توقّفنا قبل أسبوع عند ردة الفعل ثلاثية الأضلاع لعودة الدين إلى السياسة. ففي الشرق الأوسط، ثمة مَنْ حاول إنشاء لاهوت للتحرير، وفي السعودية فكروا في معالجة التطرّف بمزيد منه، وفي أميركا ثمة منْ فكّر في تحويل العودة نفسها إلى سلاح في الحرب الباردة. هذا كله على خلفية الزلزال الإيراني، وبما أن الثورة تزامنت مع التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان، وفّرت تلك البلاد مسرح العمليات الأمثل لاختبار سلاح الدين. وفي السياق وُلد الإسلام السياسي الجهادي، كما نعرفه اليوم، على اختلاف راياته وتسمياته، من مصادر أيديولوجية وهابية وإخوانية وإيرانية.
تستدعي قراءة المشهد بأثر رجعي ترتيباً معيّناً للأولويات. لذا، ستقتصر معالجة اليوم على اللاعب الأميركي. وفي سياق كهذا ثمة مفاصل لا غنى عنها لاختزال وتركيز استراتيجية الأميركيين في نقاط مفصلية تفسّر وتبرر أفعالهم. ونقطة البداية، هنا، أن قرابة أربع سنوات فقط فصلت بين سقوط سايغون في العام 1975، وسقوط الشاه، والتدخل السوفياتي في أفغانستان. بمعنى أن ذكريات الهزيمة في فيتنام، وهي اللطمة الأهم لكبرياء وعنجهية الإمبراطورية، كانت لا تزال طريّة في ذاكرة الأميركيين عند وقوع الحدثين، ولم تكن لتحتمل أكثر من تفسير واحد: انتصار المعسكر الاشتراكي السوفياتي ـ الصيني ـ اليساري العالمي، وطليعته حركة التحرر القومي في المستعمرات، على الإمبراطورية وكل عالم الغرب الرأسمالي.
لذا، وفّر التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان فرصة ذهبية للثأر من المعسكر الاشتراكي. لم يفكر الأميركيون في حينها أن اللطمة الانتقامية قد تكون قاضية بقدر حرصهم على أن تكون مؤلمة تماماً. وكما يليق بالإمبراطوريات على مر العصور، تموضعت اللطمة على خلفية تصوّرات جيوـ سياسية أكبر وأشمل وقع عبء ترجمتها، في عهد إدارة الرئيس كارتر، على عاتق مستشار الأمن القومي زبغنيو بيرجنسكي، وهو أستاذ للعلوم السياسية من أصل بولندي، ومحارب عنيد ضد الشيوعية، وربما حاول التدليل أنه لا يقل براعة في هندسة العالم عن كيسنجر.
ثمة مسألة إضافية لا تحتل، عادة، ما تستحق من مكانة في تحليل تلك الفترة، وتتمثل في حقيقة أن قدراً كبيراً من التشاؤم ساد أوساط النخب الحاكمة الأميركية في النصف الثاني من السبعينيات، فالحظر النفطي، بعد حرب أكتوبر 1973، خلخل الموازنة، وسوق المال والأعمال، في تلك البلاد، وألحق ضررا فادحاً بكثير من الاقتصادات الأوروبية، وبدت بلدان من الطوق الخارجي في أوروبا، كالبرتغال، مرشحة للوقوع في قبضة الشيوعية، وكما بدت إيطاليا نفسها مهددة، وإذا سقطت إيطاليا أصبح سقوط فرنسا مسألة وقت. وبالتالي، يمكن لكل أوروبا الغربية أن تكون مهددة بالسقوط.
وما لا يعرفه كثير من العرب أن شاه إيران كان أحد القوى الرئيسة والمُحرّضة على الحظر النفطي، وصاحب الدور الأكثر تشدداً في زيادة أسعار النفط لتمويل مشاريع التحديث المدنية والعسكرية، التي اعتقد الأميركيون أنها فائضة عن الحاجة، وأكبر مما تحتاج بلاه. وقد التزم الشاه بالحظر النفطي، ولكنه لم يتوقف عن تزويد إسرائيل بالنفط، كما جسّ نبض الأميركيين في موضوع احتلال منابع النفط في السعودية، وكان هؤلاء بدورهم يفكّرون في خيارات كهذه لتفادي انهيار الغرب الرأسمالي، وقطع الطريق على السوفيات للحيلولة دون وصولهم إلى منابع النفط هناك.
وعلى خلفية هذا الواقع بين الكتّاب والمحللين الأميركيين والغربيين، من المولعين بنظرية المؤامرة، مَنْ يعتقد أن الأميركيين تآمروا لأسقاط الشاه، وسهّلوا وصول الخميني إلى السلطة، انتقاماً من الأوّل على دوره في الحظر لنفطي، وزيادة أسعار النفط، وتعبيراً عن الامتعاض من ناكر للجميل أعادوه إلى العرش، بعد الإطاحة بمصدّق في العام 1953.
المهم، في أجواء من التشاؤم والقلق، رسم بريجنسكي تصوّراته الجيوـ سياسية في صورة ما أسماه قوساً للأزمات يمتد من شبه القارة الهندية في الشرق إلى القرن الأفريقي في الغرب. يقع الشرق الأوسط في قلب هذا القوس، ويمثل المنطقة الوحيدة في العالم، الواقعة في دائرة النفوذ الغربي، ولكنها الأقرب جغرافياً إلى الاتحاد السوفياتي، وفي باطنها ثلاثة أرباع الاحتياطي النفطي في العالم، ناهيك عن الأسواق وطرق التجارة الدولية وإسرائيل.
لم يكن خافياً، على بريجنسكي أو غيره، أن الإسلام، على اختلاف طوائفه، يمثل الديانة السائدة لغالبية مواطني الدول والكيانات الواقعة في قوس الأزمات. وبهذا المعنى لا تبدو الاستفادة من عودته إلى السياسة في نظر الأميركيين مسألة نظرية، ولا تدل حتى على لؤم من نوع ما، فهي ترجمة واقعية لحسابات باردة، خاصة وأن نظرية الاحتواء، التي تبلورت بعد نهاية الحرب الباردة، اعتمدت في جانب منها على ما عُرف في حينه بالحزام الإسلامي الأخضر للحيلولة دون تمدد الشيوعية، ووصول الدب الروسي إلى المياه الدافئة.
وكان في التجربة التاريخية قريبة العهد ما يدعم خيارات كهذه. فالجمهوريات الراديكالية العربية، شبه العلمانية، ذات التوجهات القومية، في عقدي الخمسينيات والستينيات، التي لم يناصبها الأميركيون العداء في المرحلة الأولى، على خلفية طموحهم للحلول محل الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، برهنت على استعصاء وصل أحياناً حد العداء السافر، وتبنت سياسات وخطاب حركات التحرر القومي في المستعمرات، وتشددت إزاء إسرائيل.
وفي المقابل، حافظت الملكيات على علاقات ودية تماماً مع الأميركيين والغرب عموماً، وتبنّت قيماً دينية وقبلية مُحافظة، وانخرطت في عداء صريح للشيوعية. وغالباً ما كان الإخوان المسلمون، وهم أهم وأقدم حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، حلفاء تلك الأنظمة. لذا، كانت العودة، في مشروع مجابهة السوفيات في أفغانستان، إلى “ما عرفناه وجرّبناه”، في نظر الأميركيين، أفضل ألف مرّة من مجازفة البحث عن وكلاء وحلفاء جدد. ولنا، في الثلاثاء القادم، عودة، ففصول الحكاية كثيرة، وعبرها مريرة.
khaderhas1@hotmail.com