موسكو تحث الخطى بسبب الغياب الأوروبي اللافت وعدم قدرة إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون تمرير اقتراحه عن إنشاء مجموعة اتصال حول سوريا.
إذا كان النزاع الدائر في سوريا وحولها منذ 2011، أول نزاع إقليمي- دولي متعدد القطب في القرن الحادي والعشرين، فإن المناورات الدبلوماسية حول الأزمة السورية تخطت حدود الإقليم وطافت المؤتمرات الكثير من العواصم والأمكنة حول العالم من دون نتيجة ملموسة.
بعد الدوران في الحلقة المفرغة قي جنيف وفي سبع جولات لهذا المسار الذي انطلق في 2012 تحت مظلة الأمم المتحدة، إلى مسار أستانة “الأمني” بعد منعطف حلب أواخر 2016 وتوزيعه مناطق نفوذ الأمر الواقع، وبعد طي فكرة “مؤتمر شعوب سوريا” في قاعدة حميميم، يتركز الاهتمام على إمكانية انعقاد مؤتمر تحت مسمى “الحوار السوري” في منتجع سوتشي لتكريس ” الحل الروسي” وقطع الطريق على مؤتمر جنيف 8 في الثامن والعشرين من هذا الشهر.
ومما لا شك فيه أن لعبة إغراق المعارضة بالمنصات المتعددة ولعبة الرقص على المسارات أتقنت روسيا قيادتها في موازاة تدخلها العسكري. لكن موسكو التي تمكنت من التحكم في الورقة السورية عسكرياً إلى درجة كبيرة، سيصعب عليها الوصول إلى التحكم السياسي والتسليم بتأهيل النظام في عملية تجميل سياسي من دون مضمون وأفق.
منذ حقبة الاتحاد السوفييتي، إلى حقبة روسيا الاتحادية لم يكن لدبلوماسية القوة الناعمة من مكان مميز في سجلات موسكو. ولذا برع سيرجي لافروف في مفاوضات التعطيل مستغلاً “تواطؤ” أو ضعف موقف جون كيري الذي لم يكن يحظى بغطاء باراك أوباما في بعض المحطات.
عبر “الغموض غير البناء” في وثيقة جنيف 1 (وبعد ذلك في القرار الدولي 2254) تمكن الجانب الروسي من جعل العملية السياسية مرتبطة بالإجماع السوري الداخلي وبالوفاق الدولي، مما يمنحه حق النقض (الفيتو) تماماً كما كان يستخدمه في مجلس الأمن الدولي لحماية النظام السوري.
ومنذ 30 سبتمبر 2015 وبدء التدخل العسكري الكثيف أصبح الملف السوري في روسيا مسألة داخلية حيوية يشرف عليها الكرملين بشكل مباشر مع توزيع الأدوار بين وزارتي الدفاع والخارجية. وبرزت هذه الإدارة المشتركة في مسار أستانة وكذلك على أرض الميدان عبر ما يسمى مركز المصالحات وتسيير الأمور من خلال قاعدة حميميم.
وكان ملفتاً ذاك التخبط الروسي في الدعوة إلى مؤتمر «الشعوب السورية»، كما سماه الرئيس فلاديمير بوتين، في حميميم ومن ثم إلغاء ذلك بعد اعتراضات على عنوانه ومكان انعقاده، وجرى استبداله على عجل بالدعوة إلى مؤتمر سوتشي ويبدو أن هناك تجاذبا أو تباينا بين الجنرالات والدبلوماسيين الروس حول التفاصيل والآليات المتبعة خاصة أن الانعقاد غير مضمون إلى حدّ الساعة والنجاح بعيد المنال إذا تم تجاوز المصاعب.
ومن البديهي أن يعبر اختيار موسكو جدول الأعمال ولائحة المدعوين عن نزعة فيها تقليد للأساليب الاستعمارية الغابرة تهدف إلى خلق مرجعية جديدة للحل السوري تلتف على المرجعية الدولية. ولذا بدل تكريس جنيف 8 للانتقال السياسي مع بندي الدستور والانتخابات، تسعى موسكو عبر مسار سوتشي البديل لتركيب حكومة “وحدة سورية” تحت مظلة الرئيس بشار الأسد وتغليف ذلك بإصلاحات سياسية طفيفة لتغييب أو محو المرحلة الانتقالية.
