم.
أمّا سائر بلاد العربان،
التي تحتمي طبعًا بالقواعد الأميركية وفي ذات الأوان تُنظّر للديمقراطية ولمعاداة الاستعمار، فهي مشغولة في الواقع من رأسها حتّى أخمص قدميها بفتاوى الإرضاع، وأوضاع الجماع، وما إلى ذلك من تكنولوجيا الضياع في علوم الارتباع والاجتماع.
إذن، فيا لها من حلّة قشيبة تكسو سهول وهضاب وربوع العرب في هذا الزّمان!
غير أنّنا لو رغبنا في العودة
إلى فحص ومحص دلالة هذا الإنشاء، ما علينا إلاّ الأخذ بما دوّنه لنا السّلف في معاجم لغتنا الجميلة. لهذا الغرض سندلف لبرهة من الزّمن إلى ”لسان العرب“ ونقتفي أثر الأصل: ”قشب“.
لقد عرفنا وجهًا واحدًا من الـ”قَشَب“، بلهجتنا المحكية، في أيّام الطفولة. كان ذلك هو اليبس والجفاف في الجلد بسبب الريح الشرقيّة. أمّا فيما يتعلّق بالحلّة الربيعيّة القشيبة التي نحن في معرض الحديث عنها فهي شيء آخر تمامًا.
نعود إذن إلى ابن منظور ولسانه،
حيث يفصّل لنا معاني هذا الأصل، فيقول: ”قشبه قشبًا: سقاه السمّ“. كذلك فهو يورد اقتباسًا من الحديث: ”أَن رجلاً يَمُرُّ على جِسْر جهنّم فيقول: يا ربّ، قَشَّبَنِـي ريحُها. معناه: سَمَّني ريحُها. وكلُّ مسموم قَشِـيبٌ ومُقَشَّبٌ… ويقال: ما أَقْشَبَ بَيْتَهم، أَي ما أَقْذَر ما حولَه من الغَائط…“ (عن: لسان العرب، مادة ”قشب“).
إذن هذه هي، على ما يبدو، الحلّة القشيبة للربيع العربي. فما أقذر ما حول هذا الربيع العربي من الغائط القبلي، والطائفي، والمذهبي.
خلاصة القول: بقدر ما يبدو الأمر غريبًا، فإنّ لبنان هو الذي انتصر على سائر العرب. نعم، لقد أضحى لبنان وما يمثّله من صفات اللبننة بمثابة الثورة المضادّة التي انتصرت على العرب في هذا الربيع العربي. نعم، لبنان، على ما يمثّله، هو الممثّل الشرعي والوحيد لهذه التركيبة الطائفية القبلية المذهبية، بجرائمها، بمجازها وبتوازناتها، وهو في نهاية المطاف خلاصة هذا الربيع العربي. فيا لها من حلّة قشيبة حقًّا. واللبيب من الإشارة يفهم.
والعقل ولي التوفيق!
*
موقع الكاتب: ”من جهة أخرى“
http://salmaghari.blogspot.com