من خلال لعب ورقة الصين، يتصور رئيس جيبوتي أنه مؤهل للحفاظ على صلاته التقليدية مع فرنسا وصلاته الاستراتيجية مع واشنطن.
باريس – جيبوتي ذلك البلد العربي الأفريقي الصغير كان من بين الدول التي أعلنت تضامنها مع السعودية في وجه الاعتداء الإيراني على سفارتها في طهران، وعلى قنصليتها في مشهد. فقامت جيبوتي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
قبل ذلك بأسابيع قليلة كان الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله يستقبل وزير المالية السعودي في الرياض، لمناقشة تعزيز الاستثمارات المشتركة، إلى جانب تسليط الضوء على نشاط الصندوق السعودي للتنمية ودوره في تمويل الصادرات الوطنية وزيادة حجمها في جيبوتي، التي تبدو دولةً تبحث عن راعٍ، في الوقت الذي نسي فيه العرب طويلاً الأهمية الاستراتيجية للدولة الصغيرة على الممرات المائية وسط خطوط التوتر.
بداية العام الماضي 2015 كانت قد شهدت إعلان صندوق أبوظبي للتنمية، المملوك لحكومة أبوظبي، عن توقيع مذكرة تفاهم بشأن منحة تقدمها دولة الإمارات إلى جيبوتي تبلغ قيمتها أكثر من 183.5 مليون درهم إماراتي (50 مليون دولار). وأوضح الصندوق حينها، أن هذه المنحة ستخصص لتمويل عدد من المشاريع التنموية، سيتم تحديدها والاتفاق عليها بالتعاون مع حكومة جيبوتي.
وأشار إلى أن المنحة ستصرف على “مدى خمس سنوات، على شكل دفعات 36.7 مليون درهم إماراتي؛ أي ما يعادل عشرة ملايين دولار سنوياً”. وكان صندوق أبوظبي للتنمية قد وقّع في عام 2012 مذكرة تفاهم مع جمهورية جيبوتي لدعم خزينة الدولة، بتخصيص منحة بلغت قيمتها الإجمالية نحو 26 مليون درهم إماراتي (7.07 مليون دولار).
تحالفات وتغيير تحالفات
قد تقع جيبوتي اليوم ضحية الفوضى العالمية وتغيير التحالفات، واحتمالات اهتزاز الاستقرار فيها، بينما تتفاقم في جواره النزاعات، والأرجح أن نزعة الرئيس الحالي إسماعيل عمر جيله للاستقرار والاستمرار في الحكم يمكن أن تدفع بالبلاد نحو الأسوأ وتزيد من التهديد للأمن الإقليمي عامة، وبشكل خاص للقوى العربية حول البحر الأحمر والخليج.
مصالح القوى الغربية، ذات النفوذ التاريخي في هذه الناحية من القرن الأفريقي، ستتأثر بحالة اللااستقرار المحتملة والتبدلات المتوقعة. فمن خلال لعب ورقة الصين، يتصور الرئيس إسماعيل عمر جيله أنه مؤهل للحفاظ على صلاته التقليدية مع فرنسا وصلاته الاستراتيجية مع واشنطن، متناسيا حجم التنافس حول المحيط الهندي بين القوى الكبرى في مرحلة الاضطراب الاستراتيجي.
ربما اعتقد جيله أن انعطافاته لا تهمّ واشنطن، مع انتقال الاهتمام الأميركي من أولوية الشرق الأوسط إلى آسيا والمحيط الهادي، ولذا قرر الاستدارة نحو بكين، لأن الصين تركّز في هذه المرحلة على طرقها البحرية الجديدة لتدعيم توسّعها الاقتصادي وتحجيم المصالح الغربية.
جيله هو ثاني رئيس لجيبوتي منذ أن حازت الجمهورية على استقلالها. ولد في أثيوبيا وتلقى تعليمه في المعهد الديني فيها وفي جيبوتي، والتحق بعد ذلك بالشرطة الفرنسية حتى وصل إلى رتبة مفتش.
استقال بعدها من سلك الشرطة الفرنسية، وقاد حركة “استقلال الشعب الأفريقي”. فمثّل الحركة في كثير من البعثات الخارجية. وكان عضوا بفريق التفاوض للاستقلال عن فرنسا في العام 1977، وبعد الاستقلال عيّن رئيسًا لمجلس الوزراء الرئاسي. وهو المنصب الذى ظل يشغله لمدة 22 عاما.
اندمجت حركة استقلال الشعب الأفريقي مع أحزاب أخرى لينبثق عنها “حزب التجمع الشعبي للتقدم”. وفي عام 1983 انتخب جيله للجنة المركزية للحزب، وترأس اللجنة الثقافية له في باريس، ثم انتخب للمرة الثالثة نائبًا لرئيس الحزب.
رشحه حزبه للترشح لرئاسة جيبوتي، بعد أن قرر الرئيس الجيبوتي حسن جوليد، الذي حكم جيبوتي منذ استقلالها وحتى عام 1999 عدم خوض الانتخابات، فانتخب جيله رئيساً.
الموقع والإرهاب والطرق البحرية
جيبوتي توصف بأنها “حاملة الطائرات الفرنسية البرية”، حسبما يطيب للعسكريين الفرنسيين نعتها، خاصة وأنهم يحتفظون بقاعدة عسكرية تاريخية في هذا البلد الذي بقي خاضعا للاستعمار الفرنسي حتى عام 1977.
تتمتع جيبوتي جوهرة القرن الأفريقي بموقع جيوبولتيكي فريد. إذ تقع بالقرب من مضيق “باب المندب” الممر الرئيسي للتبادل التجاري في العالم. والشريان الذي يغذّيه بالنفط من دول الخليج المنتج الأكبر له دولياً.
في السنوات الأخيرة، زادت الأهمية الاستراتيجية لدور جيبوتي نظرا للحاجة إلى موقعها في مكافحة القرصنة والإرهاب، الذي تنامى في الصومال واليمن وفي منطقتي البحر الأحمر والمحيط الهندي.
الاستقرار اهتز في جيبوتي في 21 ديسمبر من العام الماضي 2015. إثر اشتباكات في بلدة بلدوقو قرب بلبلا بضاحية جيبوتي العاصمة، حيث كان يجرى حفل تقليدي ديني بحسب المعارضة، مما أسفر عن سقوط عشرات القتلى والجرحى في سابقة تدل على احتقان بين الناس، بالرغم من القبضة الحديدية للرئيس جيله.
وكان موقع ميدل إيست أونلاين قد نشر تقريراً في أكتوبر من العام الماضي يبين حجم القاعدة العسكرية الأميركية في جيبوتي، وجاء في التقرير “لا تعترف الولايات المتحدة الأميركية رسميا إلا بقاعدة عسكرية واحدة لها في أفريقيا وهي جيبوتي، والتي أنشأتها في 2003 في إطار الإجراءات الأمنية والعسكرية التي اتخذتها واشنطن على خلفية هجمات 11 سبتمبر 2001، وأيضا من أجل تأمين حركة التجارة العالمية من خلال المدخل الجنوبي لقناة السويس، معبر 70 بالمئة من النفط الذي تصدّره دول الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة.
وبحسب ما تداولته بعض وسائل الإعلام الدولية بما في ذلك مجلّة لوبوان الفرنسية، نقلا عن مسؤول في البنتاغون، فإنّ قاعدة جيبوتي تضم نحو 3 آلاف و200 رجل ما بين عسكريين ومدنيين، وهذه القاعدة تعتبر محور الأنشطة العسكرية الأميركية في منطقة القرن الأفريقي المثقلة بأعمال القرصنة”.
يشير جيله إلى القواعد العسكرية في بلاده على أن الغرض منها هو المراقبة، ويشرح تلك المهمات بقوله إنها “مراقبة ضد الإرهاب ومراقبة للبحر الأحمر والمحيط الهندي، والذي له أهمية كبيرة بالنسبة إلى التجارة العالمية، أما الوجود الفرنسي فهو ضمن الوضع الاستراتيجي لجيبوتي ويمثل مصالح فرنسية استراتيجية في هذا العالم”.
منظومة البحر الأحمر
الصدامات الدامية اندلعت بعد أيام على إعلان الرئيس الجيبوتي عن ترشحه لولاية رئاسية رابعة، استعدادا للانتخابات الرئاسية المرتقبة في أبريل 2016. إذ يسعى جيله إلى تسويق نفسه عبر التركيز على خبراته في مواجهة تحديات الأمن الاقليمي المهتز في منظومة البحر الأحمر، وكذلك في معالجة أوضاع البلد الصعبة.
جيله الذي قام بتحريك مسيرات شعبية في نوفمبر 2015 للمطالبة بترشيحه لفترة رئاسية جديدة، وإظهار ذلك الترشيح على أنه نزول عند رغبة الشعب، يتهمه خصومه الذين يركزون على الفساد بأنه “دكتاتور فاسد”. ويركزون في نقده على دور بطانته المكونة من خليط من عائلته وأنصاره، تكال إليها الاتهامات بهدر المال العام، في بلد ينوء تحت أعباء المشاكل والنواقص في أغلب المجالات الاقتصادية والاجتماعية والبنى التحتية.
منذ العام 1999 أخذ الحكم الأوتوقراطي يترسخ مع تدهور اقتصادي لافت. وتم تسجيل المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة حرية التعبير وقمع المعارضة المنهجي، كما يشير أحمد يوسف حماد زعيم “الاتحاد الوطني للخلاص”، وهو ائتلاف من سبعة أحزاب معارضة تشكل قبل الانتخابات التشريعية الأخيرة في 2013.
معارضة محلية ودولية
لا يبدو أن العلاقة ما بين الرئيس ومعارضيه قد استقرت، رغم توقيع رئيس الوزراء عبد القادر كميل وأحمد يوسف، اتفاقاً في أبريل 2015 بحضور جيله، نصّ على “تشكيل لجان عمل بين الحكومة والمعارضة، وبدء تطبيق الإصلاحات السياسية والمؤسساتية التي اقترحها الطرفان”. على أن يمهد لعودة “الاتحاد الوطني للخلاص” إلى البرلمان. حينها رحّبت الجامعة العربية وكذلك وزارة الخارجية الفرنسية بتوقيع الاتفاق حول الحوار السياسي في جيبوتي، وشجّعت «الأطراف على تطبيق هذا الالتزام الذي سيسمح بتعزيز الديمقراطية ودولة القانون في جيبوتي».
في العام 2011 جرى انتخاب جيله بنسبة مبالغ بها، إذ نال نسبة 94 بالمئة. تم بعدها قمع كل احتجاج بالرغم من وعوده بالانفتاح الديمقراطي في العام 2014. استغل جيله الاعتداءات الارهابية في باريس وباماكو في نوفمبر 2015، كي يشدّد من القبضة الحديدية ويطلق ماكينة القمع ضد خصومه، مبرراً ذلك بأن ترشحه ضروري لحماية الاستقرار في إقليم غير مستقر.
يعتبر جيله أن دورَه هام جدا في تأمين الممرات المائية العالمية، ومكافحة عمليات القرصنة التي انتشرت في المنطقة نتيجة الحروب الأهلية والصراعات المسلحة والانفلات الأمني. ولطالما ارتبط الاستقرار في جيبوتي بوجود القواعد العسكرية الفرنسية والأميركية، ومقر قوات حلف الأطلسي، والتسهيلات الممنوحة للمساهمين في مكافحة عمليات القرصنة التي ظلت تهدد التجارة الدولية لسنوات طويلة. يصف معارضو جيله توجهاته الأخيرة بأن الرئيس “وضع بلاده برسم البيع”، إذ أنه ذاهب باتجاه تأجير قواعد جديدة لغايات ترتبط بأهداف براغماتية.
جيش الصين في البحر الأحمر
كانت الصين قد حصلت في الشهر الأخير من العام الماضي على “الضوء الأخضر”، كما سمّي في الإعلام، لبناء قاعدة عسكرية بحرية في جيبوتي قبل نهاية 2017 بعد مفاوضات مع الرئيس جيله، كما أعلن وزير خارجيته محمود علي يوسف على هامش القمة الأفريقية الصينية في جوهانسبرغ. وأكد الوزير حينها أن الصين “حليفة استراتيجية”. وأعلن يوسف أن الصين ستمتلك قاعدة “بحرية لوجستية” في جيبوتي، موضحا أنها “قاعدة تهدف إلى مكافحة القرصنة، وضمان أمن مضيق باب المندب، وخصوصا ضمان أمن السفن الصينية التي تمر عبر هذا المضيق”. علماً أن القوات البحرية الصينية قامت منذ نهاية العام 2008 بحوالي عشرين مهمة قبالة سواحل الصومال وخليج عدن في إطار الجهود لمكافحة القرصنة. لكنها واجهت “صعوبات في محطات الرسو وإعادة التموّن”، بحسب الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية هونغ لي.
نتج ذلك عن تفاهم ما بين الرئيس الصيني شي جينبينغ ونظيره الجيبوتي جيله. لكنّ وزير الخارجية الجيبوتي أوضح أنه “يجب ألا ينظر إلى القاعدة الصينية على أنها رغبة في التوسع (الصيني) في القرن الأفريقي أو في بقية أنحاء العالم”، مشيرا إلى أن “هذه المنطقة أصبحت معقلا للقراصنة وكل الحركات الإرهابية”.
أما مربط الفرس في التقرب الصيني فيكمن في تفسير منحها ستين مليار دولار لأفريقيا بشكل قروض. إذ أعلن الوزير يوسف بصريح العبارة أن “الصين تملأ فراغا، لأن الدول التي كان من مسؤوليتها تعويض هذا النقص لم تقم بذلك”، وأضاف إن “الأفارقة انتظروا طويلا أن يأتي الأوروبيون والآخرون لمساعدتهم في عملية التنمية، والصين هي من قامت بهذا العمل”.
انفتاح سياسي واقتصادي
يحاول جيله أن يربط الانفتاح السياسي والاقتصادي باسمه، وهو يعتبر أن جيبوتي من البلدان ذات السوق الحرة والاقتصاد المفتوح. يقول “نحن من البلدان ذات السياسة المنفتحة. في البلد توجد البنوك العربية الإسلامية بكثافة هذه الأيام. ونحن نشهد نمواً لكننا نعاني أزمة، ونرجو أن تهدأ حتى نستأنف الخطوات إلى الأمام لكي نجلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في هذا البلد”.
ويتردد أن تخصيص المرافئ وزيادتها في جيبوتي فتح الباب واسعا لفساد المتنفذين عبر دائرة ضيقة تتولى إدارة مرفأ جيبوتي الذي يدرّ أموالا طائلة.
لسنوات وربما لعقود قادمة ستبقى جيبوتي موقعاً حيوياً للقوى الغربية القلقة جداً من استدارة جيله نحو الصين. الأمر الذي يهدد مصالحها وقدرات هذه القوى على التحرك بحرية في الإقليم والحفاظ على أمنه وأمن ممراته. وذكرت إذاعة مونتي كارلو ومواقع فرنسية مثل فرانس 24 نقلاً عن مصادر في العاصمة الجيبوتية أن الصين اليوم “تقوم بتمويل الحملة الانتخابية لجيله.
ومن الطبيعي أن تزيد مطالبها منه بعد إعادة انتخابه”. ويحفّز ذلك القوى المناهضة لجيله على السعي لكي تكون الانتخابات نزيهة وفي أجواء طبيعية. لكن العرب الذين يشهدون اليوم تصعيداً إيرانياً غير مسبوق، سواء في البلدان العربية أو في العمق الأفريقي، هم الأكثر حاجة إلى التنسيق مع جيبوتي قبل أن تسوقها الصراعات السياسية الداخلية والتحولات الاستراتيجية إلى محاور تقفل جنوب البحر الأحمر.
اللهم سلم جيبوتي كل شرور و مكاره
مقال لا باسة به و من ممكن اعداده بمقالات عدم الانحياز