أغلق البازار الكبير في طهران أبوابه في بدايات هذا الأسبوع للمرة الأولى منذ الاحتجاجات التي مهدت لثورة 1978-1979، وإذا كان الغضب يتصل بتهاوي العملة الإيرانية بالقياس للدولار، إلا أنه يأتي في سياق حراك شعبي عميق بدأ في أواخر العام الماضي ولم يهدأ رفضا لسياسات الحكم الخارجية وللأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية.
وليست مصادفة أن يترافق ذلك مع سلسلة الضغوط الأميركية منذ قرار الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، ووضع إستراتيجية مزدوجة من أجل احتواء النشاط الإقليمي للنظام الإيراني والسعي لتغيير سلوكه. هكذا تؤشر مسارات “الجمهورية الإسلامية” في الداخل والخارج إلى منحى انحداري، وتلوح في الأفق نهاية “الحقبة الإيرانية” أو “العصر الإيراني” في الشرق الأوسط الذي بدأ فعلا لناحية التمدد الإقليمي مع الدخول الأميركي إلى بغداد في العام 2003، وبلغ أوجه إبان إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
يتنبه كل مراقب للشأن الإيراني إلى أهمية وتداعيات غضب روابط ورجال البازار، حيث أن تضافرهم إلى جانب رجال الدين وعمال النفط كان من العوامل الحاسمة في سقوط الشاه.
ولذا يحاول القائمون على الحكم تقديم رواية مختلفة عن أحداث بازار طهران في الأيام القليلة الماضية، حيث أعلن المدعي العام، عباس جعفري دولت أبادي، أن “مثيري الاضطرابات ليسوا من أهل السوق”، لكن الشهود والمصادر المستقلة أكدوا عكس ذلك لأن تحركات هذا القطاع كانت عفوية ردا على وصول سعر الدولار إلى تسعة آلاف تومان (أي ضعف سعره مقارنة بنهاية العام الماضي) واختفاء اليورو وصعوبات شراء السلع وتحريك الدورة الاقتصادية.
واللافت للنظر احتدام التضخم وانهيار سعر العملة الوطنية قبل البدء بتطبيق العقوبات الاقتصادية الأميركية في أغسطس القادم، وقبل طلب واشنطن من الدول الأخرى الامتناع عن استيراد النفط الإيراني ابتداء من نوفمبر القادم. ويعزو الكثير من الخبراء هذا التدهور إلى استمرار الإنفاق الإيراني على العمليات الخارجية من سوريا إلى اليمن، وكذلك بسبب الفساد وعدم الشفافية وسيطرة الحرس الثوري الإيراني على مرافق الاقتصاد، مما زاد أيضا من نقمة أهل البازار. والأدهى يتمثل في الحجم الكبير للأموال المهربة إلى الخارج.
يطال التردي الاقتصادي أكثر من 43 بالمئة من الإيرانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر.
ويشار إلى أن المظاهرات بدأت في مشهد نتيجة انفجار الفقاعة العقارية، حيث انهارت مؤسسات الإقراض التي كانت تتعامل مع الألوف من صغار المستثمرين؛ مما أدى إلى تزايد المظاهرات والتي تميزت بأن من يتقدم صفوفها هم الطبقة الوسطى عكس المألوف.
وزاد حجم الاحتجاجات بسبب آثار الجفاف في بعض الأمكنة وسوء إدارة الثروة المائية أو مطالب القوميات أًو إهمال الإعمار في مناطق أصابتها الزلازل، وكان من الواضح أن جيل الشباب ومدن الإطراف تتحرك وأن التضامن في إضراب سائقي الشاحنات، كما إبان احتجاج الدراويش، يدل على حركة شعبية تبدو وكأنها من دون قيادة مما يجعل من الصعب قمعها، لكن درجات التنسيق العالية في أكثر من مناسبة تدفع بالسلطات للشك بتحريك من معارضة منظمة تعتبرها مدعومة من واشنطن أو خصوم إيران الإقليميين.
ومما لا شك فيه أن غضب البازار يقلق الممسكين بالسلطة لعلمهم بمدى قوته في عمق السياسة الإيـرانية، وتاريخيا دفع رئيس الوزراء الإيراني الأسبق في الخمسينات محمد مصدق ثمن ابتعـاد البازار عنه وتوقف دعم الطبقة الوسطى لحكومته مما سهل محاربته من الخارج وإقالته، ولعب البازار دورا لا ينكر في صعود الخميني.
ويكتسب هذا المنعطف الداخلي أهميته على ضوء قرارات ترامب ورهانات الإدارة الحالية على زعزعة النظام، ويقود هذا التوجه مستشار الأمن القومي جون بولتون الذي تأخذ سلطات طهران عليه علاقته مع منظمة مريم رجوي (المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية).
وخلال مؤتمر للمعارضة الإيرانية ينعقدُ في ضاحية باريس أواخر هذا الأسبوع ينتظرُ أن يكون على رأس المشاركين عمدة نيويورك السابق رودولف جولياني المقرب من الرئيس الأميركي والمسؤول في فريقه القـانوني وهـذا أمر له دلالتـه الرمزية البالغة.
زيادة على ذلك، تسعى إدارة الرئيس ترامب إلى وضع الحكم الإيراني بين فكي كماشة الضغوط الخارجية والاهتزاز الداخلي، ويبدو أن هذه الإستراتيجية المنسقة تتصاعد فصولا، وأن الدعم الأوروبي للاتفاق النووي لم يمنع أهم الشركات الأوروبية من مغادرة إيران خشية من العقوبات الاقتصادية الأميركية.
وإزاء ترنح الاتفاق النووي تكتفي السلطات بالتهويل ولا تذهب بعيدا كي تتجنب تصعيد واشنطن، لكن هناك خطوات تكشف عن موازين القوى داخل سرايا الحكم مثل قرار الرئيس حسن روحاني بسحب مشروع قرار للانضمام إلى اتفاقية عالمية ضد تمويل الإرهاب (FATA)، كما تم إعطاء الوعد من قبل إلى إدارة أوباما وهذا نصر يحسب للحرس الثوري ومحيط المرشد في صراع القوى داخل طهران. ومن الخطوات الأخرى إعادة إنتاج ما يسمى الكعكة الصفراء بعد تخصيب اليورانيوم من جديد إثر فتح منشأة نووية جرى إغلاقها بعد توقيع اتفاق يوليو عام 2015.
إزاء التحدي الترامبي والزلزال الداخلي الكامن يطرح البعض من النافذين تحميل الرئيس حسن روحاني المسؤولية، ويقال إن الحرس الثوري أخذ يطرح أسماء بديلة له. ومن الواضح أن هذا المسعى لن يكفي لوقف موجة الاحتجاج الواسعة، بل يستهدف عدم التركيز على خلافة المرشد علي خامنئي وإيجاد مخرج من هذا النوع، أو الاكتفاء بتعديل حكومي لامتصاص الغضب من البازار وسط طهران إلى العمق الشاسع للبلاد.
والجدير بالذكر أن موجة الحراك الشعبي الحالية شبيهة بالذي جرى عشية 1978-1979، ومنذ 1905- 1906 (الثورة الدستورية الأولى) إلى مرحلة مصدق في الخمسينات، وهناك على ما يبدو انتظام زمني لجهة الفاصل بين أدوار التغيير.
ستكون لإيران وملفها بشكل عام، ودورها في سوريا بشكل خاص، حصة هامة على جدول أعمال قمة الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هلسنكي في 16 يوليو القادم، لكن مصير اختبار القوة داخل إيران وخارجها سيقرره الشعب الإيراني في المقام الأول.
khattarwahid@yahoo.fr