القيد الآخر خارجي يتجسد في ارتباط قوى المحاصصة الداخلية بقوى خارجية متعارضة المصالح ومن بينها من يعمل على تخريب المجتمعات العربية من طريق وكلائه الداخليين، الأمر الذي جمد المطالب السياسية لعجز حكومة وبرلمان قيدت سلطاتهما امام واقع وجود سلطة موازية تستقوي عليهما بسلاح إيراني لا يتجرأ الكثيرون على تعيينه كغير شرعي وتريد الهيمنة بالقوة الناعمة. فتوزع الجمهور اللبناني على هذه الولاءات المختلفة لكن المتناغمة المتفقة على استغلاله داخلياً. وقمعت مطالب اللبنانيين المدنيين والعلمانيين على مذبح الطوائف وحرّاسها، سواء كانوا دينيين أو مدنيين.
لم تتنبه الطبقة الحاكمة أن للصبر حدوداً حين عملت على إفشال حراك هيئة التنسيق – بعدما بالغت الأخيرة بتقدير قوتها – وضربت عرض الحائط بتململ المجتمع اللبناني وافقرته وعطشته وعتمت عليه وخرّجت عاطلين عن العمل وطالبي هجرة. فتفاقمت الاوضاع خصوصاً بعد أن أُثقل كاهل “الدولة المستضعفة” بأزمة المهجرين السوريين من وطنهم. لكن قشة الانفجار كانت انعدام حساسية الحكومة ومعطليها أمام روائح القمامة التي زكمت الأنوف. والروائح ليست مواد خارجية “ننظر” اليها عن بعد؛ انها مواد عضوية و كيميائية متطايرة تدخل انوف اللبنانيين ورئاتهم حرفياً. فهي لا تُطاق مجازاً وواقعاً.
التسبب باهتراء الدولة ساهم به الجميع. من صم الاذان عن المطالب ومن عطل مجلس النواب ومنع انتخاب رئيس؛ الى درجة التغني: ما حاجتنا لرئيس؟ كله ماشي!!
المفاجأة كانت خروج المتظاهرين ضد الجميع: ضد الطبقة السياسية التي توحدت في وجههم والطوائف المتضررة من خروجهم على سطوتها كونها معتادة على جر حشودها الى أي مكان تريد.
الحراك جاء ليقول: خلص، اكتفينا. فهل هذا الحراك هو تمهيد لثورة على الطريقة الفرنسية؟ أم لتغيير متدرج على الطريقة الانكليزية؟ ام عرضة للإجهاض؟
وما معنى كلمة ثورة؟ ان معانيها متعددة ومتغايرة بين الماضي والحاضر وبين المعنى في الاصل اللاتيني وبينه في اللغة العربية. كما يختلف التعريف من منظّر الى آخر.
في المعنى الحديث للكلمة نجد ان لها معنى قلب النظام السياسي المفاجئ بالقوة. ويعرّفها القاموس كتغيير مفاجئ وعنيف للبنية السياسية والاجتماعية للدولة؛ تحصل عندما تنتفض مجموعة ضد السلطات القائمة فتستولي عليها وتنجح في الاحتفاظ بها.
من هنا نلاحظ ان تعيين الحراك بأنه ثورة يحصل عندما يؤدي الى الامساك بالسلطة. لكن “توكفيل”، ألقى نظرة نقدية على الحركة الثورية ولم يفرّقها عن ميل الأوطان للتمأسس في دول (مركزية او فيديرالية لكن مع توسيع السلطات). بينما توقف كارل ماركس، أمام اللامساواة المتزايدة التي تتسبب بها الرأسمالية، وطوّر التماساً على أساس أن الثورات تضع نهاية للامساواة القائمة في هذه البلدان. ولقد قامت الثورتان الروسية والصينية وفي بلدان العالم الثالث على هذا الاساس الماركسي. بينما قامت الثورة الفرنسية والثورة الاميركية انطلاقاً من الفكر الانساني الذي تم إرساؤه في ما عرف بـ”عصر الانوار” وخصوصاً مع آدم سميث وعقده الاجتماعي وروسو في فرنسا حيث تم إرساء أسس الليبرالية. في انكلترا حصل التغيير دون اراقة دماء ودون عنف، بل ثورات دستورية اذا أمكن القول.
