“لماذا الذي كان ما زال يأتي لأن الذي سوف يأتي ذهب”!
الشاعر اليمني عبدالله البردوني
*
الاهداء: الى المفكر والمناضل والثائر ابدا د. ابوبكر السقاف، المفكر العضوي النادر في رحلة غيابه، عنا كلّ العرفان لك حيثما انت.
كنت وما ازال ارى، بل وأعتقد جازماً، ان للتاريخ حضورّه وخصوصيته في اليمن، اقصد حضوره المضاعَف، والمكثَّف، والمعقّد، اكثر من غيره من بلدان المنطقة. ومن هنا حضور التاريخ مرتبطاً باسم اليمن، ليس فقط لميلاده المبكر متوحداً بنشأة الدول، وحضارتها في تاريخه (الدول اليمنية القديمة) على صحة ذلك الاقتران الشرطي بين اليمن، والتاريخ في أسبابه العائدة لذلك، حتى اصرار الكثير من العرب بتأكيد عودة اصول انتماءاتهم التاريخية الاولى الى اليمن. على أننا هنا لا نرى ولا نجد في ذلك سببا وحيداً كافيا لتفسير ذلك الارتباط والاقتران الخصوصي بين اليمن، والتاريخ.
فهناك دول عربية، واسلامية، لها نفس المكانة، والصلة، القديمة بالتاريخ ومعه، ومتاحفها، واثارها العظيمة تقول ذلك. ومع هذا تمكنت تلك الدول، من تعديل وتجديد علاقتها بالتاريخ (الماضي) لصالح الحاضر، والمستقبل. وكنت تساءلت في واحدة من ابحاثي أو كتاباتي المنشورة حول ذلك، وأشرت متسائلا: هل ذلك يعود في بلادنا (اليمن) الى انعدام حالة التراكم التاريخي بمستوياته المختلفة (المعرفي، الثقافي، السياسي، الاقتصادي)؟ هل ذلك يعود الى هيمنة وتكريس تاريخ القَطع وعدم التواصل والاتصال في بنية السياسة، والمجتمع، والفكر، والدولة في اليمن؟ أم ان ذلك عائد الى تاريخ السجال الحربي المُستدام في تاريخ السياسة، والسلطة، خاصة في المرحلة الإمامية الممتدة (بِتقطّع) لاكثر من احد عشر قرنا، مع بداية تأسيس دولة الامامة الزيدية الهادوية في اليمن على يد الهادي الى الحق يحيى بن الحسين القاسم الرسي” في القرن الثالث الهجري؟ هل لذلك صلة وعلاقة بما صحبَ تاريخَ الامامة، من عزلة مديدة عن العالم الخارجي، ومن تخلف سحيق، ومن ركود وتحجر إقتصادي؟ هل يعود ذلك الى غلبة منطق الحرب، وغياب السياسة؟ والذي تجلى في حالة الجمود والضمور والشلل في البنيان السياسي للإمامة التاريخية! وأنتج بالضرورة حالة انكفاء وانغلاق في الداخل، ومع الخارج! الا في الحدود الضيقة جدا على مستوى بعض اطراف الداخل، وهو ما يفسر حالة العداء للخارج او حسب تعبير البعض العداء للاجنبي. هل ذلك عائد الى الطبيعة الإمامية اليمنية المتحجرة مذهبيا، والجامدة سياسيا (الحذرة، الخائفة، المتشككة) في ثنائية علاقتها “الامامة” بالمشيخة القبلية، التي جسّدت القبيلة ومثّلت ذراعَها الحربي العسكري في قمع الداخل، بمثل ما مثّلت الامامة الدينية/المذهبية، بعدّها الايماني العقيدي، او غطاءها الروحي، وهو ما ساهم في تكريس وتأصيل الطابع السجالي الحربي في حياة الامامة، ومجتمعها الذي لم تتوقف فيه الحرب، الا لتبدأ! هل يعود ذلك الى فكرة وقضية حضور “ايديولوجية” أو مبدأ الخروج على الإمام الكامنة في اصل المذهب الزيدي الهادوي، وفي دثاره السياسي، الاجتماعي، القبلي، التاريخي؟ والذي اسس موضوعيا، وتاريخيا لقضية وعملية عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، وبالنتيجة القطيعة مع التاريخ الاجتماعي، وتكريس عدم التراكم في الفكر، وفي السياسة والاجتماع؟ هناك جملة من الأسئلة المرافقة والناتجة عن ذلك، يضيق بها صدر صحيفة سياسية اسبوعية، ولكنها ستبقى وتظل أسئلة حيوية، ملحة، امام الجميع، لأن لها صلة وصل عميقة، مؤثرة، وفاعلة، في كل ما يحصل ويجري اليوم في بلادنا،من جدل: جدل مبدع وخلاق، وجدل مع الاسف عقيم، جدل منتج، ومخصب للمعرفة، والفكر، وجدل سفسطائي غير منتج، يبعدنا عن جوهر الاسئلة السياسية، والواقعية الجارية، التي لها صلة مباشرة بكل ما يحصل اليوم في بلادنا، من سياسة، ومن حرب، من حوار، ومن انغلاق، من دعوة للسلام وايقاف الحرب، في مقابل تحول الحرب الى مهنة وتجارة.
