التديّن في العصر الحديث

0

“زردشت”، لوحة منسوبة لـ”رافاييل” في١٥٠٩

*

ترجمة فاخر السلطان

يواجه التديّن في عصرنا الراهن، وفي مجتمعنا (الإيراني)، نوعين من المشاكل: النوع الأول يتعلق بجميع المتديّنين وفي جميع أنحاء العالم، والنوع الثاني يتعلق بالمتديّنين في مجتمعنا (الإيراني) الذين يعيشون في ظل حكومة دينية. فالحكومة الدينية، سواء كانت حكومة ناجحة أو غير ناجحة إداريا، من شأنها أن تخلق باسم الدين مشاكل للتديّن. ونحن هنا لن نتطرق إلى المشاكل المتعلقة بالنوع الثاني بل إلى تلك المتعلقة بالنوع الأول، أي إلى المشاكل التي تواجه المتديّنين في جميع أنحاء العالم. وبما أننا جزء من هذا العالم سوف نتأثر بتلك المشاكل، لذا يجب أن نفكر في سبل لمعالجتها.

في اعتقادي، يمكن تصنيف المشاكل إلى أربع كبيرة، وهي قد لا تعتبر أهم مشاكل التديّن في العصر الحديث، إنما أي مشكلة قد نشاهدها يمكن أن تندرج تحت إطار التصنيفات الأربعة.

أول مشكلة يواجهها التديّن في العصر الحديث، هو قيام الإنسان الحديث بإعطاء قيمة إيجابية للاستدلال. وهذا لا يعني أن جميع البشر استندوا إلى الاستدلال في مختلف تحركاتهم وسكناتهم، وفي اعتقاداتهم وقناعاتهم، وفي أحاسيسهم وعواطفهم، بل يعني أن اللجوء إلى الاستدلال هو خطوة قيّمة. فحينما نقول بأن الإنسان يعتبر الصدق قيمة أخلاقية، فإن ذلك لا يعني عدم وجود إنسان كاذب. فكثير من الناس يكذبون، لكنهم يعتبرون الصدق قيمة إيجابية، أي حينما يكذبون يعتقدون بأنهم مارسوا سلوكا مناهضا للمعايير الأخلاقية، فيشعرون إزاء ذلك بالخجل والندم. وعليه، حينما يقال عن الإنسان الحديث بأنه إنسان “استدلالي”، فإنّ من لا يستخدم الاستدلال سيشعر بالخجل. أما حينما يستخدم الاستدلال سيشعر بالابتهاج وسيعتقد بأنه مارس سلوكا يمكن الدفاع عنه دفاعا منطقيا أو معرفيا أو أخلاقيا. لذا استخدام الاستدلال بات يخلق مشاكل للتديّن في العصر الحديث. فالتديّن، بشكل عام، يستند إلى العبادة. والعبادة، وفق التفسير الذي سأشير إليه، لا تتوافق مع الاستدلال.

لذا عليَّ قبل كل شيء أن أوضّح المراد من مفهوم العبادة ومن مفهوم الاستدلال، لكي لا يعتقد البعض بأنني، وفي إطار روح العصر الحديث، أرفض إقامة علاقة تعبّد مع الله. العبادة والاستدلال هما موقفان أو طريقان لاعتماد أي عقيدة. الإنسان يستطيع أن يختار أحدهما لكي يخطو خطوته الأولى نحو الإيمان. وحسب الإنسان الحديث، يمكن السير في طريق الاستدلال بصورة أخلاقية أو منطقية أو معرفية، وهذا ما لا يتوافق مع طريق أو منحى العبادة.

