أشرنا في مقالة سبقت، وفي معرض العودة إلى العام 1979، إلى ردّة فعل حكّام السعودية على حدثين وقعا في ذلك العام هما محاولة جهيمان الاستيلاء على الحرم، والثورة الإيرانية. مثّلت الأولى، في نظرهم، تحدياً من جانب المتشددين الدينيين للنظام القائم، والثانية، في نظرهم أيضاً، ترجمة لما قد ينجم عن التحديث المتسارع من استعداء لرجال الدين والمحافظين.
ردوا على التشدد الديني، في الأولى، بمزيد منه، وعلى استعداء رجال الدين والمحافظين، في الحالة الإيرانية، بمنح المؤسسة الدينية والمحافظين في بلادهم، سلطات وموارد وتسهيلات أكثر وأكبر. ومن رحم هذه العملية المزدوجة، أي معالجة التشدد بمزيد منه، وتمكين المؤسسة الدينية والمحافظين، وُلد ما سيُعرف في وقت لاحق بالصحوة في السعودية، وتجلى فيها زواج المهارات التنظيمية والحركية والفكرية والدعائية للإخوان المسلمين المصريين والسوريين، على نحو خاص، بالوهابية النجدية، الأيديولوجيا الرسمية للدولة، ومصدر شرعيتها.
ومع ذلك، كان للثورة الإيرانية دلالة أبعد من استعداء نظام الشاه لرجال الدين، والمحافظين، وفي القلب من تلك الدلالة عودة الدين إلى السياسة. دلالة لم يفشل أحد في الإقليم والعالم في تفسيرها بطريقة ما، ومحاولة التأقلم معها، أو الاستفادة منها، أو الرد عليها بطريقة أو أخرى. فالثورة الإيرانية، التي تشبه في تأثيرها ثورة البلاشفة الروس، كانت زلزالاً ترددت أصداؤه في أربعة أركان الأرض، إذ كانت ثورة حقيقية، خلافاً لمزاعم الضباط في العالمين العربي والإسلامي، الذين استولوا على السلطة في انقلابات عسكرية أسموها ثورات.
وتصادف أنها جاءت في وقت كانت تُسمع فيه، في أميركا اللاتينية على نحو خاص، أصداء ما سُمّي حينها بلاهوت التحرير، وتجلى في انخراط بعض رجال الكنيسة في الحركات المعادية للإمبريالية الأميركية، والدكتاتوريات المحلية، والمشاركة في حروب العصابات. وعلى هامش هذه العملية انهمك مثقفون ورجال دين، في أميركا اللاتينية، في بلورة المرافعات النظرية لما ينبغي، ويجب، في مجابهة الظلم أن يكون عناصر ثورية في المسيحية.
وكان من الطبيعي أن تتردد أصداء لاهوت التحرير في الشرق الأوسط. في إيران، مثلاً، نشأت تنظيمات كمجاهدي خلق حاولت التوفيق بين الإسلام والماركسية. وفي السياق نفسه ظهر مثقفون إيرانيون، وبعضهم كعلي شريعتي تجاوز نفوذه إيران نفسها، لبلورة لاهوت للتحرير في الحقل الديني الإسلامي. وفي مصر حاول حسن حنفي إنشاء لاهوت للتحرير.
حدث هذا كله عشيّة الثورة الإيرانية، التي جاءت وكأنها الدليل العملي والحي على صدق تصوّرات سبقت بشأن عودة الدين إلى السياسة بوصفه رافعة أيديولوجية للثورة المعادية للإمبريالية، والدكتاتوريات المحلية، وضمانة لتحقيق العدالة الاجتماعية. لذا، لم يكن من المفاجئ انتقال مثقفين عرب من الماركسية والقومية إلى المعسكر الديني على أمل تثويره. كان عادل حسين أبرز الأمثلة في مصر، وفي فلسطين حاول منير شفيق، وهو من أبرز المناضلين، والمثقفين الفلسطينيين، المزج بين الماركسية والإسلام.
لا فائدة، طبعاً، من التذكير بحقائق من نوع أن الثورة الإيرانية لم تكن من صنع رجال الدين، الذين نجحو في الاستيلاء عليها، ولا التذكير بدور مجاهدي خلق، والطلاب، والمستقلين، والشيوعيين، في الثورة، وقد فتك الخميني وأنصاره بكل هؤلاء في وقت لاحق، ولا حتى بحقيقة ما يسم الإسلام الشيعي من خصوصيات بالمعنى التنظيمي والأيديولوجي والاجتماعي، على خلفية الخبرة التاريخية، والعلاقة بالدولة. المهم أن الثورة وقعت، وأن سمتها الدينية طغت على كل شيء آخر، وأن الكل في الشرق والغرب، على حد سواء، استخلص درساً من نوع ما، وبنى عليه استراتيجية من نوع ما.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأميركيين، وهم أسياد هذا الجزء من العالم، في حينها، واليوم إلى حد ما، كانت خسارة إيران ضربة موجعة، فقد فقدوا بسقوط الشاه العمود الثاني، بعد إسرائيل، لاستراتيجيتهم الشرق أوسطية في عالم الحرب الباردة، في منطقة إن لم تكن أهم من خط دفاعهم الأوّل على الحدود بين الألمانيتين، فلا تقل عنه أهمية بالمعنى الاستراتيجي.
لذا، احتدوا، وأعدوا، واستعدوا. فعودة الدين إلى السياسة، التي رأى فيها عادل حسين، وحسن حنفي، وعلى شريعتي، ومنير شفيق، الوسيلة الأمثل لهزيمة الإمبراطورية، كانت في نظر بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي، وسيلة الإمبراطورية لحماية مصالحها، وهزيمة أعدائها.
لم يكن الأميركيون أوّل من فكّر في استغلال الدين في السياسة كجزء من استراتيجية الدفاع عن، وترسيخ، مكان ومكانة الإمبراطورية. فهذا ما فعلته كل الإمبراطوريات، في مشارق الأرض ومغاربها، على مدار قرون طويلة. لذا، تبدو عبارة “الدين يمشي في ركاب الإمبراطورية”، لا العكس، مألوفة تماماً في علوم السياسة والتاريخ.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالمين العربي والإسلامي، فقد تداول مستشرقون، وعلماء آثار، وتاريخ، ولغات سامية، إمكانية الاستفادة من مشاعر المسلمين الدينية، في سياق التفكير في، وإعداد، مشروع سكة حديد برلين ـ بغداد في أواخر القرن التاسع عشر. وحتى قبل هذا التاريخ بقرن من الزمان، أكد نابليون للمصريين، بعد احتلال الديار المصرية، أن الثورة الفرنسية تستوحي تعاليم دينهم، واعتنق بعض جنرالاته الإسلام.
ومع ذلك، اختلفت المحاولة الأميركية عن كل شيء آخر. فذاكرة الأميركيين قصيرة، وهم جددٌ على كل شيء، بما في ذلك الإمبراطورية كمشروع واستراتيجية. والمهم، في سياق بحثهم عن أدوات وحلول وُلدت حكاية لم تكف فصولها الدموية عن التناسل حتى يوم الناس هذا، وهي، كما يقول الراوي في ألف ليلة وليلة، “لو كتبت بالحبر على مآق البشر، لكانت عبرة لمن اعتبر”. وبهذا وعليه لنا عودة إلى العام 1979 أكثر من مرّة.