ان الاسئلة العديدة المثارة ليست نظرية مجردة، ولا هي اسئلة ثقافية ترفيّة. هي في تقديري اسئلة الراهن، والمستقبل، ودون الغوص فيها وبحثها، وفحصها نقديا، وتحليل مضمونها السياسي، والتاريخي، بعقل نقدي مفتوح على الحياه والعصر، فأننا سنظل ندور في حلقات مفرغة، ونكرر ونعيد ما بدأنا، والأسوأ ان ندخل في معارك صبيانية مفتعلة تعيد انتاج خطاب المكايدات والمهاترات الذاتية المريضة.ان الحديث عن الحضور التاريخي وخصوصية كثافته، وحضوره القاتل والمدمر في حياتنا، يعني في ما يعنيه اننا امام مجتمع سياسي (عصبوي) وفي حالة مجتمع يتحرك ببطء نحو المستقبل، او اننا امام مجتمع لا يمتلك مشروعا للمستقبل، مشدود للماضي، اكثر منه للحاضر والمستقبل، (اقصد مجتمع القبيلة المسلحة)، وفي واقع شروط دولة غائبة، او مغيبة، تم استبدالها في احسن الاحوال بسَلطنة عائلية حاضرة وفاعلة في صورة جيش براني وعكفة، او ميليشيات. مجتمع يتميز بحركية اجتماعية متخلفة، بطيئة الحركة، تشده عصبية الداعي القبّلي، والحرب والسلاح كقيمة عمل وانتاج كبرى، ومن هنا غياب اي معنى للزمن، والعمل، والانتاج، حيث العلاقة بين ابعاد الزمن الثلا ثة(الماضي، الحاضر، والمستقبل) تتحرك وتدور لصالح الزمن الماضوي، وأن نسبة حضور الماضي في الحاضر هي الاعلى والاعمق تأثيراً.
والسبب هو ان المركزالسياسي العصبوي التاريخي (المقدّس) فرضَ منطقَه على كل شيء باعتباره سلطة، وبالنتيجة جعل من علاقتنا بالتاريخ علاقة استلابيه، اغترابية، ولذلك لم نعهِ (التاريخ)، ولم نتمثله، بوعي نقدي، وبعقل ابداعي تنويري، مستقبلي. ومن هنا يتجلى ذلك التوحد السلبي بالتاريخ، في أسوأ مظاهره وتجلياته، كما هو عند البعض اليوم ،”وهو ما يكشف ويفسر، عودة بعض السياسيين والمثقفين للبحث عن مشجر انسابهم في السلالة، والقبيلة، والمذهب”، مما ادى الى غياب السياسة وضعف حضور المجال السياسي. كما ادى وانتج في واقع الممارسة الى اضعاف صلتنا وعلاقتنا بالحاضر، والواقع، والمستقبل، وهي الثغرات التي تسللت منها المحاولات المتكررة لمصادرة وتغييب الدولة او اختطافها في جب سلطة الفرد (الطاغية) وصولا الى محاولات تحويل الجمهورية، الى جمهورية وراثية (جملكية) عودة للملكية الامامية الوراثية في لباس جمهوري، وهو ما شهدنا محاولاته منذ تسعينات القرن الماضي مع علي عبدالله صالح. ومن هنا كذلك صعود المحاولة البائسة لإعادة انتاج الامامة، “خطاب البطنين”، بعد اكثر من نيف وخمسة عقود من الزمن، من قيام جمهورية سبتمبر الاولى1967/1962م- والذي يفسره صورة ما يجري سياسيا وعسكريا في المشهد السياسي الحاصل اليوم. وكأن التاريخ السياسي والاجتماعي، والوطني لليمنيين لم يتحرك خطوة للأمام! ومن هنا قول الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني، حكمته الفكرية السياسية الشعرية الخالدة، حول الحالة السياسية اليمنية، في تصويره لعلاقتنا بالتاريخ حيث قال: “لماذا الذي كان ما زال يأتي لأن الذي سوف يأتي ذهب”!
وكأننا ابدا كما قد يبدو في الظاهر، لا مهمة لنا سوى استقبال الماضي، كعنوان للذي يجب ان يأتي، ويتأخر عن المجيء (على الاقل في وقته الضروري) وكأن مستقبلنا كامن في ما كان وليس في ما سيأتي، وتلكم هي المشكلة في تفكير وعقل البعض منا، بوعي قصدي، او بدون وعي. ان القضايا والتحديات الماثلة امامنا في الحاضر(الحرب) والمعوقة لحركتنا نحو المستقبل لها صلة بتلكم المركزية العصبوية، الفردية المقدسة، مرجعية علاقتنا الكارثية بالتاريخ الاستلابي لقطاع واسع منا، والذي ما يزال مهيمنا على وجدان ووعي وعقل العديد منا في قمة السلطة، وفي المعارضة، سياسيين، ومثقفين، واكاديميين -مع الأسف- ومن هنا عودة البعض للتمسك بخطاب الهويات القاتلة – حسب تعبير الروائي امين معلوف- ومن هنا كذلك عودة الاسئلة القديمة، والتي كنا نتصور واهمين ان امرها قد حسم، وصارت من افعال الماضي، لنكتشف انها اكثر مضارعية (من فعل مضارع)، ونجدها اسئلة تعود الينا وتطرح نفسها علينا بإلحاح. وانا شخصيا ما ازال على اقتناع ان ثورتي 26سبتمبر 1962م، وثورة 14 اكتوبر 1963م، قد قدمتا اجاباتهما على الاسئلة العديدة في حينه ولكنها كما يبدو بقيت بعض الاجابات ناقصة لم تكتمل، بسبب التحديات،والمعوقات، والأخطر الانكسارات التي حصلت في مسار وسياق المد الثوري لليمنيين، شمالاً وجنوباً، -بدرجات متفاوتة- وخاصة حرب 1994م اللا وطنية والكارثية على كل البلاد (التي اوصلت بعض ابناء الجنوب الوحدويين لإنكار حتى هويتهم اليمنية)- ولذلك ولغيرها من الاسباب نجد انفسنا نعيد انتاج وطرح ذات الاسئلة من جديد، وان بصورة مغايرة لما كان.
