يدفع العراق حاليا ثمن ما ارتكب قبل ستين عاما، يوم الرابع عشر من تموز – يوليو 1958. لا يمكن فصل احداث الجنوب العراقي القابلة للتمدد الى بغداد عن تاريخ عمره ستة عقود. بدأ هذا التاريخ، تاريخ العراق الحديث، بمجزرة قصر الرحاب حيث قضي على افراد الاسرة المالكة الهاشمية التي كانت تحكم البلد وانتهى بسيطرة مجموعة من العسكر على السلطة. مهّد ذلك لوصول حزب البعث بكلّ تخلّفه ثم للاحتلال الاميركي الذي انتج نظاما فاشلا وفاسدا ومتخلفا في كل مجال من المجالات صار عمره خمسة عشر عاما.
يعتبر ما يشهده الجنوب العراقي في هذه الايام، التي تمر فيها ذكرى الانقلاب العسكري للعام 1958، تتويجا لتدهور مستمر قضى على العراق الذي لم يرّ يوما ابيض منذ ستين عاما. كانت العقود الستة التي مرت منذ مجزرة قصر الرحاب بمثابة كابوس كشف ما يمكن ان تؤدي اليه الانقلابات العسكرية والى اين يمكن ان تصل ببلد كان قادرا على ان يكون بين الأفضل، بل الأفضل من كلّ النواحي، في المنطقة.
كان العراق، بفضل ما يملكه من ثروات، في مقدّمها ثروة الانسان، مؤهلا لان يكون، لو سمح له بالتطور بطريقة طبيعية بعيدا عن الشعارات الطنانة، من نوع تحرير فلسطين، احد النمور الاقتصادية في المنطقة. ولكن ما العمل عندما صار عليه ان يدفع ثمن المدّ القومي العربي الذي أسس له جمال عبد الناصر بانتصاراته الوهمية. تلا انقلاب 1958 مرحلة تسلط العسكر. ثمّ جاءت الحروب التي تسبب بها صدّام حسين وصولا الى الاحتلال الاميركي الذي جعل العراق، عمليا، تحت الهيمنة الايرانية المباشرة وغير المباشرة وذلك منذ اكثر من خمسة عشر عاما.
ما الذي يمكن ان تؤدي اليه سنوات طويلة من المآسي المتتالية غير ذلك المشهد الذي نراه اليوم في البصرة والنجف والناصرية ومدن وبلدات أخرى في الجنوب؟ ما الذي يمكن ان تؤدي اليه سنوات طويلة من حكم الجهلة، من عسكر وبعثيين، توجت بنظام فاسد تتحكّم به الغرائز المذهبية والميليشيات التي تسيّرها ايران؟
ليس غياب الكهرباء عن البصرة سوى جانب من جوانب المآسي العراقية التي يمكن تعدادها بالجملة والتي يختزلها سؤال في غاية البساطة: اين ذهبت الاموال التي جناها العراق من نفطه منذ العام 2003؟ كيف يمكن ان تصرف كلّ هذه الاموال من دون ان تكون في البصرة كهرباء؟
ما نراه اليوم يحدث على الأرض العراقية ليس مجرّد انتفاضة شعبية لشباب يبحث عن كهرباء وفرص عمل في بلد مفلس لا تزال احواله تسير نحو الأسوأ في كلّ يوم. انّه بلد توزع الناخبون فيه على أحزاب مذهبية لا تمتلك أي برامج سياسية او اقتصادية. بلد صارت فيه الجامعات مكانا لممارسة الشعائر الدينية بدل ان تكون مراكز علمية تخرّج أطباء ومهندسين وعلماء وتستفيد من الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم.
لعلّ اخطر ما شهده العراق في السنوات الأخيرة يتمثل في تمزيق ما بقي من النسيج الاجتماعي للبلد. في أساس ذلك تحكّم الأحزاب المذهبية بكلّ نواحي الحياة وفرضها قيما لا علاقة لها بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم. لم يعد مكان في العراق لربّ عائلة يريد تربية أولاده بطريقة سليمة. لم يعد هناك من مستقبل لغير الفاسدين الذين يعملون لدى أحزاب دينية او لمنافقين قبلوا ان يكون بلدهم مجرّد تابع لإيران.
