بعد جلاء الانتداب البريطاني عن شبه القارة الهندية في 1947 انقسمت شبه القارة إلى كيانين سياسيين، واحد بغالبية هندية وآخر ذو غالبية مسلمة وهو الكيان الذي أطلق عليه اسم باكستان. لقد كان الكيان الباكستاني مؤلفاً من إقليمين، باكستان الغربية والشرقية، يفصل بينهما أكثر من ألف كيلومتر. لقد استمر هذا الوضع حتّى بداية السبعينات، حيث ثار الإقليم الشرقي البنغالي وأدّى الأمر في نهاية المطاف إلى انفصال تام عن الدولة الباكستانية وقيام دولة بنغلادش.
وها هو التاريخ المشابه يعيد نفسه هنا في فلسطين. فعندما خطّط رئيس الحكومة الإسرائيلية شارون للانسحاب من قطاع غزّة وتفكيك المستوطنات هناك، كان يضع نصب عينيه شيئاً شبيهاً لما جرى في باكستان الشرقية. لم يكن الأمر صدفة أنّ شارون لم يرتّب خطّة الانسحاب من غزّة مع السلطة الفلسطينية التي كانت تشكّل الإطار السياسي الجامع للإقليمين الفلسطينيين، في الضفة والقطاع. لقد كان يخطّط لإفساح المجال لحركة حماس بالاستيلاء على قطاع غزّة بغية إصابة عصفورين بانسحاب واحد. أوّلاً، سيشكّل ذلك إضعافاً للسلطة الفلسطينية المتحدّثة باسم فلسطين والفلسطينيين. وثانياً، من شأن هذا الانسحاب أن يقسم الأرض الفلسطينية الموعودة للدولة الفلسطينية إلى إقليمين لا يربط بينهما رابط سياسي أو جغرافي. إنّ تعميق هذا الشرخ الفلسطيني سيفسح المجال أمام إسرائيل لمواصلة التركيز على تعميق الاستيطان وابتلاع القدس وأجزاء واسعة من الضفّة الغربية.
وهذا ما حدث فعلاً على أرض الواقع. من الجدير بالتذكير أنّ الحملات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزّة، لم تهدف في أيّ منها إلى إطاحة حكومة حماس التي تسيطر على القطاع بأيّ حال من الأحوال. أصوات من هذا النوع تُسمع فقط من قبل بعض الأحزاب اليمينية الصغيرة، لكنّ الأحزاب الكبرى التي ترأست الحكومات، بدءاً من أولمرت وانتهاءً بنتانياهو، بالإضافة إلى المؤسسة العسكرية قد صرّحت غير مرّة أنّها لا تهدف إلى إسقاط حكومة حماس.
وهكذا يتكرّس هذا الانقسام الفلسطيني على غرار ما جرى في باكستان. إنّ إمارة غزّة هي أكثر شبهاً بباكستان الشرقية التي انفصلت فأضحت دولة بنغلاديش. بينما الضفّة الغربية ما زالت تعاني من الاحتلال والتوسّع الاستيطاني الإسرائيلي.
وهذا الانقسام الفلسطيني أكبر عون للسياسات التوسعية الإسرائيلية، إذ منذ استيلاء حماس على القطاع وتأبيد هذا الشرخ الفلسطيني، لم يعد هناك من يتحدّث باسم فلسطين. فحكومة حماس تتحدّث باسم غزّة، حيث تسيطر، وحكومة رام الله تتحدّث باسم الضفّة، حيث لا سلطة لها على غزّة. وبين هذه وتلك تسرح الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وتمرح. ما من شكّ في أنّ استمرار هذا الانقسام أكبر هدية تقدّمها القيادات الفلسطينية المتّسمة بقصر النظر، وعلى طبق من فضّة، لحكومات الرفض الإسرائيلية.
وعلى مرّ السنين، طالما تغنّى العرب والفلسطينيون بخاصة، ورفعوا شعارات رنّانة مثل أنّ فلسطين قضية العرب الأولى. لقد صدّقت الزعامات الفلسطينية، السياسية والثقافية والاجتماعية، كلّ تلك الشعارات واشاعتها على الملأ الفلسطيني وكأنّ عجلات قطار العالم تتوقّف عند هذه القضيّة فحسب. لقد ركن الجميع إلى السكينة وكأنّ العالم الواسع، أو كأنّ العالم العربي، لا يشغله شاغل سوى الشأن الفلسطيني.
لقد نسيت الزعامات الفلسطينية أو تناست أنّ العالم العربي بزعاماته وشعوبه مشغول في الواقع بقضايا ملحّة أخرى، كما أنّ العالم والقوى العظمى مشغولون بقضايا عالمية لا تقلّ إلحاحاً عن قضيّة فلسطين، بل قد ينشغل العالم بقضايا هي أكثر أهمية من وجهة نظره من القضية الفلسطينية والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وما جرى في العالم العربي في السنوات الأخيرة أكبر شاهد على ذلك.
لقد شهد هذا العالم العربي نكبات أكبر بكثير من النكبة الفلسطينية، ويكفي النظر إلى النكبة السورية المتواصلة لفهم ما هو حاصل في هذه المنطقة. من هنا، يمكننا القول إنّ هذه المنطقة ستنشغل بقضاياها الداخلية المزمنة. ففي المستقبل المنظور ولعقود طويلة، لن تقوم لدولة مثل سورية قائمة، وكذا هي الحال مع العراق وسائر أقاليم سايكس بيكو.
بالتأكيــد ستستغـــرق عملية إعمار هذه البلدان عقوداً طويلة من الزمان، والإعمار سيطاول بين ما سيطاوله أيضاً الإعمار المجتمعـــي الذي سيكــون أكثر عواصة من إعمار المدن والحواضـــر المتهدّمة. غير أنّ ما نخشاه هــــو استحــالة اتمام التئام هذه المجتمعات من جديـــد فــــي الكيانات السياسية التي عهدناها. بعد كلّ هذه الشــــروخ المجتمعية، الطائفية والدينية والإثنية، والتي اصطبغــــت بالدم، ليس من السهل بناء الدول مجدّداً فـــي الحدود المرسومة سابقاً. فهل ستضحـــي إمارة غزّة على غرار بنغلاديش؟ وهـــل سترتسم أمام أعيننا حدود جديدة، وتنشأ كيانات جديدة في هذه البقعة من الأرض؟
إنّه سؤال مفتوح على كافّة الإمكانات. وكما قالت العرب منذ القدم: الدّهر ذو دول.
* كاتب فلسطيني