حينما تتوضح العلاقة بين الله عز وجل وبين القيم والفضائل الأخلاقية، سوف يتوضح أمر آخر أيضا، وهو الجواب على السؤال التالي: هل الشريعة الإسلامية هي التي “تتبع” الأخلاق، أم أنها “تؤسس” الأخلاق؟ بمعنى أنه حينما نحدد موقع الإرادة الإلهية من موضوع القيم والفضائل الأخلاقية، أي هل إرادته تتبع القيم والفضائل، أم أن القيم والفضائل هي التي تتبع إرادة الباري، على إثر ذلك نستطيع أن نحدد موقع الشريعة الإلهية من تلك القيم والفضائل، هل تتبعها أم تؤسس لها؟ ومن المدارس الفكرية الإسلامية التي كان لها رأي مميز في هذا الإطار، هي المدرسة الأشعرية، التي كانت تعتقد أن الشريعة هي التي “تؤسس” الأخلاق، وأن القيم والفضائل الأخلاقية تتبع إرادة الباري.
يعتقد المؤرخون أن من أبرز وأهم المناقشات الفكرية التي جرت في القرون الهجرية الأولى من تاريخ الإسلام، هو الصراع الفكري حول ماهية مفهوم “الحسن” و”القبح” الأخلاقيان. حيث ظهرت مدرستان في هذا الإطار كلاًّ لها رأيها المتميز والمختلف عن الآخر: المدرسة الاعتزالية والمدرسة الأشعرية. فقد كان المعتزلة يعتقدون أن الحسن والقبح “ذاتيان وعقليان”، فيما كان الأشاعرة يعتقدون أنهما “شرعيان ونصيّان”. وسوف نركز في هذا المقال على موقف الأشاعرة من الأخلاق، لأنه يؤسس لبناء منهج فكري لا تزال تأثيراته واضحة على نوعية تفكير المجتمعات الإسلامية في الوقت الراهن وعلاقة ذلك بمفهوم الحداثة والعيش في الحياة الجديدة.
يعتقد الأشاعرة ان الحسن والقبح يتبعان، من الناحية الشرعية، إرادة الباري عز وجل، بمعنى ان جميع تصرفات الله من وجهة النظر الأخلاقية متشابهة، وأنه لتعريف الحسن والقبح يجب ردّهما إلى إرادة الله وما يتعلق بذلك من أمر ونهي واستحباب وكره. أما من الناحية النصية، فيعتقدون أنه يمكن فقط التعرف على الحسن والقبح من خلال الوحي أو الدليل النقلي النصّي، وإن علم الأخلاق هو من العلوم النصية النقلية، لذا لا يمكن التعرف على الحسن والقبح الأخلاقيين من خلال العقل المستقل عن الوحي والشرع (أو من خلال العقل العلماني).
ولم يكن رأي الأشاعرة بشأن مفهوم التوحيد وإرادة الباري وقدرته، يتماشى مع الرأي القائل أن الحسن والقبح ذاتيان. فهم كانوا يعتقدون أن مفهوم “القدرة الإلهية المطلقة” يعنى أن لا أحد باستطاعته أن يوقف إرادة الله أو أن يحد أو يتدخل في قدرته، وأن الاعتقاد بأن الحسن والقبح ذاتيان سيؤدي إلى نتيجة مفادها أن هناك مصدر قوة مستقل عن قدرة وإرادة الله، وهذا المصدر باستطاعته أن يحدد الحسن والقبح وأن يتدخل في إرادة الله، وهو ما يتناقض مع مفهوم القدرة الإلهية والإرادة المطلقة وكذلك مع مفهوم التوحيد. وبالتالي فهم يعتقدون أن هذا الرأي يعرقل بسط يد الله في مقام التشريع وفي مقام التكوين، ويسلب حريته، ولا يتماشى مع إرادة الباري وقدرته المطلقة. إذن رفض الأشاعرة للحسن والقبح الذاتيين، هو بمعنى رفضهم لوجود قانون أخلاقي مستقل عن إرادة الباري جل وعلا. فهم مثلا يرفضون القول أنه، بما أن نتيجة النار هي الاحتراق فإن الله غير قادر على منع الاحتراق وغير قادر على خلق نار لا تحرق، إذ يعتبرون ذلك تقليلا وتحديدا لقدرة الله وتحديا لمفهوم التوحيد. وعلى نفس المنوال، هم يرفضون الإدعاء الذي يقول أن من “طبيعة” العدل ومن “ذات” الظلم أن يكون الحسن عدلا والقبح ظلما، لأن ذلك في اعتقادهم يحد من إرادة الله وقدرته. بالنسبة إليهم من يمكن تحديد إرادته والتأثير في قدرته لا يمكن أن يكون إلها. إن الأشاعرة يعتقدون أن القوانين العلمية في الحياة لا تأخذ شرعيتها من الحياة والوجود والعالم. فإذا كانت النار تحرق فلأن “العادة التشريعية” للباري هي التي جعلته كذلك، وليس لوجود علاقة علمية بين النار والإحتراق. فهم يرفضون أي إشارة إلى أن إرادة الباري وقدرته ترضخان للقوانين الخارجية. يعتقدون أن وجود قوانين علمية وأخلاقية مستقلة عن إرادة الله التكوينية والتشريعية، يتناقض مع القول أن الباري “فعّال لما يشاء”، أي مع قدرته المطلقة. فرفضهم للحسن والقبح الذاتيين نابع من دفاعهم عن تلك القدرة المطلقة استنادا إلى مفهوم التوحيد، وبالتالي رفض أنصارهم للحقوق الطبيعية للإنسان في وقتنا الراهن يتأسس انطلاقا من هذا المنظور.