اين كان العراق قبل ستين عاما وأين صار الآن؟ الأكيد ان النظام الملكي لم يكن نظاما مثاليا، لكنه كان نظاما قابلا للتطوير. كانت العائلة الهاشمية تمتلك قيما مختلفة ابعد ما تكون عن ممارسة العنف. كانت هناك في العراق قيم تستند الى التسامح والانفتاح على العالم، على الغرب تحديدا. لم تكن هناك قيم تقوم فقط على الغاء الآخر لمجرّد الشك في ولائه. فوق ذلك كلّه، كانت هناك استعانة بأفضل العراقيين لتولي المناصب العامة بغض النظر عن الدين والطائفة والقومية. هل يعقل ان يكون الآن في العراق رجل دين لا يمتلك أي ثقافة سياسية من ايّ نوع يسعى الى قيادة البلد وتنظيم الحياة السياسية فيه؟
لعلّ اخطر ما يمرّ فيه العراق حاليا امران. يتمثل اوّلهما في فشل الاكراد، في ضوء النتائج الكارثية لقرار السير في الاستفتاء على الاستقلال في أيلول – سبتمبر الماضي، في إقامة منطقة تشكل نموذجا ناجحا لما يمكن ان يكون عليه العراق مستقبلا.
امّا الامر الثاني فيتمثل في امكان استخدام ايران للعراق في عملية تستهدف التأثير على امدادات النفط في العالم. من هذا المنطلق ليس مستغربا ان يكون كلام المسؤولين العراقيين عن وجود “عناصر مندسة” تعمل على تصعيد الموقف يستهدف الإشارة الى عناصر تابعة لإيران. ما لا يمكن تجاهله ان ايران تمرّ حاليا في مرحلة صعبة في ظل مخاوف من مزيد من العقوبات الاميركية التركيز فيها على تصدير نفطها.
لا يمكن استبعاد فرضية ان ايران التي هددت باغلاق مضيق هرمز في حال منعها من تصدير نفطها، تريد توجيه رسالة عشية قمة دونالد ترامب – فلاديمير بوتين. فحوى الرسالة انّه اذا لم تكن ايران قادرة على اغلاق مضيق هرمز، فهي قادرة على استخدام العراقيين في تعطيل عملية تصدير النفط العراقي. سيكون لذلك تأثير كبير على السوق العالمية وعلى سعر برميل النفط.
ايّا تكن ابعاد التحرك الشعبي في الجنوب العراقي، وبغض النظر عمّا اذا كان عفويا بالفعل، وهو عفوي في جانب منه، وبغض النظر ايضا عمّا اذا كان سيصل الى بغداد، هناك مشهد حزين لا مفرّ من التوقف عنده. في خلال ستين سنة جرت عملية تدمير ممنهجة للعراق. بدأها الغوغاء الذين قتلوا افراد العائلة المالكة، بمن في ذلك فيصل الثاني. تحدث هؤلاء بعد ذلك عن “ثورة”. كيف يمكن لضباط حاقدين من اشباه الامّيين والضييقي الأفق، ضباط لا يؤمنون سوى بالقتل، القيام بثورة؟
لم تنته هذه عملية التدمير بعد، على الرغم من ان ايران التي كانت الشريك الآخر في الحرب الاميركية على العراق، انتقمت من كلّ طيّار وضابط كبير شارك في حرب 1980-1988، بل عملت على تدمير كلّ مرفق عراقي ذي أهمية حيوية واشرفت مباشرة على عمليات تطهير ذات طابع مذهبي في كلّ المدن والمناطق العراقية.
لا يبدو انّ هناك أي امل في الأفق بالنسبة الى العراق، على الرغم من وجود شعور عام برغبة في التخلص من الهيمنة الايرانية، حتّى لدى الشيعة. أسوأ ما في الامر ان ايران قد تكون في وضع يمكنها من استغلال نفط العراق لمآرب خاصة بها. تبدو وايران وكأنها لم تشبع بعد من الدمّ العراقي ومن كلّ ما جنته الى الآن من الاحتلال الاميركي لهذا البلد الذي صنع في الماضي القريب، أي قبل ستين عاما، املا بان يقوم في المنطقة كيان سياسي من نوع آخر قابل للتحول الى دولة حديثة.