بيد أن اختزال المرجعيات الأخرى وفرض الحل الروسي أمامه عقبات جمة وأولها على ما يبدو رفض القوى الأساسية في المعارضة للحضور، وثانيها الاعتراض التركي على حضور الحزب الكردي الاتحاد الديمقراطي للمؤتمر، وثالثها تمسك واشنطن ولندن وباريس بالمسار الأممي وبمرور قطار الحل أو السلام عبر جنيف، ورابعها عدم وجود روسيا وإيران على نفس الخط بالنسبة إلى تصور مرحلة ما بعد داعش.
من أجل فهم دواعي الاستعجال الروسي تستند قراءة موسكو إلى المناخ الدولي الملائم بسبب انهماك البيت الأبيض في لفلفة انعكاسات “روسيا غيت” والاكتفاء بالاستراتيجية إزاء إيران من دون بلورة سياسة متماسكة حيال مستقبل الوضع السوري.
وتحث موسكو الخطى بسبب الغياب الأوروبي اللافت وعدم قدرة إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون تمرير اقتراحه عن إنشاء مجموعة اتصال حول سوريا. وتعتبر الدبلوماسية الروسية أنها بسبب وجودها الميداني وقدراتها السياسية قادرة على احتواء أي معارضة داخلية أو إقليمية فاعلة لخططها.
لكن عند التطبيق العملي جاءت الأصداء مخالفة للتوقعات الروسية إذ أعربت فصائل عديدة من المعارضة السورية عن رفضها تعدد مسارات التسوية خارج إطار الأمم المتحدة.
وتخشى هذه الفصائل أن يهدف مؤتمر «الحوار الوطني السوري» في سوتشي برعاية موسكو إلى “إعادة تأهيل النظام»، مشددة على أن «مأساة السوريين الكبرى لا يمكن أن تحلّ عبر تشكيل حكومة موسّعة تحت مظلة الأسد الذي تسبب في معاناة الشعب”.
وعلى نفس الخط أفادت فرنسا بأن الخطوات الروسية لدفع محادثات السلام “يجب أن تندرج في إطار جهود الأمم المتحدة وأن عملية جنيف هي المنتدى الوحيد الملائم والمتفق عليه دولياً للبحث في أبعاد الأزمة السورية السياسية بخاصة في ما يتعلق بالعملية الانتخابية والدستور الجديد”.
على الصعيد الميداني لا تعد المهمة يسيرة نظراً لصعوبات التوافق مع واشنطن في إدارة الوضع السوري بعد انهيار داعش ولأن التقاطعات التي تشرف عليها روسيا بين المصالح الإقليمية الإيرانية- التركية- الإسرائيلية المتناقضة والمتكاملة، مرشحة للاهتزاز لأسباب عدة.
في الوقت الذي تحاول فيه روسيا جذب الجانب الكردي الأكثر تمثيلاً إلى مفاوضات سوتشي مع الاغراء بإقناع النظام لاعتماد الفيدرالية كنظام حكم مستقبلي، تتحكم واشنطن في تواجد قوات سوريا الديمقراطية (نواتها الأساسية كردية) على حوالي ربع الأراضي السورية.
لكن ترتيب التقاطعات الأخرى يزداد صعوبة مع استمرار الغارات الإسرائيلية على مخازن أو شحنات سلاح لحزب الله والاعتراض على الوجود الإيراني العسكري من جوار دمشق إلى الجنوب السوري.
وفي مواجهة ذلك تعزز إيران من وجودها مع نقل القوات البرية الإيرانية إلى سوريا خلال الأسبوع الماضي عناصر من ” اللواء 65 المحمول جواً”. وفي هذا الوقت يستمر التغلغل التركي عبر منطقة تخفيض التصعيد الرابعة للتمركز في إدلب وبعض محافظتي حماة وحلب.
هكذا يبدو أن هدف إنهاء مسار جنيف وإغراق تمثيل المعارضة بتعددية وهمية لن يتحققا بهذه البساطة ولن يحل السحر فجأة في منتجع سوتشي الحالم على ضفاف البحر الأسود لتسهيل صناعة الحل الروسي على أراضي سوريا المنهكة والمدمرة.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس