(الصورة: مدينة كان اسمها “حمص”)
لحقت هزيمة كبيرة بالرئيس دونالد ترامب في الامم المتحدة. لكنّ هذه الهزيمة لا تغطي على مأساة المدن العربية الأخرى ولا تدعو الى اعلان الانتصار على إسرائيل واستعادة القدس الى السيادة العربية او الفلسطينية.
ليست القدس سوى مدينة عربية اخرى تتعرّض لمحنة وظلم شديد. تبدو الأنظار كلّها مشدودة الى القدس نظرا الى انّ فيها مقدسات يهودية ومسيحية واسلامية. ولكن ماذا عن دمشق وبغداد وحمص وحماة وحلب والموصل والبصرة وأخيرا صنعاء. ماذا عن بيروت التي لم تتوقّف عن ردّ الهجمات التي تتعرّض لها منذ منصف سبعينات القرن الماضي، ثمّ منذ العام 1984، تحديدا، والتي استطاعت ردّ هذه الهجمات واستعادة عافيتها الى حدّ كبير. استطاعت ذلك الى ان انتقم منها، وما زال ينتقم منها الى اليوم قتلة رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير من العام 2005.
صوتت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأكثرية ساحقة ضدّ القرار الاميركي القاضي باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل. كانت لدى ترامب مشكلة في غاية الوضوح تتمثّل في تحديد ايّ قدس عاصمة لإسرائيل. اذا كان الامر يتعلّق بالقدس الغربية، فلا شأن لاحد بذلك ما دام العالم العربي كلّه اعترف بالقرار 242. امّا القدس الشرقية فهي ارض محتلّة في العام 1967 ولا يحقّ لا لترامب ولا لغير ترامب اعتبارها جزءا من إسرائيل، اللهمّ الّا اذا كانت القوّة العظمى الوحيدة في العالم باتت تنادي بتكريس الاحتلال.
يكفي عرض لائحة الدول التي صوتت الى جانب الولايات المتحدة للتأكّد من حجم الهزيمة الاميركية التي لا سابق لها في الامم المتحدة. سبع دول لا اهمّية لها دعمت الموقف الاميركي في مقابل 128 دولة، بينها الدول الأربع الاخرى التي تتمتع بالعضوية الدائمة في مجلس الامن، كانت مع القدس والموقف العربي من المدينة التي ترمز الى ما هو اكثر من مدينة مقدّسة لليهود والمسيحيين والمسلمين. انّها ترمز الى تعقيدات النزاع العربي – الإسرائيلي الذي يبقى الى اشعار آخر مدخلا للاستقرار في الشرق الوسط. يبقى كذلك، على الرغم من كلّ ما فعلته ايران منذ العام 1979 من اجل المتاجرة بالفلسطينيين وقضيّتهم وتحويل هذه القضيّة الى مجرد ورقة في اطار السعي الى صفقة بين ايران و”الشيطان الأصغر” الإسرائيلي. تظلّ القدس مدخلا الى تسوية شاملة تعيد قسما من الحقوق الى أصحابها وتوفّر غطاء للفلسطينيين كي يتمكّنوا من عقد صفقة شاملة قد تكون غير عادلة مع إسرائيل.
لعلّ أسوأ ما يمكن ان يفعله الجانب العربي هو ان يعتبر التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة انتصارا يسمح بتجاهل المأساة الكبرى التي تتعرّض لها المدن العربية الأخرى وآخرها الموصل. لا يمكن لما تحقّق في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ان يغني عن مصالحة مع الواقع المتمثل في ان الهجمة على القدس استمرار للهجمة التي تتعرّض لها كلّ المدن العربية في المشرق بدءا بعملية اعادة النظر بالتركيبة السكانية لبغداد وصولا الى تهجير اهل الموصل منها، مرورا بالطبع بنشر التخلّف في كلّ انحاء البصره بعيدا عن كلّ ما كانت تمثله تلك المدينة في الماضي القريب. بدأت الهجمة الجديدة على بغداد في 2003، علما ان المدينة تعرّضت لظلم كبير منذ بوشرت هجمة الريف عليها مع وصول البعث الى السلطة وقبل ذلك عندما سقط النظام الملكي في العام 1958.
لكنّ التهجير المدروس لسكّان بعض الاحياء بدأ عمليا مع دخول الاميركيين الى المدينة والانتصار الذي حقّقته ايران بفضل إدارة جورج بوش الابن. ارادت ايران، الشريك في الحرب الاميركية على العراق، الانتقام من البلد الجار ومن كلّ ما هو حضاريّ فيه. انطلقت من بغداد حملتها الهادفة الى وضع المدن الكبرى تحت سيطرتها، على طول الخطّ الممتد من بغداد الى بيروت.
لا يقتصر الامر على المدن العراقية التي لم تعد مدنا بل ضواحي فقيرة من ضواحي طهران. يكفي انّه لم تعد هناك أي جامعة عراقية في ايّ مدينة من مدن العراق يمكن الاعتداد بالشهادات التي يحوز عليها طلّابها. هذا في الجانب العراقي، امّا في الجانب السوري، فانّ لكلّ مدينة سورية قصّة. كانت ثورة الشعب السوري في العام 2011 فرصة كي ينتهي نظام بشّار الأسد من كلّ المدن السنّية الكبيرة التي لدى كان لوالده حسابات يريد تصفيتها مع أهلها. تلك هي الصورة الأكبر التي يفترض الّا تغيب عن كلّ من هو حريص عن حقّ على القدس بكلّ ما تمثّله.
باختصار شديد، انتصر العالم للقدس. ولكن متى ينتصر أيضا لكلّ مدينة من المدن التي تتعرّض لاسوأ مما تتعرّض له القدس عن طريق عمليات تطهير ذات طابع مذهبي او عن طريق تدمير منهجي لمدن سورية أيضا. يشارك الروس الايرانيين احيانا في عملية التدمير هذه بكلّ اسف…
ثمّة جانب آخر لا يمكن تجاهله حتّى لو كان الانتصار الذي تحقّق في الامم المتحدة كبيرا. يتمثّل هذا الجانب في انّ الولايات المتحدة لا تتأثر بقرارات تتخذ في نيويورك حيث مقرّ المنظمة الدولية. يظل الكونغرس المكان الاهمّ بالنسبة الى كلّ من يريد التعاطي مع الولايات المتحدة. ما يهمّ إسرائيل هو الكونغرس الاميركي وكلّ تصويت يجري في مجلسيه (مجلس الشيوخ ومجلس النوّاب). تمسك إسرائيل بالادارات الاميركية من خلال امساكها بالكونغرس. هناك جهد إسرائيلي منصبّ على كلّ عضو من أعضاء الكونغرس.
من يتذكّر ان الكونغرس تجرّأ على دعوة بنيامين نتانياهو الى القاء خطاب امام مجلسيه متجاهلا البيت الأبيض وموقف باراك أوباما الذي قرّر نتانياهو تجاوزه. كان ذلك في آذار – مارس من العام 2015. لم يستطع الرئيس الاميركي بعد ذلك سوى التراجع عن كلّ مواقفه التي كان يمكن ان تشتمّ منها رغبة في الحدّ من العدوانية الإسرائيلية التي يجسّدها الاستيطان في الضفّة الغربية والعمل الدؤوب على عزل القدس الشرقية عن محيطها العربي.
لا يمكن الاستخفاف بما جرى في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في ما يخصّ القدس. ولكن يظلّ السؤال كيف يمكن البناء على الحدث من دون الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة حيث توجد إدارة لا تزال تبحث عن استراتيجية لها في الشرق الاوسط. نعم، كان التصويت في الجمعية العمومية للأمم المتحدة انتصارا. ولكن هل يغني هذا الانتصار عن محاولة وضع قضية القدس في نطاق أوسع، هو نطاق ما تتعرّض له وتعاني منه مدن عربية عدة في ظلّ المشروع التوسّعي الايراني الذي يصبّ القضاء على كلّ حاضرة عربية؟
الاهمّ من ذلك كلّه، كيف يمكن ان يساعد القرار في استعادة جزء ولو صغير من القدس كي لا يبقى مجرّد حبر على ورق؟
في النهاية تبقى لاي قرار من نوع القرارات التي تتخذها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في حاجة الي قوّة تدعمها. ما نوع القوّة التي يمكن للعرب استخدامها في الوقت الحاضر في التعاطي مع الولايات المتحدة. بعض الشجاعة يبدو ضروريا بين وقت وآخر. والشجاعة في موضوع القدس تعني اوّل ما تعنيه التعاطي مع الواقعين الدولي والإقليمي اللذين يمكن ادراج قضية المدينة المقدسة في سياقهما بعيدا عن أي نوع من الاوهام والاحلام…