في تقديري اننا اليوم مطالبين بتقديم اجابات نوعية نقدية خلاقة (للذات وللآخر) وللواقع، بحاجة الى ان نعيد طرح الاسئلة القديمة والجديدة الحارقة مثل: بحث ونقد ثنائية السلطة، والثروة، وثنائية الدولة، والسلطة، في بلادنا، واحتكار او اختطاف الدولة في جب السلطة، وجعلها تابعة لها، أي ملحقة بالحاكم الفرد، وسؤال علاقة الدين المقدس، بالسياسي المدنس، بعد توظيف الدين لخدمة السياسة والسلطة، وسؤال دولة القانون والحق، وعلاقة القوة والحرب، بالحق. سؤال الجمهورية ومضمونها السياسي والدستوري، والقانوني، وعلاقة الجمهورية بالوطن، وبمعنى المواطنة، والمساواة، وفك الارتباط التقليدي التاريخي، بين المواطن والوطن، والرعوي المستكين والتابع. سؤال القبيلة وعلاقتها بالسلطة والدولة، وكيف انتجت الجمهورية القبيلية. سؤال ضرورة فك الارتباط بين القبيلة، وشيخ القبيلة عبر الدور المؤسسي للدولة، سؤال الحاكم (رئيس الجمهورية) وعلاقته بالموقع والمنصب (التداولي). سؤال الوحدة اليمنية ومضمونها السياسي الديمقراطي. سؤال التعددية السياسية، والثقافية، ومفاهيم الخصوصية في اطار الحالة الثقافية والاجتماعية اليمنية. سؤال العلاقة بين الشمال والجنوب وهو من الاسئلة الحارقة التي انتجتها حرب 1994م بدرجة اساسية، وجاءت الحرب الظالمة الراهنة على كل الجنوب، لتجعل من ذلك اسئلة وليس سؤالا، مطلوب اعادة بحثها وانتاجها بعقل سياسي نقدي مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها قطعا اسئلة الحرب والسلم، والحرب الجارية، واطرافها او طرفيها كما يحلو للبعض، وجميعها اسئلة سياسية واقعية، راهنة وملحة، غير مفصولة عن سياق ما اشرنا اليه في مضمون هذه المقالة. وواهم من يتصور ان ما يحصل اليوم من جدل سياسي، وفكري، ومن سجال حربي، دموي، لا صلة له بجملة القضايا المثارة، والمطلوب بحثها، والاجابة عليها بعقل تنويري ابداعي.
حين طرح شباب وجماهير ثورة 11 فبراير 2011 أسئلتهم السياسية الجوهرية، ارتكز مضمونها على فكرة وقضية التغيير، وهو السؤال الذي سيبقى ملحا، وحتميا، وتاريخيا، ومن هنا شعارهم “الشعب يريد اسقاط النظام” الذي حاول البعض استبداله لا حقا بـ”الشعب يريد إسقاط الرئيس”، والفارق بين الشعارين نوعي وتاريخي. الى جانب شعاراتهم، بالدولة المدنية، وفصل السياسة، عن الدين المقدس، واسئلة المواطنة والمساواة، والحرية والعدالة الاجتماعية، والكرامة الانسانية، وهم بذلك كانوا يقدمون خطاب ثورة وتغيير، ثورة هي إستمرار ابداعي متواصل ومكمِّل لما انجزته وطرحته ثورة 26 سبتمبر 1962م، وثورة 14 اكتوبر 1963م، وهي ثورة شباب وشعب ادركت وتمثلت المعاني الكبرى والخالدة لأي ثورة في التاريخ ومن هنا عظمة هذه الثورة التي جرى كسرها أو الالتفاف عليها، واحتواؤها، لأسباب عديدة، ذاتية، وموضوعية، وتاريخية، يطول شرحها والحديث عنها.
جرى كسرها ليس لأنها جاءت قبل اوانها السياسي، والتاريخي، بل لعدم اكتمال شروط انجازها في حقائق ووقائع ما هو قائم من توازنات على الارض. وتقديري الشخصي ان قوى التاريخ السياسي السلطوي “الجُملكي” والامامي، والقبلي العسكري، أدركوا خطورة ما يحصل على مستقبل حكم المركز السياسي العصبوي فاستنهضوا واستجمعوا وحشدوا وجيَّشوا قواهم جميعا، في حالة وحدة لا نضير لها، في مواجهة مشروع شباب الثورة بالتغيير، وتحركوا للالتفاف على المشروع في مهده، (بداياته)، وتحويله من ثورة الى نصف ثورة في صورة المبادرة الخليجية، واليتها التنفيذية، حيث اجتمع الداخل السلطوي التاريخي، متوحدا بالخارج الاقليمي، والدولي، على تحجيم ثورة الشباب والشعب عند الحدود “الاصلاحية”. ولم يكتفوا بذلك بل واعطوا رموز النظام القديم جميعاً الحصانة من المحاسبة، والمساءلة، بعد ان ادركوا خطورة الثورة على جميع الاطراف، بما فيهم من التحق بالثورة حماية لنفسه، وليس نتيجة لجريمة جمعة الكرامة 18 مارس 2011 م.
لقد ادركت القوى السياسية التقليدية مصالحها، بأكثر مما ادركته قوى الحداثة السياسية، والمدنية، والتغيير، التي قصرت عن ادراك ما كان يجري بعقل سياسي تاريخي -على الاقل على طريق تعظيم مكاسب الشباب والشعب- وهذا لا يعني ان الطريق امام ثورة الشباب والشعب كان معبدا او مفروشا بالورود، على طريق انجاز اهداف ثورتهم، ذلك ان قوى الثورة “الواسعة” كانت تعيش في داخلها اشكالاتها الذاتية، والتنظيمية، الى جانب شروط اخرى كانت تمنع او تحول دون السير بالثورة الى نهاياتها. ومن هنا كانت المبادرة الخليجية، واليتها التنفيذية، هو الحد السياسي الواقعي المسموح به موضوعيا، وتاريخيا. وهذا له صلة بجدل الايديولوجي، والسياسي والتاريخي، الاقليمي/الدولي، في قلب ثورة الشباب، وفي المتاح والممكن في توازنات المشهد السياسي الذي كان قائما.
استطيع القول دون مجازفة، ان العقل الايديولوجي، والسياسي الإمامي في تجلياته التاريخية، ما يزال مهيمناً، وحاضراً، ومسيطراً على منطق تفكير قطاع واسع من ناس المجتمع، في السلطة، والمعارضة، ومن هنا ميل، وانحياز مجاميع أو جماعات معينة مع خيارات ماضوية لا صلة لها بالحياة والمستقبل. ذلك ان الماضي لم يغب عن حياة، ووجدان، وتفكير الكثيرين منَّا، وما تزال الايديولوجية التاريخية والتقليدية عموما “الإمامية الشيعية/والسنية” متحكمة بالوعي العميق لنا وفينا. لقد وحّدت الامامة -خاصة في الشطر الشمالي) طيلة قرون حكمها، بين السياسة، والسلطة، والمجتمع، والشعب، والوطن والتاريخ، وجعلت من جميع هذه المفردات، والمعاني، والمفاهيم، والقيم، ملحقة، وتابعة لمنطق فعل وحضور الايديولوجية الامامية في اطارها، السلالي، المذهبي، القبلي، حيث جميع المفردات، والمفاهيم، والمعاني السالفة لا تدرك في عقل الامامة الا بعلاقتها بالسلالة “الحق الالهي” اولا، وبالمذهب ثانيا، وبالقبيلة المسلحة ثالثا، القبيلة كبنية عسكرية مسلحة تحمي وتحرس ملك الامامة، وفق جدلية ثنائية الامامة، والمشيخة القبلية تاريخيا. حيث معنى ومفهوم الوطن والشعب في ذهنية ووجدان وعقل الامامة، والمشيخة القبلية المسلحة وكذا في عقل ورثتهم، الحوثي وصالح كامتداد لهما، هما جناحي القبيلة: حاشد وبكيل. فالوطن والشعب مختصران ومنحصران فيهما وما دونهما من جغرافية وديموغرافية ليس سوى ديكور ملحق وتابع. ومن هنا انحصار مركز القيادة والحكم في اطارهما قبل الثورة وبعدها. ومن هذه الخلفية والجذر السياسي التاريخي نقرأ ايديولوجية عودة الفرع للاصل ليس فقط عودة الابن الضال “الجنوب الى الشمال” بل استمرار وتبعية وهامشية كل جنوب الشمال والتهائم الى حكم الاصل مجسداً في (القبل الخمس) او المركز السياسي المقدس. وهو ما لم يدركه البعض، ويهذر بحديث فارغ من أي معنى عن اطراف او طرفي الحرب، وتلكم هي المشكلة. ومن هنا لم ينتج استقلال الامامة الشكلي عن العثمانيين، لا دولة، ولا مواطنة، ولا مساواة، ولا عمران، ولا عدل، بقدر ما جرى تعميق الفرقة والانقسام الاجتماعي، ومصادرة أي امكانية لبناء دولة وطنية حديثة حتى اليوم.
ان الامامة كسلطة وايديولوجية، ونظام حكم، ومن بعدهم ورثة الامامة الجدد بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، وتحديدا من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، لم يوافقوا حتى على انتاج صيغة “الاطراف المعنية” التي قال بها الشهيد محمد احمد نعمان. وكانت صيغة “المجلس الجمهوري” تحت قيادة اسمية شكلية للقاضي عبدالرحمن الارياني، هي اقصى ما يمكن ان يعطى ويوهب للآخرين من شراكة في السلطة والثروة. لقد استغرقت الامامة والورثة الجدد للجمهورية، حتى تحالف الحرب القائم اليوم بين الحوثي وصالح،الوطن، والشعب، والسلطة، والدولة، والتاريخ في اسمائهم، وعائلاتهم، ومناطقهم، بدءا من الامام الهادي الى الحق يحيى بن الحسين الى امامة “الحمزات” حتى الامامة القاسمية، وبيت شرف الدين الى بيت يحيى حميد الدين ، وصولا الى علي عبدالله صالح، ثم تحالفه مع الحوثي عسكريا، وسياسيا، واستراتيجيا، في الحرب الجارية الظالمة، وهي واحدة من الاشكالات والتحديات السياسية المعاصرة التي تشكل عوائق وموانع، ومصاعب، امام الانتقال الى مشروع الدولة الوطنية الحديثة، والمواطنة. وليس تحالف الحوثي وصالح في حربهما على جميع او غالبية قوى المجتمع، سوى تجسيد لذلك المعنى، حيث يأتي حديث علي عبدالله صالح الاخير والذي يكرره في خطاباته الاخيرة من انهم لن “يحكمونا” -لاحظوا لن يحكمونا- من ذلك المصدر الايديولوجي التاريخي العميق. فحينما يصل الى قمة رأس الدولة والسلطة، ولأول مرة في تاريخ الحكم في اليمن الشمالي، حاكم يمني من خارج “القبل الخمس” مركز العصبية والسلطة، والملك في شمال البلاد، يكون الرد العملي ذلك التحالف الحربي بين صالح والحوثي وهي نتيجة منطقية وواقعية لمنطق تفكيرهما السياسي التاريخي في علاقتهما بالسلطة والملك. فقد كان علي عبدالله صالح يخطب في المعسكرات، وما يزال محرضا، ومهيجا، وداعيا للحرب قبيل حرب 1994م، من انه آخر حاكم زيدي في هذه المنطقة، وانّ غيابه عن الحكم يعني”استحلال” الاشتراكيين، والجنوبيين، والشوافع، لكل شيئ في مناطقهم (كل شيء)، وهنا توحد المذهب، والطائفة، والسلالة، والقبييلة، والجهة، لخدمة استمرارية مشروعية هذا الطرف في الحكم، وهنا كذلك توحد الجيش، بالقبيلة، كما توحدت المعسكرات بالمسجد وفتاوى التكفير ضد الآخر(الكافر، والخائن) كما تجلى في صورة حرب 1994م. وما يحصل اليوم هي سيرورة وحركة في ذات الاتجاه والهدف. وما وصلنا اليه اليوم من خراب ودمار، ووحشية، يؤكد بجلاء ان القضية، هي قضية سلطة، وثروة، واحتكار للحكم في فئة وجماعة معينة، (المركز العصبوي السياسي التاريخي) ولا صلة لها لا بالدين، ولا بالوحدة، ولا الانفصال، ولا علاقة له بالقول بالشراكة، ومواجهة العدوان، لانهم عملياً رفضوا تنفيذ إتفاق السلم والشراكة الذي صنعوه بأنفسهم. لان حقيقة ما يحصل ويجري هو استمرار لذات السياسة والايديولوجية، وان اختلفت عناوين وأماكن الصراع وتحالفاته الداخلية، والخارجية.
إن التاريخ السياسي، الوطني، والقومي التحرري العالمي لكفاح الشعوب والدول، يؤكد بدهية راسخة، وهي ان العدوان الخارجي دائما هو من يوحد الداخل، جماهيريا، وشعبيا، وهو من يرفع سقف منسوب حضور وفعل المسألة الوطنية، وهو من يصلّب تماسك قوة الجبهة الوطنية الداخلية في مواجهة ومقاومة اي عدوان، باعتباره التناقض الرئيس والاساسي.
وعلينا اليوم ان نسأل انفسنا، وجميع من يتحدثون عن العدوان الخارجي، ما هو سبب غياب الوحدة الوطنية في مواجهة العدوان الخارجي؟ فدائما العدوان الخارجي ايا كانت تسميته يكون هوالتناقض المركزي (الرئيسي)، تتراجع معه التعارضات والتباينات الداخلية. وما نشهده ان ما يحصل في الداخل الوطني اليمني تحول الى ما يشبه التناقض الرئيس، وهو سؤال وقضية اطرحها امام الجميع للبحث والمناقشة، قبل اي خطابات عن اطراف الحرب، وعن اشياء عديدة بحاجة الى بحث موضوعي عقلاني نقدي، مثمر -بعيدا عن المهاترات الكلامية الفارغة من المعنى- بحث مسؤول ومثمر يساعدنا في الوصول الى طريق تسوية سياسية، وسلام حقيقي، يقضي على اسباب الحرب من جذورها، سلام قابل للتنفيذ، ويحقق مصالح اغلبية او كل ابناء شعبنا.
ان الصراع الجاري هو في تقديري صراع بين مشروعين سياسيين تاريخيين على تعقيدات تعبير وحضور كل من المشروعين عن اسمه، وذاته، وهويته: مشروع يحاول جاهداً الحفاظ على ما تبقى من دولة السلطنة “المركز السياسي المقدس” في تحالفه الاقليمي المعلن عن نفسه بوضوح. والمشروع الثاني: مشروع اغلبية الشعب في قيام وتأسيس (دولة وطنية حديثة) وهو مشروع تراجَعْ وانكسر لمرات ثلاث: الاولى بعد اسقاط جمهورية سبتمبر الاولى 62-1967م بـ انقلاب الخامس من نوفمبر 1967م، واستكمل اسقاطة سياسيا ورسميا، باتفاقية جدة مارس 1970م بين رموز الجمهورية القبلية المشيخية، والملكيين العائدين، من السعودية، بعد ان ارتهنت البلاد سياسيا للقرار السعودي، وصارت الحكومة ورئيسها وكافة وزرائها يعينون من هناك، علما ان علي عبدالله صالح جاء الى قمة الحكم بإرادة ورغبة سعودية، وخرج من الحكم بإرادة شعبية ووطنية يمنية، وهو وجماعته آخر من يحق لهم الحديث عن العدوان السعودي، فأسمائهم جميعا ما تزال في قائمة كشوفات الدعم المالي، للجنة الخاصة، منذ عقود طويلة. والمرة الثانية لانتكاسة مشروع الدولة الوطنية كانت مع حرب 1994م اللا وطنية، والمرة الثالثة بعد الالتفاف واحتواء ثورة فبراير 2011م. وهو مشروع يناضل ضمن تعقيدات عديدة داخلية، وخارجية، مشروع يبحث له عن طريق ومكانة، على تعقيدات تحالفاته الداخلية، والخارجية. ولا اقرأ في تحالف الحوثي/صالح سوى رابع المحاولات لوئده واضعافه،وتدميره بالحرب المعلنة من طرف واحد، وهو الطرف الذي بيده وحده اليوم المبادرة الفعلية لإيقافها(الحرب)، وخطورتها آتية من انها حرب موجهة ضد الداخل الوطني، وهو ما لا يدرك خطورته دعاة السلام وايقاف الحرب، وهي الحرب التي قد يفتح ايقافها ابواب واقعية وجدية لعملية سلام، على طريق عودة العملية السياسية، الى مسارها الطبيعي، على قاعدة الشراكة، والتوافق، على اساس من تنفيذ القرار الاممي 2216 ومن المهم ادراك البعض ذلك حتى لا يساهم خطاب سلام بإيقاف الحرب فارغ من اي معنى واقعي، في تطويل امد الحرب، واعادة انتاجها باسم السلام. فلم اسمع في حياتي ان هناك خطاب سلام يساوي بين الضحية، والجلاد، بين الشرعية، والانقلاب، بين غالبية ترفض الانقلاب، وتقاومه بكل الوسائل، وبين اقلية اختطفت الدولة، وتحتكر السلطة، والثروة، بقوة الحرب والميليشيات. اتمنى ان لا اجد نفسي امام خطاب سلام دعائي، اعلامي، واعلاني، يريح الضمير، ويعفينا حتى من المقاومة السلمية لمشروع الانقلاب، والحرب في اسمائها العديدة، المعلنة: من حرب الاقتصاد، الى السياسة، الى الثقافة، الى التعددية والديمقراطية، الى تفشي الفساد وبصورة خرافية، الى حالات المجاعة، الى سقوط الطبقة الوسطى، الى ملشنة الدولة، الى الغاء المجال السياسي، وتعميم واقع الحرب، الى تكفير وتخوين اغلبية سكان البلاد، الى فرض سلطة القوة والاكراه في كل شيء، وفقدان الامن والامان العام. هل بعد ذلك يمكن لنا القول بطرفي الحرب، او اطراف الحرب. ان خطورة الحرب الجارية في صعيدها الداخلي، انها تفكك وتمزق الوطنية اليمنية، لعقود طويلة، ان لم يكن لقرون قادمة وهو ما يغيب عن العقل السياسي السلاموي الذي يشتغل بالتجزئة في قراءته للحرب. المطلوب اليوم في تقديري -وقد اكون مخطئا كما قد يرى البعض وهذا حقهم- الانتصار للمشروع المضاد للانقلاب، من قبل دعاة السلام قبل غيرهم، بعيدا عن المكايدات السياسية، والجدل الذاتي العقيم، غير المنتج حول اطراف، او طرفي الحرب الجارية، بعد افراغ الحرب من مضمونها السياسي، والاجتماعي، والطبقي، والوطني.
ان الحرب الدائرة في البلاد اليوم وتمددها الى كل الجغرافية الوطنية اليمنية، ووصولا حتى الى ارياف المدن، ليست حربا اعتباطية، عبثية، بل هي حرب مدروسة، منظمة، وممنهجة، لها صلة بالماضي الذي لم يغادرنا، والحاضر الذي لم يثبت وجوده الا في صورة اعادة انتاج الماضي “دولة المركز المقدس” لمنع حضور المستقبل، وهي حرب تقف خلفها قوة تدرك مصالحها بعمق، وقد يكون بأكثرمن الطرف الآخر، وتدرك أكثر انها تدافع عن مشروع آفل، مشروع قد لا يعود ابدا الى مسرح السياسة، والسلطة، والحكم، كما قد كان، إن تراجع او انكسر لصالح مشروع الدولة الوطنية الحديثة. ومن هنا عنفُ حربه، وإمعانه في قتل المدنيين، وخطابه بالقول من انّ الحرب لم تبدأ بعد كما قالها علي صالح، ومن انه سيحارب الى “يوم القيامة” كما اكدها عبدالملك الحوثي، ولكم بعد ذلك ان تفككوا المعاني، والدلالات الايديولوجية، والسياسية الدينية، لمضمون هذين الخطابين، اللذان يكشفا مضمون وطبيعة هذه الحرب دون مواربة، ولا مداورة، او مراوغة، او التباس او تقية، او تلبيس ومخاتلة، وما يزال البعض مصرا على التحدث عن اطراف او طرفي الحرب.
في العدد القادم: مفهوم الثورة المضادة في الحرب الجارية .
والله من وراء القصد
يقول الكاتب “ان الصراع الجاري هو في تقديري صراع بين مشروعين سياسيين تاريخيين على تعقيدات تعبير وحضور كل من المشروعين عن اسمه، وذاته، وهويته: مشروع يحاول جاهداً الحفاظ على ما تبقى من دولة السلطنة “المركز السياسي المقدس” في تحالفه الاقليمي المعلن عن نفسه بوضوح. والمشروع الثاني: مشروع اغلبية الشعب في قيام وتأسيس (دولة وطنية حديثة).” فلا شك هناك من يحاول الحفاظ على ما تبقى من دولة السلطنة، وهناك ايضاً غالبية تحلم بمشروع الدولة المدنية الحديثة. ولكن هل بالفعل هناك طرف سياسي من الأطراف المنخرطة في الصراع من يملك مثل هذا الطموح الكبير ولديه من المصداقية ما يجعله يمثل غالبية الشعب… قراءة المزيد ..