طبّاخ السم يذوقه. ثمة مَنْ استعاد هذا الكلام بعد الهجوم الداعشي في بلدة تركية. لا نملك، بطبيعة الحال، معطيات لا تقبل الدحض، تؤكد وجود نوع من التفاهم الضمني، والعلاقة النفعية المتبادلة، بين تركيا الأردوغانية والدواعش. لذا، وحتى نجد ما يكفي من الشواهد، ينبغي القول إن ترجيح وجود علاقة بين الأتراك والدواعش يعتمد على المنطق أكثر من اعتماده على الدليل والبرهان.
ولكي لا يجهلن أحد على أحد، فلنقل إن العلاقة الملتبسة بين تركيا الأردوغانية والدواعش ليست بالظاهرة الفريدة، أو الجديدة، في العلاقات، والصراعات، الإقليمية والدولية، التي توفر ظروفاً موضوعية لتحالفات نفعية قصيرة، أو متوسطة المدى، بين دولة وجماعة إرهابية، يحرص الطرفان على إنكار وجودها في العلن. ولا يندر أن تنقلب الدولة على الجماعة، أو العكس.
مَنْ يذكر كتاب باتريك سيل عن جماعة صبري البنا: “أبو نضال: بندقية للإيجار“، الذي حلل ووثّق كيف كانت جماعة راديكالية، ترفع شعارات ثورية فاقعة، مجرد بندقية للإيجار، تخدم في السر دولاً تناصبها العداء في العلن، وتدعمها في السر، دول تناصبها العداء في العلن.
ومَنْ يذكر حرب “الجهاد” الأفغاني، التي انخرط فيها الأمريكيون، والباكستانيون، وعرب كثيرون، بعد الانقلاب الشيوعي، والتدخل السوفياتي. في السنوات الأولى “للجهاد” أنكر كبار اللاعبين الإقليميين والدوليين تسليح، وتدريب، وتمويل، جماعات “المجاهدين” العرب والأفغان المعادية للإصلاح الزراعي، والتحديث الاجتماعي، وتعليم النساء، والشيوعية الكافرة، والروس الغزاة. ولم تنكشف الأسرار، والأبعاد الحقيقية، لما حدث على مدار عقد من الزمن، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وحتى نهاية الثمانينيات، إلا بعد سنوات كثيرة لاحقة، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، التي انقلب فيها، وبعدها، الإرهابيون، حلفاء الأمس، على الأميركيين، والسعوديين، والباكستانيين، وغيرهم، الذين تذوّقوا ما سبق وطبخوه من سم.
وقد نشأت على مدار العقدين الماضيين مكتبة هائلة تضم الكتب والدراسات والوثائق، والأفلام الدرامية والوثائقية، حول “الجهاد” الأفغاني. ولمحبي الاطلاع نذكر “حرب شارلي ويلسون” لجورج كريل (2003)، الذي تحوّل إلى فيلم يحمل الاسم نفسه، بطولة توم هانكس، وجوليا روبرتس، و”حروب الأشباح” لستيف كول (2008)، و”البرج الذي يلوح في الأفق” للورانس رايت (2007)، وبطبيعة الحال الكتاب العمدة للباكستاني أحمد رشيد “طالبان” (2010). وهذا غيض من فيض.
المهم، ثمة ما لا يخفى من أوجه الشبه بين باكستان في زمن “الجهاد” الأفغاني، وتركيا في زمن “الخلافة” الداعشية. ففي الحالة الباكستانية نجد نظاماً يعتمد أيديولوجيا الإسلام السياسي لتحقيق مصالح استراتيجية، تتعلّق بالصراع مع الهند، ومشكلة كشمير، والحدود مع أفغانستان، واختلاط الأنساب والقبائل على جانبي الحدود.
وفي الحالة التركية نجد نظاماً يعتمد أيديولوجيا الإسلام السياسي لمنافسة إيران على دور القوّة الإقليمية في سورية والعراق (والإقليم)، وإخماد الطموحات القومية للأكراد في البلدين، إضافة إلى تركيا نفسها، ناهيك عن اختلاط الأنساب والقبائل على جانبي الحدود السياسية المرشحة للانكماش أو التمدد.
وكما حدث في الحالة الباكستانية (التي توّلت فيها أجهزة الأمن، بعيداً عن رقابة الصحافة، والبرلمان، والأحزاب السياسية، إدارة الحرب على السوفيات، بما فيها تسهيل مرور السلاح، والمتطوّعين، والأموال، وإنشاء معسكرات تدريب، ومراكز إعلامية وخدمية) تتولى أجهزة الأمن التركية، في الوقت الحاضر، بعيداً عن رقابة الصحافة، والبرلمان، والأحزاب، إدارة الحرب في سورية والعراق، وتقدّم الخدمات نفسها، التي سبق وقدمها الباكستانيون.
وفي هذا الصدد، ثمة الكثير من التلميحات، والتحليلات، علاوة على ما تناقلته وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة، وما صدر عن مؤسسات دولية، وإعلامية، ففي أواخر العام الماضي، ذكر تقرير للأمم المتحدة أن “معونات الأسلحة والذخائر المقدمة للمنظمات الإرهابية المتشددة في سورية يتم إرسالها عبر تركيا”، كما حظرت السلطات التركية، في الشهر الماضي، خبراً نشرته صحيفة محلية عن اكتشاف الدرك لشاحنات محملة بذخائر مدفعية وصواريخ، ومهمات عسكرية، في طريقها إلى الدواعش بإشراف أجهزة الأمن التركية.
وكما في الحالة الباكستانية حين نشأت بنية تحتية للإرهاب، تتكوّن من جمعيات دعوية، وخدمية، وشبكات إعلامية، ومالية، نشط فيها باكستانيون، ومتطوعون، ومستثمرون أجانب، نشأت في تركيا، دون ممانعة من جانب النظام، بنية تحتية للإرهاب ينشط فيها أتراك، ومتطوعون، ومستثمرون في المال والأيديولوجيا من داخل وخارج البلاد. لذلك، عندما حاولت تركيا الأردوغانية التعبير عن غضبها بعد هجوم الدواعش الانتحاري في بلدة سروج، اعتقلت المئات من أنصار الدواعش، والمتعاطفين معهم، في مدن تركية مختلفة.
ومع ذلك، ينبغي التفكير بقدر كبير من التحفّظ في غضب تركيا الأردوغانية، التي شنت حتى الآن غارات على مواقع للدواعش والأكراد، وسمحت للأميركيين باستخدام قاعدة جوية، وشرعت في الكلام عن “منطقة عازلة” على الحدود السورية.
ولنقل إن مصدر التحفظ، بقدر ما أرى الأمر، ومنشأ هذا الكلام الحدس، أن تركيا الأردوغانية لن تفرّط بورقة الدواعش، والنصرة، وأشباههم، بهذه السرعة، والطريقة. بل ويمكن حتى أن نتخيّل زيارات سريّة متلاحقة لكبار المستثمرين في السياسة والأيديولوجيا، وهؤلاء أتراك وعرب أقحاح وعجم، للتوسط بين الأردوغانيين والدواعش، في محاولة لإصلاح ذات البين. ولنقل، أيضاً، إن الأكراد هم الهدف الرئيس للغارات الجوية الأردوغانية، أما الدواعش فهم الذريعة والقناع.
ومع هذا كله، ليس من السابق لأوانه القول: إن طبّاخ السم يذوقه.
khaderhas1@hotmail.com