أراد كرين برنتنان أن يبرز مختلف الدوافع المشتركة لتلك الحمّى التي تصيب الشعوب عندما لا تعود السلطة قادرة على تلبية توقعاتهم. وفحص كيف ولماذا تحصل هذه الحمّى، كيف تنمو وكيف تبلغ ذروتها، ومن ثم تهدأ رويدا رويدا. دون ان يعود الوضع مطلقاً الى الحالة التي كان عليها سابقاً. ولقد استنتج ان المشترك فيها هو رغبة الفرد في الانعتاق وفي تحقيق الكمال.
حين تظهر على الانظمة القديمة عموماً علامات ضعف تسمح باستشراف التغيرات المقبلة: الصعوبات الاقتصادية والمالية. عدم اهلية الحكومات والادارات على القيام بمهماتها. هجرة المثقفين وتعميق تناقض الطبقات او صراعها. وبعد فترة حضانة طويلة نسبياً تتسارع الاحداث بوتيرة متغيرة من حالة الى اخرى. والخلاصة ان الثورات هي نتيجة زرع قام به بشر راغبون بالتغيير.
في معالجة جذور الثورات يمكن التمييز بين اتجاه “ﭭيبري” يأخذ في الاعتبار الأسباب الكامنة في قدرة الدول، او عدم قدرتها، على وضع سياسات عامة معينة لا تعمل فقط انطلاقا من مطالب او ضغوطات بعض المجموعات الاجتماعية، لكن تذهب الى حد ملاقاتها. ويبرز هنا دور لمكانة وموارد النخب السياسية – الادارية، غير الحساسة للمطالب الاجتماعية في سياق تاريخي محدد (ازمة اقتصادية) والمؤثرة بالبيئة الوطنية او العالمية. وهذا وضع لبنان بامتياز.
كذلك يدعو “توكفيل” الى اعتبار الدولة كبنية ولفت الانتباه للتفاعلات بين الدولة والمجتمع، انطلاقاً من زاوية ترتيب الدولة التنظيمي بشكل مخصوص (موحدة او فيديرالية، مجزأة او لا، بيروقراطية او لا) الأمر الذي يؤثر على الثقافة السياسية الوطنية – كمفهوم السيادة مثلاً كما في حالة لبنان!!
ليس في الإمكان إذن الحديث عن ثورة دون معالجة العلاقات التي يقيمها الافراد بالدولة. وهي مقولة سكوتشبول “اعادة الدولة الى محور النقاش”. وهي ترى الثورات الاجتماعية كتحولات جذرية عميقة وسريعة وقد تكون مفاجئة وغير متوقعة ويترتب عليها تغيير البنى والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكنها تغييرات تحظى بقبول وتأييد الجماهير العريضة التي تعاني الظلم والاستبعاد والتهميش، وقد تلجأ إلى العنف لتحقيق تلك التغييرات المنشودة وإن تكن هناك ثورات بيضاء حسب التعبير السائد.
يقطع هذا الالتماس الجديد مع النظرة التي تجعل من الثورات نتاج عمدي لبعض المجموعات الباحثة، بوعي، عن استبدال نظام سياسي بآخر. كما ينبه هذا الالتماس الى متغيرات لم تؤخذ في عين الاعتبار يشجع على اعتبار خاص للدور الذي تلعبه مكانة وموارد النخب السياسية – الادارية، غير الحساسة للمطالب الاجتماعية كما يحصل في السياق الراهن اللبناني.
لقد وضع الحراك المدني اللاطائفي الطبقةَ السياسية وجها لوجه امام خياراتها لتحديد مصير البلد. إما دولة – وطن وإما البقاء كدولة – مزرعة وتحمل التبعات.
من هنا يقع على عاتق القائمين على التحرك من جهة الحفاظ على الطابع السلمي الذي يمكنه وحده إنجاح التحرك الذي لا يزال في أول الطريق ويحتاج الى توظيف قدرات جديدة لاجتذاب اللبنانيين من حوله.
وعلى عاتق الطبقة السياسية من جهة ثانية مدى رغبتها وقدرتها على الاستجابة لمطالبهم، وعدم أخذ البلد الى المجهول.
أيكون هذا الحراك من مقدمات ثورة على الطريقة الفرنسية (تغيير النظام والشعارات الكبيرة المشابهة)، أم سيوصل الى التغيير على الطريقة الانكليزية عبر مطالب حياتية صغيرة وواضحة وقابلة للتحقيق؟ ما دام غير قادر على مواجهة من يهيمن على البلد ويعطله؟
تطور الاحداث وحدها كفيل بالاجابة عن هذه الأسئلة. لكنه في كل الأحوال تعبير عن سيرورة بدأت ولن تتوقف.
استاذة جامعية
نُشِر في “النهار“