فلا يقول الأشاعرة أن العدل حسن، وأن الظلم قبيح، لأن الله أراد ذلك فحسب، بل يتعدون ذلك في فهمهم ويعتقدون أن أساس العدل وأساس الظلم يتبعان إرادته قبل أن يتبعا أي شيء آخر. هم على قناعة تامة بأنه لا يمكن الحكم، أخلاقيا، بين أفعال الله وأفعال الإنسان. إنهم يتأملون في أفعال الله وأوامره، ويعتبرون أن جميعها تمثّل عين العدل. فإذا أرسل الله المؤمنين إلى جهنم أو أرسل الكفار إلى الجنة، فإن عمله هذا لا يمكن أن يكون – في نظرهم – إلا عين العدل. هم، ومن أيد فكرهم في الماضي والحاضر، لا يرفضون ممارسة أبشع التصرفات اللاأخلاقية، كالقتل والتعذيب والترهيب، والكذب والخيانة والسرقة، ضد أعدائهم، باعتبار أن كل ذلك يسير وفق ما يريد الدين ويتم بإسمه، حيث يعتقدون أن الله أراد ذلك لكي ينصرهم على الكفار وينشر العدل في الحياة. فما هو غير عادل وغير أخلاقي في العرف الثقافي والاجتماعي الراهن، ليس بالضرورة أن يكون كذلك عند الله، وفق اعتقادهم الديني ووفق نظرتهم إلى الحسن والقبح. وإذا ما أصبحت هذه التصرفات غير عادلة وسيئة وغير أخلاقية في فترة من الفترات، فسبب ذلك أن الله أرادها أن تكون كذلك، وليس لأنها هي في ذاتها كذلك، أي لارتباطها بأوامر تشريعية. فأي تفسير لأوامر الله التشريعية أو التكوينية سوف لن يعكس إلا العدالة مهما كان شكل تلك الأوامر. لذا فالقيم والفضائل الأخلاقية تتبع إرادة الله وليس العكس. فالباري “لا يسأل عما يفعل وهم يسألون” (سورة الأنبياء – الآية 23). أي أن أفعال الله غير خاضعة للنقد الأخلاقي والعقلاني، وأنه لا يحق للبشر استخدام المعايير الأخلاقية المستقلة عن الدين (المعايير الأخلاقية العقلانية) للحكم على أفعال الله. لذا فإرادة الباري وأوامره ونواهيه هي التي تؤسس لحسن وقبح الأخلاق. وبما أن الطريق الوحيد للتعرف على إرادة الله هو النص أو الوحي، فإن العقل يصبح عاجزا عن معرفة الحسن والقبح. إذن العقلانية، في علاقتها بالأخلاق، معطلة لدى الأشاعرة.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
الأشاعرة والأخلاق: النص يغلب العقل اسلام — eslamgamale@yahoo.com حينما تتوضح العلاقة بين الله عز وجل وبين القيم والفضائل الأخلاقية، سوف يتوضح أمر آخر أيضا، وهو الجواب على السؤال التالي: هل الشريعة الإسلامية هي التي “تتبع” الأخلاق، أم أنها “تؤسس” الأخلاق؟ بمعنى أنه حينما نحدد موقع الإرادة الإلهية من موضوع القيم والفضائل الأخلاقية، أي هل إرادته تتبع القيم والفضائل، أم أن القيم والفضائل هي التي تتبع إرادة الباري، على إثر ذلك نستطيع أن نحدد موقع الشريعة الإلهية من تلك القيم والفضائل، هل تتبعها أم تؤسس لها؟ ومن المدارس الفكرية الإسلامية التي كان لها رأي مميز في هذا الإطار، هي المدرسة الأشعرية،… قراءة المزيد ..