مستقبل الهيمنة الروسية على سوريا يرتبط بالقدرة على إدارة التقاطعات بين مختلف المصالح المتضاربة من دون إغضاب واشنطن. لكن ذلك لن يمنع استمرار تمدد النفوذ إذ تطرح روسيا نفسها بمثابة شريك يعول عليه أو قوة ابتزاز لخصومها.
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال الجلسة الختامية لمنتدى فالداي الدولي للحوار في سوتشي (19 أكتوبر) إن “بلاده تعمل بشكل متزن مع كافة أطراف التسوية في سوريا”، واقترح عقد مؤتمر سلام للمكوّنات السورية بديلاً عن مسار جنيف. ومن جهة أخرى، اعتبر بوتين أنه “لا توجد أسباب جذرية للخلافات مع المملكة العربية السعودية”. وفي نفس السياق الإقليمي غمز القيصر الجديد إلى بعض الأطراف (المقصود بعض الغربيين) بعرقلة مكافحة الإرهاب لكي تستمر الفوضى في الشرق الأوسط.
يأتي هذا الزهو البوتيني بعدما فرضت روسيا نفسها، خلال السنوات الأخيرة، كلاعب دولي أساسي على مسارح الشرق الأوسـط وجبهـاته عبر اختراقها الاستراتيجي في سوريا، وعلاقاتها المرسخة أو الجديدة مع الدول العربية في الخليج ومصر وشمال أفريقيا، بالإضافة لحلف المصلحة مع إيران والتنسيق المرن مع إسرائيل والصلة المستعادة مع تركيا. عبر هذه العلاقات المتكاملة أو المتضاربة أحياناً، نسجت روسيا شبكة تضمن توسع نفوذها ومصالحها على حساب بعض اللاعبين الدوليين والإقليميين. لهذه اللعبة الروسية في جانبيها المكشوف والمستور نتائج لصالح موسكو أو تداعيات مرشحة لتأجيج الصراعات في إقليم ملتهب.
إن مجرد مراجعة الجدول الزمني الدبلوماسي في شهري سبتمبر وأكتوبر، يبيّن لنا زخم الحركة الدبلوماسية الروسية:
10 – 11 سبتمبر الماضي: وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في الرياض وعمان.
28 سبتمبر الماضي: زيارة خاطفة للرئيس فلاديمير بوتين إلى أنقرة وقمة مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
5 أكتوبر الجاري: زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو وهي أول زيارة لعاهل سعودي.
9 – 11 أكتوبر الجاري: رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف في الجزائر والرباط.
16 أكتوبر: وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في إسرائيل.
أواخر أكتوبر: زيارة محتملة للرئيس بوتين إلى إيران.
30 – 31 أكتوبر: النسخة السابعة من مؤتمر أستانة حول سوريا.
انطلاقا من نجاح رهانها على التدخل في سوريا، تتمركز روسيا في المشهد الشرق أوسطي الذي يرتسم مع نهاية تنظيم داعش. بالطبع، تبقى الولايات المتحدة الأميركية القوة العسكرية الأولى في المنطقة، لكن سياسات الرئيس السابق باراك أوباما وتأخر بلورة استراتيجية إقليمية متماسكة لإدارة الرئيس دونالد ترامب، أحدثت فراغا سمح بتحوّل روسيا إلى قوة سياسية تتكلم مع الجميع وتنظم التقاطعات وتراعي مصالح هذا وذاك من الأطراف من أجل ضمان انتشار أوسع لنفوذها ومصالحها. ويأتي هذا التحوّل في ظل واقع صعود إقليمي غير عربي إيراني- إسرائيلي- تركي متأقلم مع الدور الروسي الجديد. وما جعل الأمور تستتب لموسكو أن الصين، حليفها العالمي الأول، مهتم بالمصالح التجارية والاقتصادية وغير ميّال إلى التمركز السياسي، أما فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من اللاعبين الأوروبيين، فلا تبدو قادرة على بلورة سياسة موحدة في الحد الأدنى، أو على التحرك والتأثير بمعزل عن الولايات المتحدة الأميركية.
هكذا يمنح توزع القوى العالمية والإقليمية على رقعة الشرق الأوسط، روسيا مكانة في اللعبة الكبرى الدائرة منذ العام 2011.
