الآن اكتشفنا أن ما يجمعنا بالتونسيين هو التسامح الديني وليس فقط “قرطاجة” الفينقيقة بنت مدينة صور الجنوبية. وكنا اكتشفنا بعد سقوط الطاغية معمر القذافي أن طرابلس عاصمة ليبيا أسّسها الفينيقيون في القرن السابع قبل الميلاد وأطلقوها عليها تسمية Oyat، وكذلك “صبراته” و”لبدة الكبرى” (للعلم، إذاً: هي مدن فينيقية و”لن ننتازل عن شبر واحد منها”!).
مع تهنئة التونسيين بتسامحهم الديني، وبالجميلة “كلوديا كاردينالي” التي ولدت في ضاحية حلق الوادي، فإننا نحذّرهم من إقحام “العدرا” في السياسة، كما فعل اللبنانيون في حزيران/يونيو 2015 حينما أدخلوا تمثال “سيدة فاطيما” إلى مجلس النوّاب وسط “همروجة” شارك فيها العونيون و”القوات”!! وقد اضطرت “سيدة فاطيما”، داخل “حرم البرلمان”، للإستماع إلى “آباتي” ألقى كلمة قال فيها: “باسم البطريرك الراعي نناشد العذراء مريم ان تتدخل وتأتي برئيس للجمهورية”!!
وبالنتيجة، “استجابت العذراء مريم”(!!) و”كافأت” اللبنانيين على “هَبَلِهِم” برئيس “بيتاني” يحمل علامة “صُنِعَ في طهران”! رجاءً، ” لا تناشدوا العدرا” حتى لا تُرَئِّس عليكم جبران باسيل أو سليمان فرنجية!
*
(وكالة الصحافة الفرنسية)- في ضاحية العاصمة التونسية حلق الوادي، يُحتفل كل سنة بنقل تمثال “سيدة تراباني” من كنيسة صغيرة إلى شاطىء البحر، في موكب يعكس نجاح اندماج إيطاليي تونس على مدى قرنين الذي يعتبره أحفادهم نموذجا يجب الاقتداء به في استقبال المهاجرين الجدد.
ويجري الموكب في 15 آب/أغسطس من كل عام في حلق الوادي وسط صلاة “السلام عليك يا مريم” وزغاريد نساء مسلمات.
وكان هذا التقليد السنوي استؤنف في 2017 بعدما وضعت تونس المستقلة في 1964 حدا له.
ويقول المطران إيلاريو أنتونيازي (74 عاما) أنه كل عام “يُنقل تمثال العذراء أبعد قليلا” خارج محيط الكنيسة الصغيرة خصّصها لها في 1848 أحمد باي الأول المولود لأم إيطالية من سردينيا.
ويضيف أنتونيازي الذي يعيش في المنطقة العربية منذ خمسة عقود أن تونس “حيث يُحترم المسيحيون” ويُقبلون هي “البلد الوحيد في المغرب (العربي) الذي يمكن أن يتم فيه هذا النوع من المسيرات”، مؤكدا نها تمثّل “قدوة لدول عربيّة عدة”.
هذا الموكب كان ينظمه صيّادون صقليّون استقروا في البلدة الساحلية الصغيرة قرب تونس ويشارك فيه مسلمون ويهود من حيّ “صقليّة الصغيرة”.
وفي فيلم وثائقي بعنوان “صقليو إفريقيا. تونس: أرض الميعاد” عرض قبل بداية الصيف، أراد ألفونسو كامبيسي وهو نفسه حفيد صقليين هاجروا إلى تونس في 1830، “سرد القصة المنسية” ل130 ألف من إيطاليي تونس أغلبهم صقليون.
لا يزال حضور الإيطاليين مؤثرا في اللغة والعمارة والمطبخ في تونس مع أن معظمهم اضطروا لمغادرة البلاد بعد الاستقلال في 1956 خصوصا بسبب قوانين تأميم أراضي الأجانب وتونسة المهن.
ومن أشهر وجوه هذه الجالية النجمة السينمائية كلوديا كاردينالي التي ولدت في حلق الوادي.
– “حلقة مفقودة” –
يبدو التراث الإيطالي ماثلا في كل مكان: في مباني “المدينة الأوروبية” في تونس وعلى لافتات باللغة الإيطالية وأسماء أصناف الأسماك (“تريليا” للبوري الأحمر) وفي تعبيرات مثل “داكوردو” (حسنا) أو لتسمية حرف قديمة مثل جامع “الروبا فيكيا” (الأغراض القديمة) الذي يجول الأحياء الشعبية.
ويوضح كامبيسي أستاذ الحضارة الإيطالية في تونس أن فكرة الفيلم ولدت “عندما قال لي صقليون من الجالية القديمة – بضع مئات – +اسمح لنا بالتكلم فنحن الشعب الصامت+”.
وتؤكد أستاذة اللغة إيطالية في الجامعة التونسية نادية ناجي لفرانس برس أنه على الجانب التونسي من المتوسط “نجهل أيضا تلك الفترة من التاريخ، هناك حلقة مفقودة” بما في ذلك الكتب المدرسية.
وتعكس هذه الذاكرة فترة طويلة من التعايش بين جاليات متنوعة تضم أكثر من 100 ألف يهودي وآلاف المالطيين واليونانيين والإسبان.
وقال عاطف الشاذلي (65 عاما) أخصائي التصوير بالأشعة بعدما شاهد فيلم ألفونسو كامبيسي “أخبرني أجدادي عن أصدقائهم اليهود والإيطاليين والصقليين. لم يكن هناك تونسيون (في جانب) وآخرون في جانب ثان”. وأضاف أن “اليهود كانوا مندمجين جيدا وكذلك الإيطاليون والمالطيون”.
من جهتها، أكدت سيلفيا فينزي (67 عاما) التي تنتمي إلى العائلة المؤسسة لمجلة “كورييري دي تونسي” والتي وصلت في منتصف القرن التاسع عشر أن “الإيطاليين كانوا أقرب إلى الشعب التونسي لأنهم تشاركوا معه الحالة الدونية نفسها” في عهد نظام الحماية الفرنسي (1887-1956).
“نموذج”
وصل إيطاليو تونس على موجات في القرنين التاسع عشر والعشرين، وانعكس تنوعهم في 120 مجلة وصحيفة أسسوها بين 1838 و1956 السنة التي أطلق فيها “كورييري دي تونيسي” التي لا تزال تصدر حتى الآن وتديرها فنيزي.
كانت الغالبية العظمى من المهاجرين الإيطاليين عمال بناء ونجارين وسبّاكين وميكانيكيين أو عمالا زراعيين فروا من إيطاليا لأسباب اقتصادية وبسبب تأثير المافيا في صقلية.
وتشير فينزي إلى أنهم عاشوا في الأحياء نفسها مع التونسيين و”كان هناك تقاسم للأفراح والأتراح وتشارك في مناسبات بعضهم البعض” بما في ذلك الأعياد الدينية.
في فيلمه الذي عُرض هذا الصيف في مهرجانات عدة، يسعى ألفونسو كامبيسي إلى إظهار كيف أن تونس “استطاعت أن تستضيف عددا كبيرا من الفقراء القادمين ليس فقط من صقلية بل كذلك من اليونان وكورسيكا وإسبانيا”.
لكن تلفت سيلفيا فينزي إلى أن الوضع لم يكن مثاليا لأن “حواجز فصلت بين الجاليات، ولا سيما حواجز دينية”. فقد كان من الصعب على شابة تونسية مواعدة شاب إيطالي أو العكس.
وترى فينزي وهي باحثة أيضا أن تونس أنشأت “تعايشا” بين فسيفساء من المهاجرين “من دون إجبارهم على نسيان جذورهم”، وقد أنتجت تلك الحقبة مزيجا من “الحنين والرغبة في أن يبقى البلد منفتحا ومتسامحا”.
وترى فينزي أن تلك العقليّة تمثل “نموذجا يجب الاقتداء به في فرنسا وإيطاليا والعالم بأسره”.
وتختم “يدل ذلك على أنه حيثما يصل المهاجرون وتتم استضافتهم، فإن ذلك ينتج انفتاحا وتسامحا ولكن أيضًا ثقافة ومعرفة وحرِفا وخصوصيات تثري الثقافة الوطنية”.