الاستدلال هو بمعنى أنه إذا اعتقدتُ بأن “ألف هي باء”، فباستطاعتي أن أدلّل على ذلك بالقول مثلا: “بما أن ألف هي جيم، وجيم هي باء، إذن ألف هي باء”. بعبارة أخرى، عليَّ، في كل القرارات التي أتخذها وفي كل المعتقدات التي أعتقد فيها، أن استخدم طريقة للإثبات تستند إلى الاستدلال شريطة أن أستطيع أن أدافع عن مقدمات هذا الاستدلال. فإذا أنا قلت بأن “ألف هي باء”، ثم سألني أحدهم: ما هو دليلك على ذلك؟ وقلت بأن دليلي هو التالي: “بما أن ألف هي جيم، وجيم هي باء، إذن ألف هي باء”، فإنني هنا قد اخترت الحجة التي أستطيع أن أدافع عنها وعن مقدماتها. لكن إذا قلت بأن دليلي هو التالي: “ألف هي باء، لأن x قال ذلك”، وأيّاً كان هذا الـ”x”، فإن شكل العبارة المقترحة أصبح تعبّديّا. بالنسبة للمتديّنين في جميع المذاهب والأديان وليس فقط في الإسلام، وحتى قبل ظهور الحداثة، لم يكن هذا الشكل التعبّدي مزعجا لهم. بينما يمثّل هذا الشكل خللا كبيرا لذهن وضمير إنسان اليوم أو للإنسان المعاصر، لأنه، وفقا للمنطق، لا يمكن التوصل إلى نتيجة تقول بأن “ألف هي باء” استنادا إلى أنx” ” قال ذلك، إلاّ إذا اعتبرنا أن “كل ما يقوله x هو صادق”.

وهنا لابد من طرح الدليل الذي يمكن من خلاله إثبات أن عبارة “كل ما يقوله x هو صادق” هي عبارة استدلالية، لا أن أقبلها كعبارة تعبّدية. فحينما أتواجه مع هذا النهج في مسألة العقيدة، خاصة في علاقة ذلك بالمسائل المتعلقة بالتربية والتعليم الديني للنشء الجديد، لأبنائنا ولطلبتنا، سأحسّ بأن سؤالا سيوجه إليّ باعتباري أستاذاً أو أباً أو أمّاً وهو: لماذا تقول بأن “ألف هي باء”؟ لذا لا يكفي أن أقول في جوابي: “لأنx يقول بأن ألف هي باء”. فهذا النوع من الاستدلال مزعج للعقل البشري. لكن في الماضي، حينما لم يكن نهج العبادة يمثّل إزعاجا لذهن وضمير الإنسان، كان الأب يقول لابنه “ألف هي باء”، ثم يردّد الابن في ضميره “بما أن أبي قال إن ألف هي باء، إذن ألف هي باء”. واليوم حينما يقول الأب لابنه بأن “ألف هي باء”، سيقول الابن: “لقد قال أبي هذه العبارة، لكني لا أستطيع أن أصل إلى نتيجة منطقية حول ذلك استنادا إلى ما قاله أبي”. وعليه، سيطلب الابن دليلا من أبيه لإثبات ما قاله. ولأن الأب لا يملك دليلا على أن “ألف هي باء”، سيعتبر مطلب الدليل الذي قدّمه ابنه عصيان على سلطته، وسيصف ذلك بأنه بداية لصعود سلطة الابن.

في تصوري، تلك هي سلطة الاستدلال. يجب أن نفتخر بأن أبناءنا ليسوا مثلنا. حينما كان آباؤنا يتحدثون عن أمر ما، كنّا نقبل ما يقولون استنادا إلى أنهم أبائنا. كنّا مصداقا للآية القرآنية “إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون” (سورة الزخرف – الآية 23)، ولم نكن مصداقا للآية القرآنية “أَوَلَوْ كان آباؤهم لا يشعرون”؟.

لا يوجد فرق بين قائل عبارة “ألف هي باء، لأن x قال ذلك”، سواء كان قائلها أبي أو أمي أو البروفيسور الفلاني أو رجل الدين الفلاني، فالنتيجة واحدة ولا اختلاف حولها. ورغم إني لا أحبّذ الإشارة إلى الاستدلالات القرآنية في هذا المجال، لكن يجب الإشارة إلى أن القرآن لا يخالف هذا التوجّه. فممّا لا شك فيه أنكم قرأتم الآية الشريفة الواردة في القرآن “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله” (سورة التوبة – الآية 31)، وهي تعتبر من أكثر الآيات التي هجرها المسلمون اليوم. فالقرآن ينسب لليهود والنصارى بأنهم عبدوا رهبانهم ورجال دينهم بدلا من أن يعبدوا الله. أحد أصحاب الإمام الباقر (ع) (الإمام الخامس عند الشيعة) سأل الإمام: هل اليهود والنصارى كانوا فعلا يعبدون رهبانهم ورجال دينهم؟ فأقسم الإمام بأنهم لم يفعلوا ذلك، وقال: حتى لو كان الرهبان ورجال الدين قد طلبوا من الناس أن يعبدونهم، إلا أن الناس رفضوا. فقال الصحابي بأن القرآن أشار إلى ذلك بالنص. فردّ عليه الإمام بأن المراد من كلمة “أربابا” هو أن الناس كانوا يتصرفون مع رهبانهم ورجال دينهم بصورة لا تليق إلا مع الله. فأي شخص يتصرف مع شخص آخر بالصورة التي يجب أن يتصرف فيها مع الله، يكون في الواقع قد عبد الشخص الآخر. الله هو الوحيد الذي يجب أن نقبل حديثه من دون دليل. ولا أحد غيره يمكن قبول حديثه من دون دليل. وأي شخص يقبل حديث شخص آخر من دون دليل، يكون قد عَبد هذا الشخص. ولأنّ اليهود والنصارى قبلوا حديث رهبانهم ورجال دينهم من دون دليل، وُرِدَ بأنهم عبدوا رهبانهم. كانوا يقولون بأنه يجب على الناس أن يدفعوا عُشر أموالهم كاستقطاع شرعي (ديني)، وكان الناس يقولون بأنه علينا أن ندفع. ثم بعد أيام من ذلك قالوا بأنه يجب على الناس أن يدفعوا ثُمْن أموالهم، وقال الناس بأنه لابد أن ندفع، لكنهم لم يقولوا بتاتا بأنه لو كان الثُمْن حقيقيا اليوم لكان العُشر كاذبا، أو لو كان العُشر حقيقيا أمس لكان الثُمْن كاذبا. كانوا يردّدون بأن كل ما يقوله رجال الدين صائب. فهذا النوع من التعبّد هو أحد مشاكل التديّن. لذا أقولها بكل صراحة، إذا كان مجال التربية والتعليم في أي دين، سواء في الدين الإسلامي أو في غيره، يحتوي على مثل هذا النوع من الخطاب الذي يستند إلى قال الأول وقال الثاني، فذلك لا يمكن أن يكون مقبولا. لأنّ قبول أي خطاب اعتمادا على قائله لا اعتمادا على دليله يعتبر تعبّدا ويمثّل إزعاجا لعقل إنسان اليوم.

يمكن حلّ هذا الإشكال عن طريق توضيح المنطلق العقلاني في كلام أولئك الذين نعتبرهم عظماء ومحترمين، لا أن يرضخ الناس للكلام لأن فلانا قاله. يجب أن تكون المعادلة كالتالي: حتى لو قلنا بأن شخصا ما قال شيئا، ومهما كان هذا الشخص، فيجب أن يكون هناك دليل عقلاني على صحة ما قاله. لكن إذا طبّقنا نهج التعبّد فستكون النتائج ما نشاهده بوضوح في حياة الشباب اليوم. فهؤلاء الشباب لن يقبلوا الكلام استنادا إلى أن فلانا قاله، بل يشترطون توضيحه عن طريق الاستدلال، أو عرض رجحانه المعرفي، أو على الأقل إثبات معقوليته.

المشكلة الثانية التي تواجه التديّن في عصرنا الراهن هي أن هذا العصر أصبح ماديّا. بالطبع لا من حيث الجانب الفلسفي بل من حيث المنهجية. معنى المادية (materialism) و”المادية الفلسفية” (philosophical materialism) هو أن يعتقد الفرد بأنه باستثناء عالم العواطف والأحاسيس، وعالم المادة والأشياء المادية، والعالم الجسدي، فإنه لا يوجد أي عالم آخر ولا أي موجود آخر ولا أي جوهر آخر ولا أي قوة أخرى. ليس لزاما على الإنسان الحديث أن يكون قائلا بالمادية الفلسفية، بل يوجد الكثير من الناس اليوم ممّن هم ليسوا من أتباع المادية الفلسفية، وهم يعتقدون بوجود عوالم أخرى غير عالم الطبيعة الذي نعيش فيه. لكن هناك نوعا آخر من المادية ترسّخ في ذهن إنسان اليوم وهو “المادية المنهجية”(methodological materialism). وهذه لا تقول بوجود عالم آخر وراء عالم الطبيعة. فحينما نتعامل مع ظاهرة مادية في عالم العلوم الطبيعية التجريبية وفي عالم العلوم الإنسانية، بالتأكيد سنقول بأن علة مادية تقف خلف وجود هذه الظاهرة. لذا يعتقد الإنسان الحديث بالمادية المنهجية، لأنه إذا لم يكن يعتقد بذلك لن يكون لكثير من أنشطته أي معنى. المثال الواضح على ذلك هو: منذ بدء التاريخ البشري الذي دوّنه الإنسان، لم يتم اكتشاف علل مرض السرطان. إذا لم يكن للمادية المنهجية وجود، لتساءل الناس كم قرن نحتاج للبحث في العلل؟ السرطان في ذاته هو ظاهرة مادية، لكن إذا اتضح للعلماء أن علله غير مادية، لكانوا توقفوا عن البحث في علله المادية. إذاً لماذا لا تزال جهود الأطباء مستمرة للكشف عن علل هذا المرض رغم الجهود الفاشلة التي بذلت عبر التاريخ؟ لأنهم يعتقدون بأن العلل لم تُكتشف بعد، وسوف يتم اكتشافها يوما. فاستمرار هذه الجهود هو بسبب استنادها إلى عقيدة أساسية تقول بأن السرطان هو ظاهرة مادية وأن للمرض عللا مادية. إذا لم يكن لهذه العقيدة وجود في أذهان الأطباء والعلماء والباحثين، لكانوا توقفوا عن الاستمرار في البحث.

حينما تكون المادية المنهجية حاضرة، فإنك ستبحث عن التفسير الطبيعي للعديد من الظواهر التي ينسبها المتديّنون إلى العوالم العليا. العلّة التي تجعل الكثير من المتديّنين يستمرون في تديّنهم هي الأحداث الخاصة التي تحدث في حياتهم، مثل استجابة الدعاء وشفاء المرضى. هم يعتبرون وقوع أمر محتمل جدا لكنه مقبول، وعدم وقوع أمر غير محتمل وسيئ وغير مقبول، دليل على وجود تدخّل من عالم الغيب في المسائل. لكن حينما ننظر للأمور من زاوية المادية المنهجية، سواء كان هناك إله أو لم يوجد، وسواء كانت هناك عوالم عليا أو لم توجد، يجب أن نقول بأن المرض هو ظاهرة مادية، ولمعالجته يجب أن نلجأ لاكتشاف علته المادية. هذا الأمر أدى اليوم إلى أن يكون الجانب الأكبر من حياة المتديّنين في مواجهة مع إعصار المنهجية، بينما الجانب الآخر من حياتهم والمرتبط بالعلاقة بين الإنسان وربه هو واحد من أربعة أجزاء تشكّل حياتهم الدينية، وهو أهم جزء فيها. بمعنى أن علاقة الإنسان مع نفسه، وعلاقة الإنسان مع الإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، جميعها تقع تحت تأثير العلاقة بين الإنسان وربه. وهذا الجزء الأهم في نظر المادية المنهجية هو محل شك وشبهة، فمن يريد (مثلا) أن يدافع عن مسألة التربية والتعليم الديني يجب قبل ذلك أن يصل إلى توافق مع المادية المنهجية، وهذا التوافق من شأنه أن يتحقق بطريقتين: الأولى أن يتم رفض المادية المنهجية بصورة منطقية، أي من خلال سلاح المنطق لا غيره من الأسلحة. الثانية أن يتم التوضيح بأنه رغم صحة المادية المنهجية، مع ذلك فهي تتوافق مع تدخّل قوى ما وراء الطبيعة في الحياة.

المشكلة الثالثة التي تواجه التديّن في عصرنا الراهن هي أنه على الرغم من أن الإنسان الحديث لا ينكر الحياة بعد الموت، لكنه يعتقد بأن الاختبار الذي تتعرض له الجماعات الدينية والأديان والمذاهب سيكون دنيويا، أي لا يقبل هذا الإنسان بانتقال الاختبار إلى حياة ما بعد الموت. وتلك باعتقادي نقطة مهمة. ومثلما أسلفت، ليس ضروريا أن يكون الإنسان الحديث قائلا بالمادية الفلسفية، لكنه لا يستطيع إلاّ أن يكون ملتزما بالمادية المنهجية. لنتمعّن في جماعتين دينيّتين تسعيان لنجاة البشر، فنسألهما كيف يمكن أن نختبركما، كيف نعرف بأن الحق مع الجماعة الأولى وليس مع الجماعة الثانية، كيف نتحقّق من أن الجماعة الأولى تقول الحقيقة لا الجماعة الثانية؟ ولنفترض بأن كل جماعة قالت بأن شرعية مطالبها ستتحدّد بعد الموت، وأنها لا تملك أي معيار أو ميزان قبل الموت تستطيع من خلاله أن تدّعي بأنها تقول الحقيقة، ورغم ذلك فإن كل جماعة تطلب من الناس أن ينفّذوا كلّ ما تقوله وأن يلتزموا بالمعتقدات التي هي تعلن عنها وأن تسير عواطف وأحاسيس الناس في الطريق الذي هي تختاره وأن تصبح مطالب الناس واحتياجاتهم نفس المطالب والاحتياجات التي تقدّمها الجماعة وأن تسير أعمال الناس في المسار الذي هي تحدّده لهم. أي أن يصبح الناس متّسقين مع الجماعة الدينية في الجوانب الأربعة: المعتقدات، العواطف والأحاسيس، المطالب والاحتياجات، الأعمال. ثم نأتي نحن (الناس) ونسأل كل جماعة: ماذا سنجني من هذا الاتّساق؟ فتقول كل جماعة: لن تجنوا شيئا في هذه الدنيا بل كل ما ستجنونه سيكون بعد الموت في الدنيا الآخرة. لكن، عقل الإنسان الحديث لا يستطيع أن يقبل هذا الكلام. أي أنه سواء آمن الإنسان بوجود حياة بعد الموت أو لم يؤمن، سيرفض الفكرة التي تطرحها الجماعات الدينية والأديان والمذاهب بعدم انتظار نتائج الجوانب الأربعة في هذه الدنيا. وبانتقال النتائج إلى الحياة ما بعد الموت سيترتب على ذلك بروز مشكلتين: الأولى نظرية، تتمثل في عدم قدرة الإنسان على تحديد مكان الحقيقة ولدى أي جماعة دينية، وكذلك في ادّعاء كل جماعة بأن الحياة ما بعد الموت هي التي ستثبت وجود الحقيقة عندها.

أما المشكلة العملية فتتمثل في ادّعاء كل جماعة دينية بأنّ هدفها هو نجاة الإنسان، فإذا تم نقل النجاة إلى الحياة ما بعد الموت نكون قد تخلّينا عن اختبار ونقد الشيء الذي قد يؤدي إلى النجاة. لذلك، يجب أن نختبر نجاح أو عدم نجاح هذه المسألة في حياتنا الحالية وبصورة واضحة وصريحة. لا أقصد من ذلك أن نختبر مختلف الأمور كالسياسة والاقتصاد. فالإنسان الحديث لا ينتظر من الدين إنتاجا في السياسة وفي الاقتصاد. هو يريد شيئا من الدين لا يمكن أن يجده في غيره. يحتاج إلى خمسة أشياء لكي يعيش في هذه الحياة، وعلى الدين أن يوفّرها له في الدنيا، وإذا لم يوفّرها سيكون لا مباليا إزاء أي ادّعاء يطرحه الدين. هذه الأشياء الخمس هي: السعادة، السلام والهدوء، الأمل، الراحة الداخلية، وحياة ذات مغزى. وهي حاجات لم يطلبها من السياسة أو من الاقتصاد أو من العلوم التجريبية أو من الفلسفة، بل هو يتوقّع أن يوفرها له الدين، وإذا وفّرها، سيقتنع بهذا الدين أيّاً كان اسمه. هو لا يعشق جمال وجه صاحب أي دين من الأديان، ولا يعظّمه لأن الآخرين يعظّمونه. فهو حينما يذهب لشراء الخبز فلا دخل له بجمال وجه الخبّاز إنما له دخل بنوع الخبز. كذلك حينما يبحث عن حاجاته المعنوية/النفسية فإنه يبحث عمّن يوفّر له هذه الحاجات ولا دخل له بجمال وجه صاحب هذه الحاجات أو بتاريخه أو جنسيته أو انتمائه العائلي. له دخل بقدرة الدين على توفير الحاجات الخمس لمعالجة نواقصه النفسية. فأنا غير سعيد وأريد أن أكون سعيدا، غير متفائل وأريد أن أكون متفائلا، لا أملك السلام والهدوء وأريد الحصول على ذلك، حياتي ليست ذات مغزى وأريد الحصول على ذلك. أكره نفسي وأسعى للحصول على راحة داخلية. أريد هذه الحاجات الخمس، وأي مدرسة دينية تستطيع أن توفرها فليكن، وأي مدرسة دينية لم تستطع أن توفرها فليكن. فإذا تمت تلبية تلك الحاجات وكانت هناك حياة ما بعد الموت، لن يخسر أحد، وإذا تمت تلبية تلك الحاجات ولم تكن هناك حياة ما بعد الموت، أيضا لن يخسر أحد. فبعدم وجود حياة ما بعد الموت يكون الإنسان قد عاش حياة ذات مغزى ملؤها السعادة والسلام والهدوء والأمل والراحة الداخلية. وبوجود حياة ما بعد الموت لن يصيب الإنسان أي ضرر، إذْ الآخرة ليست إلا تجسيدا لروح الإنسان في الحياة الراهنة. فإذا كانت روح الإنسان في هذه الحياة مليئة بالتفاؤل والسعادة والهدوء ورافضة أن تتبنى الكراهية ومستكشفة لحياة ذات مغزى، ستكون على نفس الشاكلة هناك. فالآية 72 في سورة الإسراء تقول “ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا”. إذا استمرت أعيننا مغلقة هنا، ستظل مغلقة في مكان آخر. وإذا تقرر أن تكون الأعين مفتوحة في مكان آخر، يجب قبل ذلك أن تكون مفتوحة هنا. بل إن فكرة أن تكون أعيننا مفتوحة في مكان آخر، ليست إلا صورة لأعيننا المفتوحة في هذا العالم. هذا نوع من أنواع العلمانية. لا العلمانية بمعناها السياسي والواردة في الفلسفة السياسية، بل بمعنى إخضاع جميع أفكار المدارس الدينية والجماعات الدينية والمذاهب والأديان للاختبار في هذه الدنيا. إذا تم رفض الاختبار فإن المطالب ستكون باطلة ولن يقبلها أحد. وحتى لو كانت المطالب صادقة، لن يُلتفت إليها. هذا الاختبار مهم جدا. قلت مرارا، إذا أردنا من شبابنا أن يصبحوا متديّنين بأي دين – خاصة وأننا نريدهم أن يكونوا متديّنين بالدين الإسلامي – يجب أن نكون قادرين على استخراج أحكام وتعاليم من هذا الدين بحيث إذا تعلّق الشاب بالدين ساهم ذلك في إضفاء السعادة والسلام والهدوء والأمل والراحة الداخلية عليه وقلب حياته إلى حياة ذات مغزى. لا أن نراه وقد وقع في أسوأ مستنقع روحي ومعنوي ثم نقول له لا تنسى فإن أي ذكر تردّده ستكون نتيجته قيام الملائكة بمنحك المزيد من القصور والأنهار. إذا لم يتحقق حصول الإنسان على مطالبه الروحية/المعنوية في هذه الدنيا فإن جميع الأمور الأخرى هي مجرد خداع. يجب عليَّ أن أملك شيئا هنا، فإذا لم أستطع أن أملك شيئا هنا فلن أملك شيئا في أي مكان آخر.

هذا نوع من أنواع العلمانية، وهذه العلمانية جعلت التديّن الحديث عرضة لكثير من المشكلات. ولا أقصد من هذا الكلام بأن تلك المشكلات غير قابلة للحل، بل أقصد أن ما يتوقّعه المتربّون والمتعلّمون من مربّيهم ومعلّميهم المتديّنين هو أن يقدّموا الدين بهذه الشاكلة. نحن نغلّف الدين بصور قاحلة، ثم نتوقّع من الدين أن يعالج ذلك.

المشكلة الرابعة التي تواجه التديّن في عصرنا الراهن هي العولمة، وهي لها أبعاد مختلفة لا أريد التطرق إلى جميعها. ما هو مهمّ هنا هو أن العولمة استطاعت أن تعرّف المتديّنين على الأديان الأخرى. وحينما يتعرّف المتديّن المسلم أو المسيحي أو البوذي على الأديان الأخرى ينتج عن ذلك بعض المشكلات. إذا كنتُ أشاهد فقط التلفزيون الذي أنا اشتريته والموجود في منزلي، واعتقدتُ بأنه الوحيد في العالم، فإنني سأعشق هذا التلفزيون وسأحافظ عليه بكل ما أملك من قدرة. لكن إذا زرت معرضا للتلفزيونات وشاهدت مختلف الأنواع والموديلات التي تفوقه فسوف يتغير رأيي في التلفزيون الذي أملكه. فإذا لم أجد منافسا لتلفزيوني فسأتشبّث به، وحالما وجدت المنافس الذي قد يفوقه لن أستمر في التشبّث به. المراد من هذا المثال هو استمرار تمسّك الإنسان بدينه وبمذهبه ما دام لم يتعرّف على الأديان والمذاهب الأخرى. لكن حينما تجعله العولمة في مواجهة مع الظواهر الدينية المختلفة في العالم، سيكتشف بأن نقاط القوة الموجودة في دينه موجودة أيضا في الأديان الأخرى، ونقاط الضعف الموجودة في الأديان الأخرى موجودة في دينه. بل سيكتشف أيضا بأن المنتج المتعالي القيمي الموجود في دينه موجود أيضا في الأديان الأخرى. مثلا لديه في دينه ومذهبه شخصية مثل الصوفي جلال الدين الرومي (مولانا) أو مثل المفكر الكبير شيخ الإشراق (شهاب الدين السهروردي)، ثم يكتشف وجود شخصيات بنفس الثقل الفكري والصوفي في الأديان والمذاهب الأخرى. بعبارة أخرى، هذه الشخصيات ليست فريدة ويوجد مثيل لها. وإذا كانت هناك نقاط ضعف لدى الآخرين، توجد مثلها في ديني ومذهبي. فحينما يتعرّف الإنسان على الأديان والمذاهب الأخرى، سيكتشف ثلاث نقاط: الأولى، أنه رغم الاختلافات الظاهرية والشكلية بين الأديان والمذاهب، سيجد بأن أساسها وأرضيّتها تتشابه إلى حد كبير. الثانية: أن الكثير من نقاط القوة الموجودة في دينه ومذهبه سيراها في الأديان والمذاهب الأخرى. الثالثة: أن الكثير من نقاط الضعف الموجودة في الأديان والمذاهب الأخرى سيكتشف بأنها موجودة أيضا في دينه ومذهبه.

في هذه الحال، إمّا سيصعب أمر التديّن بالنسبة للمتديّن، أو أن المتديّن سيبرز دينه ومذهبه باعتبارهما أعلى درجة من الأديان والمذاهب الأخرى. وإذا رأى هذا العلو في دينه ومذهبه سيتمكّن من الالتزام بذلك. وهنا سيصعب الأمر مجددا على المربّين والمعلّمين. فرغم التهديدات والضغوط الموجودة اليوم في بلادنا (إيران) ضد مختلف الأديان والمذاهب، بات طلاب الجامعات على علم بتعاليم الديانة البوذية (buddhism) وتعاليم ديانة الشنتو (shintoism) وتعاليم ديانة الجاين (jain) وتعاليم الديانة الهندوسية (hinduism) وتعاليم الديانة الكنفوشية (Confucianism) وتعاليم الديانة المسيحية (Christianity). اليوم لا يمر يوم إلا ونقول فيه بأن السلعة الفريدة من نوعها الخاصة بالفرد هي هذه السلعة. على هذا الأساس فإن المعلّم الديني والمربّي الديني يجب أن يكون قادرا على عرض سلعته في سوق السلع المتنوعة. لكنني قلت مرارا وسأقولها مجددا بأنه من الصعوبة القيام بهذا الأمر، ليس بمعنى عدم وجود مخرج لذلك، بل بمعنى وجود صعوبات في هذا الطريق وأن تلك الصعوبات لم تكن موجودة في طريق المتديّنين السابقين.

إذا دقّقنا النظر في المشكلات الأربع التي تم طرحها، سنستنتج بأن جميع المشكلات الأخرى المرتبطة بالتديّن، والتي أشرت إليها في مواضع كثيرة، هي ليست إلاّ جزءا من المشكلات الأربع. وإذا كنّا نعتقد صادقين بأن الحياة اليوم تحتاج إلى الدين مثلما كانت الحياة في الماضي تحتاج إلى الدين، وأنه لا يمكن الاستغناء عن وظيفة الدين، ولا نريد للدين أن يفقد حضوره في الساحة الثقافية، لن يكون من سبيل أمامنا إلاّ التطرّق إلى المشكلات الأربع وفحصها بدقة، ونقد الأسس النظرية والحلول التي وُضِعت لمعالجتها، وأن نرى إلى أي مدى كانت تلك الجهود ناجحة أو كانت غير ناجحة. في إطار هذه الظروف يمكن لحياتنا الحديثة المعاصرة أن تبقى دينية. لكن لا يمكننا أن نغيّر الوضع عن طريق دفن رؤوسنا بالرمال. سوف نكون ناجحين بحق حينما نواجه الوقائع دون أن نكون مبتلين بالأمراض الخمسة التالية: الأنانية (narcissism) التعصّب (fanaticism) الجزم والدوغمائية (dogmatism) التحيّز (prejudice) وعدم التسامح (intolerance). يجب أن نواجه الوقائع في الحياة دون أن نكون مبتلين بهذه الأمراض. أعتقد شخصيا، من دون مجاملة أو جدال، أننا لا نزال نستطيع أن نملك رسالة من أجل الروحانية/المعنوية (spirituality) ومن أجل الدين. لكن الناس المرضى، الضعفاء، المنبوذين، لا يستطيعون أن يحيوا المعنوية في حياتنا المعاصرة. حياتنا الراهنة بحاجة ماسة للمعنوية، ولكي تتحقق هذه الحاجة نحتاج إلى عمل جاد.

*هو أحد عناوين نصوص كتاب المفكر الإيراني مصطفى ملكيان، الصادر عام 2015. عنوان النص بالفارسي: “دينداري در عصر جديد” (التديّن في العصر الحديث). اسم الكتاب: “در رهگذار باد و نگهبان لاله” (في مهب الريح وحامي زهرة التوليب) الصادر عن دار “نشر نگاه معاصر” – الطبعة الأولى 1394 هجري شمسي (2015 ميلادي).

**مصطفى ملكيان، مفكر إيراني مهتم بأفكار العقلانية والمعنوية.

*فاخر السلطان، كاتب وباحث كويتي.

fakher_alsultan@hotmail.com

اترك رد

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Share.

اكتشاف المزيد من Middle East Transparent

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading