نشر السيد فريح أبو مدين، يوم أمس في جريدة “القدس العربي” اللندنية، مقالة بعنوان “غزة ـ رام الله متى تتبادلان السفراء؟”. ولا شك في أن عنوانا يجمع ما بين المفارقة والسخرية، يجذب انتباه القارئ أكثر من العناوين الباردة والتقريرية. ولا شك، أيضا، في أن محررا نبيها من المواظبين على تجويد حرفة الكتابة، وعلى رأسها كتابة العناوين، سيغبط السيد أبو مديّن على عنوان مقالته هذه.
ويبدو أن السيد أبو مدين نفسه كان مدركا لما في العنوان من مضامين مضمرة، وربما جاءت فكرة المقالة من العنوان نفسه، بدليل أن الفقرة الأولى في المقالة تبدأ على النحو التالي: “بالتأكيد هذا عنوان مزعج ومحبط وبائس، وهل يعني هذا أن المصالحة أصبحت في خبر كان؟ (…) لقد أصبحت هذه الكلمة الجميلة والنبيلة في العرف العشائري والعائلي مقيتة وسيئة في العرف السياسي، خاصة الفلسطيني، لأنها أصبحت تعني المساومة والتقاسم والإقصاء والإحلال والانتهازية السياسية، وجعلت من القضية الفلسطينية بكل قدسيتها القومية والإسلامية قضية حزبية”. انتهى الاقتباس.
وإلى جانب إدراكه لما في العنوان من جاذبية، يُذيّل السيد أبو مدين، أو محرر الجريدة، المقالة بعبارة تعريفية مفادها أن الكاتب “وزير عدل فلسطيني سابق”. وهذه العبارة تُضفي على المقالة سلطة لا تُستمد من مضمونها وحسب، بل من الوظيفة السابقة لصاحبها أيضا. وعلى غرار كل العبارات التعريفية التي يُذيّل بها الناس كتاباتهم فإن التعريف يجعل من فعل الكتابة امتدادا لسلطة معرفية أو مهنية تُضاف إلى رصيد النص.
السيد أبو مديّن يكتب، إذاً، باعتباره مواطنا فلسطينيا، وصاحب وظيفة سابقة في السلطة الفلسطينية. وفي كلتا الحالتين لا ضرر ولا ضرار، بالمعنى العام، ولكن بقدر ما يتعلّق الأمر بما في النص من أفكار ومواقف، يصعب التغاضي عن الوظيفة السابقة التي توحي بانتماء صاحبها إلى الطبقة السياسية الفلسطينية بقطع النظر عن موقفه منها، ومكانته فيها، ومدى ما يسم علاقته بها من النفور أو التماهي.
وهذا، في الواقع، بيت القصيد، إذ يمكن الاستنتاج بأن ما جاء في مقالته، يمثل في جانب منه صياغة شخصية لمواقف وأفكار شائعة لدى نسبة لا بأس بها من ممثلي الطبقة السياسية الفلسطينية، خاصة من اختاروا عدم الانحياز إلى طرف على حساب طرف آخر. وهذا ما يمكن التدليل عليه من خلال المقالات والتصريحات لأشخاص ينتمون إلى الطبقة نفسها، ويعبّرون عن الموقف نفسه، حتى بين المنحازين أنفسهم.
وكما في كل مجال آخر، فإن المواقف والأفكار والخيارات تنجم عن تواريخ شخصية، ومؤهلات مهنية أو معرفية، وخصائص اجتماعية، واستيهامات وطنية وسياسية، تقوم مقام القاسم المشترك بين أغلب المنخرطين في حقل بعينه، سواء أكان السياسة أم الاقتصاد، وغير هذه وذاك من مناحي النشاط الإنساني، على الرغم من اختلاف المواقف وما ينجم عنه من حراك وصراع في إطار الحقل الواحد.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة أن ما جاء في الفقرة، التي أوردنا نصها قبل قليل، لن يختلف عليه، للوهلة الأولى، اثنان من الفلسطينيين، ويكاد يكون اختزالا للمشاعر العامة لدى الغالبية العظمى منهم، وإعادة إنتاج لما لا يحصى من الكتابات والنداءات والبيانات، التي تقول الأمر نفسه، ويجمع عليها ممثلو الطبقة السياسية، نصل إلى نتيجة مفادها أن ثمة تطابقا بين مواقف أغلب ممثلي الطبقة السياسية الفلسطينية والمشاعر العامة للمواطنين.
ولكن، طالما أن لدينا هذا القدر من التطابق، لماذا تبدو المصالحة وكأنها “أصبحت في خبر كان”؟ السيد أبو مدين يجيب على هذا السؤال في الفقرة المذكورة قائلا إن المصالحة أصبحت تعني التقاسم والمساومة والإقصاء، وهذا بدوره جعل من القضية الفلسطينية “قضية حزبية”.
وهذا الجواب مهم، في الواقع، لا من حيث تطابقه مع المشاعر العامة للمواطنين، بل من حيث إمكانية توظيفه في تحليل المخيال السياسي لنسبة لا بأس بها من (إن لم نقل لكل) ممثلي الطبقة السياسية الفلسطينية. وفي هذا السياق، بالذات، فإن الفقرة التي أوردناها قبل قليل تمثل منجما من ذهب، بالمعنى النظري والتحليلي، ولأنها كذلك فإن بقية ما جاء في مقالة السيد أبو مدين من أفكار ومواقف يقع خارج نطاق هذه المعالجة.
وما المقصود بمنجم الذهب؟
بداية، نلاحظ التعارض الذي أقامه السيد أبو مدين بين “العرف العائلي والعشائري” و”العرف السياسي” فالمصالحة في العرف الأوّل “جميلة ونبيلة” وفي العرف الثاني “مقيتة وسيئة”. هذا التعارض يُستخدم بطبيعة الحال كأداة للقياس، وينطوي على أحكام أخلاقية وسياسية مُستمدة من التراث الاجتماعي، وهذه بدورها ذات سلطة غير مُتنازع عليها، خاصة إذا ما تم توظيفها بطريقة بلاغية تضفي عليها مهابة “التقاليد” الاجتماعية الراسخة، ناهيك عن حضورها الفعلي والفاعل في الحياة اليومية للناس في مجتمعات لم تنجح بعد في تذويب الهويات العائلية والعشائرية في إطار هوية المواطنة، التي تستدعي، حكما، دولة حديثة، وقوانين جديدة.
وقد يقول قائل: حتى وإن كان هذا الكلام صحيحا، لماذا لا نشتغل بما بين أيدينا، وعندما يأتي المستقبل بالمواطنة والدولة فلكل حادث حديث؟
ليس المطلوب من ممثلي الطبقة السياسية أن يكونوا خبراء في العلوم الاجتماعية، لكن قراءة التاريخ الاجتماعي والسياسي للفلسطينيين تقودنا إلى نتيجة مغايرة لا يحتل فيها “العرف العائلي والعشائري” مكانة مرموقة، فقد كانت الصراعات العائلية والعشائرية كعب أخيل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها في أوائل القرن العشرين، إذا لم نصدق فلنعد إلى مرجع يحظى بالاحترام مثل عبد الوهاب الكيالي، أو حتى على سبيل التسلية إلى علم الاستشراق الإسرائيلي، الذي بنى نظريات عنصرية حول مفهوم القرية والحمولة الفلسطينيتين، ودور “العرف العائلي والعشائري” في إعاقة المجتمع الفلسطيني.
التعارض، إذاً، بين “العرف العائلي والعشائري” الجميل والنبيل، وبين “العرف السياسي” السيئ والمقيت لا يحظى، للأسف، بالدليل والبرهان من جانب التجربة السياسية والاجتماعية للفلسطينيين، ولا تدعمه نتائج وأبحاث العلوم الاجتماعية.
فلنتقدّم خطوة إضافية: تُشتق من التعارض السابق، وتبنى عليه، سلسلة من الأوصاف، التي تجعل من المصالحة في “العرف السياسي خاصة الفلسطيني” موضوعا للمساومة والتقاسم والإقصاء والإحلال والانتهازية. وهذه أوصاف بشعة، وما أدراك كم تصبح بشعة إذا ما أصبحت المصالحة نفسها، وهي نبيلة وجميلة أيضا، ضحية لكل هذا القدر من البشاعة.
هذا الموقف أخلاقي، وطهراني، وينم بالتأكيد عن روحية وطنية غير متحزّبة وصافية. ولكن هل يصمد مفهوم السياسة، كما يدرسه الطلاب في الجامعات، وكما يمارسه الساسة في أربعة أركان الأرض، أمام موقف كهذا؟
الصحيح: لا. فالسياسة، التي لعنها الشيخ محمد عبده، ولعن معها كل من ساس ويسوس، لعبة توازنات ومساومات وتسويات دائمة، ومنشأ الأمر أن مصالح الناس مختلفة، وأن اختلاف المصالح يفرض اختلاف المواقف والرؤى. في الأنظمة الشمولية، فقط، تُمارس السياسة، ويتكلّم عنها الناس، باعتبارها لعبة نظيفة، ويندر أن تصبح نظيفة دون تنظيفها من المعارضة بمختلف أشكال القمع. ومن المؤسف أن المفهوم الأخلاقي والطهراني للسياسة لا يصمد أمام العلوم الاجتماعية، ولا يصمد في سياق الكلام عن تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، في زمن الحاج أمين الحسيني، والهيئة العربية العليا، وفي زمن ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية.
في الحالتين كان الحقل السياسي الفلسطيني ميدانا للصراع بين قوى ذات مصالح داخلية وخارجية متعارضة، وفي الحالتين، كما في الحالة الأخيرة الراهنة، ارتبط العنف في حسم الصراع، وكذلك تجلياته على الأرض، وفي الخطاب، بطبيعة القوى المنخرطة في الصراع، ومركز ثقلها السياسي والجغرافي، وحجم رهاناتها.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بما يعيق “المصالحة” فالمشكلة ليست في المساومة والتقاسم والإقصاء والانتهازية والإحلال، بل أن هذه أعراض لمشكلة أعوص تتمثل في وجود مجتمعات فلسطينية. الجغرافيا والحدود السياسية عاملان حاسمان، ومصائر المجتمعات في غزة والضفة والجليل والبلدان العربية، والعالم، مختلفة لأسباب معقدة خارجة عن إرادة أصحابها أحيانا، ومعبرة عنها في أحيان أخرى، ناهيك عن حقيقة أن عددا من اللاعبين الإقليميين والدوليين يسهم في خلق وبلورة مصائر مختلفة ومتنافرة.
لذلك، لا فائدة من الكلام عن “العرف السياسي خاصة الفلسطيني” كاستثناء، وإذا كان ثمة من فائدة فوظيفتها ليست معرفية، أي يمكن إسنادها والتدليل عليها بالتجربة التاريخية والعلوم الاجتماعية، بل أخلاقية وبلاغية، وكلتاهما لا تسمن ولا تغني عن جوع.
أخيرا، نصل إلى كلام السيد أبو مدين عن المساومة والإقصاء والانتهازية، وكل الصفات السلبية التي “جعلت من القضية الفلسطينية بكل قدسيتها القومية والإسلامية قضية حزبية”. والمشكلة، هنا، هي القداسة، التي يتكلّم عنها الفلسطينيون والعرب، على المنابر على الأقل، باعتبارها معطى مُسبق، جاهزا ومضموناً، يتعالى على التجربة والبحث التاريخيين، وعلى فكرة السياسة نفسها، بينما تدل التجربة الواقعية للفلسطينيين على الأرض، وما لا يحصى من الوثائق والكتب والدراسات، ناهيك عن الأطوار المختلفة لحضور المسألة الفلسطينية في العالمين العربي والإسلامي، على أن هذه القداسة كانت وما تزال موضوعا للمضاربة من جانب فلسطينيين وعرب ومسلمين، منذ ظهور المسألة الفلسطينية وحتى يوم الناس هذا. وهي في أفضل الأحوال ظاهرة متغيّرة ونسبية. فإذا ما جُرّدت من سيولتها الدائمة ونسبيتها أصبحت فوق التجربة والتاريخ. للقداسة دلالة لاهوتية وأخرى سياسية، والتطابق بين الأمرين ليس تحصيلا للحاصل.
لا يمكن، بالتأكيد، التشكيك في حقيقة أن بين الفلسطينيين من يتبنى مواقف إيجابية إزاء “العرف العائلي والعشائري”، ومنهم من يرى إلى السياسة بعدسات أخلاقية وطهرانية، ومن يؤمن بالقداسة القومية والإسلامية للمسألة الفلسطينية، ولا يمكن أو يحق لأحد أن يلوم أحدا لأنه يصدر في موقفه عن قناعات مغايرة.
فالمشكلة تتجلى في مكان آخر، أي في التطابق بين المخيال السياسي لممثلي الطبقة السياسية و”الجمهور” و”الشعب”، وفي حقيقة أن ما يجعل التطابق ممكنا يتمثل في إعادة تدوير المفهوم الشعبي عن التقاليد، والسياسة، والقداسة، وتحويله إلى خطاب في السياسة.
وبما أن السياسة تعني حسابات باردة تمليها المهنة والخبرة والمعرفة، فإن غياب هذه الحسابات، بالذات، يدعو إلى التفكير في أسبابها. وأقرب الأسباب إلى الذهن أن المرجعيات التقليدية، سواء تمثلت في الاحتكام إلى منطق العرف، أو في مواقف أخلاقية طهرانية، أو في قداسة القضية، تؤثث المخيال السياسي لأصحابها باستيهامات تنتمي إلى ما قبل السياسة، أو فوقها، حيث تتجلى الورطة التاريخية في مكان وزمان محددين كمأساة صافية، لا تنجو شأنها شأن المآسي الصافية، من عناصر الكوميديا السوداء، ومشاعر السقوط من الفردوس، والحنين الدائم إلى حمل أوّل، بلا دنس. لا بأس من أشياء كهذه في الأدب، أما في السياسة فحدّث عن المآسي ولا حرج.
كاتب فلسطيني يقيم في برلين
جريدة الأيام
Khaderhas1@hotmail.com
أما في السياسة فحدّث عن المآسي ولا حرج..!! – هذا مقال رديء , كغالبية مقالات الكاتب .. تذكر ان (حرية التعبير) على حساب (حرية التفكير : شاهد , حلل , قرر , نفذ) هي (قمة السفاهة) .. اذا اردت مقال جيد حول نفس الموضوع في هذا الموقع , تجده هنا http://www.metransparent.com/spip.php?page=article&id_article=10758&lang=ar مراد , شاب تونسي أمي , انتهى به الامر الى بيع المخدرات في اوروبا , وقرر ذات يوم ان يجرب ما يبيع , وعند سحبة النفس الاخير , قرر ان يحتفظ بكافة النقود , لا أن يعود ل(الكبير) الذي سيعطيه بضعة دراهم تبقيه على قيد الحياة ليوم آخر ..… قراءة المزيد ..