من الملفت أن تعتني روسيا بشراكة استراتيجية مع إيران التي شكّل حرسها الثوري وحلفاؤها الجيش البري للقوة الجوية الروسية التي أمن بقاء نظام الرئيس بشار الأسد في السلطة، وإنجاح الرهان الروسي على التدخل الكثيف الذي بدأ نهاية سبتمبر 2015. لكن هذا الرابط لم يمنع موسكو من التنسيق مع أبرز “أعداء” الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفي طليعتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يتمتع بعلاقة شخصية ممتازة مع الرئيس فلاديمير بوتين. بيد أن اللقاء الأخير بينهما في سوتشي في أغسطس 2017 شابه التوتر بعد الاتفاق الروسي – الأميركي في 9 يوليو الماضي بشأن إقامة منطقة خفض التوتر في الجنوب السوري من دون مراعاة مطالب إسرائيل الأمنية لجهة وجود إيران وحزب الله ليس بعيداً عن الحدود معها.
ولذا جاءت زيارة سيرغي شويغو إلى إسرائيل في 16 أكتوبر، وهي أول زيارة وزير دفاع روسي لها، محاولة لإعادة ترتيب التنسيق الاستراتيجي، ومن الواضح أن روسيا محرجة في التوفيق بين إمساك إيران بجزء هام من الورقة السورية، وبين رغبتها في تفهم حاجات إسرائيل الأمنية. وسيكون الاختبار الفعلي في حال خرجت إحدى الغارات الإسرائيلية في سوريا أو بعض تحركات حزب الله عن مسار التحكم الروسي بالتداعيات، مما يمكن أن يسبب حربا إقليمية جديدة شبيهة بحرب العام 2006 وهذا سيقوّض المكاسب الروسية في القدرة على التقاطع بين أطراف متناقضة.
ربما يسري هذا الأمر كذلك على العلاقة المستجدة مع المملكة العربية السعودية خاصة بعد مباحثات موسكو الأخيرة. ومع الكلام عن استمرار وجود الخلافات في ملفات إقليمية أبرزها الملف السوري، تبرز شراكة مرنة في مجال الطاقة وأسعار النفط، وفي التبادل الاقتصادي بما فيه الصفقات العسكرية. وينطوي تنويع السعودية لشراكاتها على نهج يتأقلم مع تطور النظام السياسي الدولي والشمولية الاقتصادية. وكان فلاديمير بوتين صريحاً في دفاعه عن الأنظمة القائمة وغمزه من قناة الضغوط الأميركية لفرض الديمقراطية على الحلفاء. على دروب الشرق الشائكة، يلفت النظر كذلك في الحراك الروسي العناية الكبيرة بالعلاقة مع مصر، واستقبال حركتي فتح وحماس والدفع باتجاه مصالحتهما. وأيضاً الاهتمام بالملف الكردي وتداعياته وتأييد فكرة الفيديراليات أو الأنظمة الاتحادية.
مع إعادة ترتيب موسكو لأوراقها في المشرق وشبه الجزيرة العربية وتركيا وإيران وشمال أفريقيا، يبرز سلّم أولويات تشكل سوريا رأس قائمته. ومن هنا يبدو الاهتمام بالملف اليمني محدودا، والانخراط المقنّن في الملف الليبي يرتبط أيضا بمحدودية المصالح وعدم وجود الإمكانات للعب دور أكبر في موازاة الحضور الأوروبي هناك.
على أبواب نهاية هذا العام ومع نهاية مرحلة داعش في سوريا، ترتسم لحظة الحقيقة أمام “الانتداب الروسي” الذي تكرّس بفعل الأمر الواقع واتفاقيات أستانة. ومن هنا تأتي دعوة الرئيس بوتين إلى مؤتمر لعموم “الشعوب” السورية كبديل عملي لمسار جنيف الأممي. والأدهى أن الرئيس الروسي أبدى خشيته من تكريس مناطق خفض التصعيد في سوريا لحدود تقسيم واقعي على الأرض. وهذا يترك الاعتقاد أن إسدال الستار على الحروب السورية غير ممكن من دون حد أدنى غير متوفر من الوفاق الدولي، ويخشى أن تكون هناك محطات أخرى للصراع من إدلب إلى الجنوب السوري وجوار دمشق.
تبعا لكل هذه المعطيات، يرتبط مستقبل الهيمنة الروسية على سوريا بالقدرة على إدارة التقاطعات بين مختلف المصالح المتضاربة من دون إغضاب واشنطن. لكن ذلك لن يمنع استمرار تمدد النفوذ إذ تطرح روسيا نفسها بمثابة شريك يعوّل عليه أو قوة ابتزاز لمنافسيها أو خصومها.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب