استقرت شيرين أيقونة وطنية في ضمير شعبها. وقد استفزت هذا الحقيقة، وما رافق تكريسها من طقوس جنائزية مهيبة، إسلاميين أصروا على طردها من قائمة مَنْ تجوز عليهم “الرحمة”. وهذا، بدوره، استنفر عاطفية وطنية تجلّت في وردود فعل صاخبة وغاضبة ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي على مدار أيام، وترددت أصداؤها خارج فلسطين.
أود الكلام عمّا لم يحتل المتن. فمن المُرجّح أن ثلاثة أشياء أزعجت معارضي فعل “الترحّم” على شيرين، التي طوّبتها جموع الشعب ابنة وفقيدة: كونها امرأة، وسافرة، وغير مسلمة. ولعل مفردة واحدة من أضلاع المثلث الناري تشكّل، منفردة، مصدر استفزاز فظيع، وما أدراك إذا اجتمعت وتكافلت وتضافرت ثلاث مفردات في حالة واحدة.
المرأة في ذاتها مشكلة، وما أدراك إذا كانت سافرة، ناهيك عن كونها كينونة شيطانية مُفخخة؟ حتى الصبية عهد التميمي، التي صفعت جندياً إسرائيلياً، أثار سفورها حفيظتهم. ولنتخيّل كيف يكون الحال: إذا تضافرت دلالات امرأة + سافرة + غير مسلمة؟ لم يتجاهل هؤلاء الدلالتين الأولى والثانية إلا لأن الثالثة “أفظع”. وهذه مسألة أولى غابت عن ردود الوطنيين.
وفي السياق نفسه، حين ساط الوطنيون خصومهم بمفردات ونعوت هجومية وجارحة، غابت عن أذهانهم قاعدة ذهبية في فنون الإعلان والإعلام مفادها:
لا وجو لدعاية سيئة، ففي كل حملة دعائية بصرف النظر عن كفاءة أصحابها، ما يصب الماء في طاحونة خصومهم، فيسلّط الضوء عليهم، وينقل كلامهم من الهامش إلى المتن. وقد استفادت “الجزيرة” القطرية من هذه القاعدة في معرض تسويق الإخوان والوهابيين، والدعاية بطريقة غير مباشرة لجماعات إرهابية كالقاعدة وداعش، لا تستطيع الدفاع عنها بصورة مباشرة.
لذا، أعتقد أن القائلين بعدم جواز الترحّم على امرأة + سافرة + غير مسلمة، استفادوا ثلاث مرّات من الردود التي تصدّت لهم:
أولاً، حين سلّطت الضوء عليهم، فهم يعيشون في الهامش، وعلى الهامش، وفي مجرّد تسليط الضوء عليهم ما يمنحهم حجماً وأهمية لا يستحقونها، والأسوأ من هذا كله أن أفكارهم تنتقل من الهامش إلى المتن لتصبح نوعاً من “الرأي الآخر”، الذي يكتسب ما يبرر حضوره، وحتى حق الاحترام، والمساواة، استناداً إلى قيم وحقوق من نوع حرية التعبير، التي لا يؤمن أصحابه بها، ويصدر عن قناعات لا علاقة لها بالمنطق التجريبي، أو بالمنطق نفسه، وما قيمة هذا وذاك في نظر أشخاص نصبّوا أنفسهم ممثلين للإرادة الإلهية.
ثانياً، وقع الوطنيون، في معرض الرد على خصومهم، في شرك أُعد بإحكام، وصار سقفاً يكاد يكون وحيداً للسجال العام، في الحواضر العربية، على مدار نصف قرن مضى: أعني أن السجال مع ممثلي الإسلام السياسي، على اختلاف راياتهم وتسمياتهم، يدور في إطار المدوّنة الفقهية، ويتجلى كخلاف، أو تباين، في تأويلها، بدلاً من نقدها ونقضها.
نشأت المدوّنة الفقهية واكتملت ما بين القرنين الثاني والخامس للهجرة. ولولا طفرة النفط، والنموذج الأركيولوجي القروسطي لدول نشأت في هوامش العالم العربي، في القرن العشرين، لما كانت لها مكانة مركزية يُعتد بها في عالم اليوم.
لذا، لا فائدة من الرد على شخص يقول بعدم جواز الترحّم على غير المسلمين، أو جواز السبي والاسترقاق، مثلاً، بالقول إن في المُدونة الفقهية ما يجيز الترحّم، ويُبطل السبي والاسترقاق. ففي فعل كهذا ما يُضفي على كلام الأوّل وجاهة “الرأي الآخر” القابل للنقاش بمفردات وأخيلة ودلالات تخصّب وتعمّق حضور وراهنية مدوّنة فقهية يستمد من حرفية تمثيله لها شرعية وجوده.
الخلاصة، ينبغي لكل رد محتمل أن يكون بلغة القرن الواحد والعشرين، ومفردات الدولة الحديثة، والمواطنة، والدستور، والقوانين والمعاهدات الدولية ذات الصلة، بدلاً من تكريس وديمومة دائرة فقهية مُغلقة.
لا تتخيّلوا أن وجود الإسلامي مسألة عفوية. فقد حبلت به المدوّنة الفقهية على مدار قرون، وأُنفقت عليه مليارات الدولارات النفطية، على مدار نصف قرن مضى، ونشأت لرعايته، من المهد إلى اللحد، آلاف مؤلفة من الجمعيات والبنوك والجامعات والسوبرماركت، والتلفزيونات، والشبكات، والدول في الإقليم والعالم. وكلما صار تحت الضوء صارت إمكانية تذكير الممولين بأهميته أكبر. كان من الأجدى، بدلاً من محاولة إثبات ضلاله، مطالبة الجهات المختصة بالتحقيق في مصادر تمويله، وشبكات علاقاته المالية والأيديولوجية.
أخيراً، هذه ملاحظة عابرة، وقد نكرّس لها في وقت لاحق معالجات موّسعة. أعني: في الفضاء الإلكتروني، الإنترنت واليوتيوب، ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المدوّنة الفقهية منذ ألف عام. وما يضفي عليها أهمية استثنائية صعوبة إخضاعها للرقابة، أو ملاحقة القائمين عليها، والأهم أن ممثلي صفها الأوّل من المؤهلين علمياً، والمختصين في علوم كالتاريخ، والآثار، واللغات. معهد “إنارة” الألماني، مثلاً.
تتمثل الظاهرة المعنية في تفكيك المدوّنة الفقهية، وسرديتها وتاريخها، وإعادة بناء كل ما يتصل بها من تواريخ وعلوم وجغرافيا بفرضيات تاريخية وعلمية وجغرافية جديدة. بدأت الظاهرة في الأكاديميا الغربية في الربع الأخير من القرن الماضي (باتريشيا كرونه ومايكل كوك..الخ) ويبدو أنها وجدت في جيل جديد أنجبته الحواضر العربية ممثلين ومجددين لا يقلون أهمية عن أساتذتهم. أضافة إلى كريستوف لوكسنبرغ، الاسم المستعار للبناني يشكّل ظاهرة فريدة قد تغيّر كل مناهج الدراسات الإسلامية في الغرب.
لم تكن ردة فعل كهذه ممكنة على نطاق واسع قبل الدواعش، وما رافق ظهورهم من تجليات عودة المكبوت الديني، وما وسمه من دم وعنف، ونفور في الحواضر والعالم. ولن تكون ردة فعل الوطنيين الفلسطينيين فاعلة ومؤثرة ما لم يدركوا أنهم جزء من معركة أكبر.