قبل ثلاثة وأربعين عاماً، بددت عبّوة ناسفة وجود غسّان كنفاني في عالم الأحياء. ولكنها لم تنجح في شطبه من الذاكرة، ولا من تاريخنا الثقافي. وهذا، على الأقل، ما يدل عليه إصرار مُتجدد، في كل عام، لإحياء ذكراه، والاحتفاء بمكانته المُعتبرة في الأدب الفلسطيني والعربي المُكرّس.
ومع ذلك، النقدي في فعاليات إحياء الذكرى أقل، دائما، من الاحتفالي، والإنشائي، والخطابي، ولا تزال العبرة الرئيسة، التي يمكن استلهامها من أدبه، وحياته القصيرة، والغنيّة، غائمة. الأدب يؤوَّل بطرق مختلفة، بالتأكيد، ويظل مفتوحاً على كشوف جديدة، تنجم عن تغيّر الأزمنة، والذائقة، والحساسيات، وعن تطوّر أدوات ومناهج علوم الأدب، والعلوم الإنسانية عموماً.
ولا يمكن لنص، مهما تفرّد، إلا أن يكون إسهاماً فردياً، في نصٍّ أكبر، يمثل ذائقة، وحساسيات، وهموم، مرحلة بعينها. فلا أحد ينجو من زمانه ومكانه، ومن الأجدى، دائماً، التفكير في نصوص مرحلة بعينها باعتبارها نصاً واحداً، بألف وجه وقناع.
وبهذا المعنى، لا ينفصل المُنجَز الأدبي والثقافي لكنفاني عن ذائقة، وحساسيات، وهموم، الستينيات، التي تُستعاد، دائماً، بقدر صريح من النوستالجيا تُحرّض عليه مقارنة واعية، أو لا إرادية، بين ما هو كائن، اليوم، وما كان، في زمن مضى. لم يكن ما كان مُوّحداً، بالضرورة. فالماضي، بأثر رجعي، يشبه غرفة المرايا المتشظية، التي تعكس وجهاً واحداً، وتفتته في جوانب، وزوايا، كثيرة.
ولنقل أن أحداً من معاصري كنفاني لم يكن ليجد صعوبة في فهم فكرتين مركزيتين، تُمثّلان مركز الثقل في كل مُنجزه الأدبي هما: القتال كطريق لتحرير البلاد، والهوية باعتبارها ما نُوّرِث، أي ما نصنع، لا ما نرث. ولا ينبغي التفكير أن كل الأحياء كانوا متفقين، بالضرورة، على تعريف مُوحّد للفكرتين، المهم أنهما كانتا في صميم النخاع الشوكي للمُفكر به.
أود تأمل الفكرة الثانية، على نحو خاص، طالما أن الأولى أُشبعت تحليلاً وتأويلاً، مع التذكير بحقيقة أننا لا نستعيد شيئاً من الماضي، إلا لأسباب تخص الحاضر: ثمة علاقة متبادلة بين فكرتي القتال والهوية، فأنت لا تكون إلا إذا قاتلت (رجال في الشمس، عن الرجال والبنادق، أم سعد)، وإذا فعلت اتسعت كينونة تغيّرت لتتخطى عتبة الشروط القومية، والبيولوجية، والثقافية والجغرافية للهوية (عائد إلى حيفا).
في “عائد إلى حيفا“، وفي القلب منها المجاز التقليدي لصراع الأخوين، لا وجود لجوهر ثابت تُستمد منه الهوية. ثمة خصوصية عابرة للبيولوجيا، والقوميات، والثقافات، اسمها النضال. وعليه، ليس الفلسطيني، بالضرورة، مَنْ وُلد لأبوين فلسطينيين، بل المناضل. لذا، يمكن (في عرف كنفاني) للفيتنامي أن يكون فلسطينياً، ويمكن للفلسطيني أن يكون فيتنامياً. هذا هو النفَس الراديكالي للستينيات.
لم يكن من قبيل المصادفة أن تتبنى منظمة التحرير، في تلك المرحلة، فكرة الدولة العلمانية الديمقراطية، وكذلك إعادة النظر في هجرة وتهجير يهود البلدان العربية، وأن يبدأ التمييز بين اليهودية والصهيونية. تجلت هذه التحوّلات في سياق ما لا يحصى من المرافعات السياسية، والثقافية، والأيديولوجية، التي عرفها العالم العربي. وبهذا المعنى، كان غسّان كنفاني ابن زمانه ومكانه، وكان نصه (عائد إلى حيفا) جزءاً من نص أكبر.
ومع ذلك، كانت بعض الأفكار تستدعي الذهاب إلى الحد الأقصى. فالدولة العلمانية الديمقراطية لم تكن ممكنة، نظرياً، دون نقد التجليات الشوفينية للقومية العربية، التي حوّلت يهود البلدان العربية إلى أعداء محتملين، وأسهمت في هجرتهم وتهجيرهم، و”أهدتهم” إلى الدولة الصهيونية، التي نضب احتياطيها البشري في أوروبا الشرقية والوسطى، في الحرب العالمية الثانية.
الماضي لا يُحاكم بأدواته، ومفاهيمه، بل بأدوات ومفاهيم الحاضر. لم تكن عملية تهجير سكّان، في النصف الأوّل من القرن العشرين عصية على التفكير، والتبرير، والتدبير، كما هي اليوم. ولنذكر كارثة تقسيم الهند، ونكبة فلسطين.
الخلاصة: خسر العالم العربي يهوده نتيجة الجنوح الشوفيني للقومية العربية. وهذه الخلاصة مُترفة، ونظرية، تماماً، في عالم اليوم، ولكنها تحض على التفكير في أشياء من نوع: إذا كان الجنوح الشوفيني القومي قد شطب وجود جماعة دينية، عاشت في العالم العربي على مدار قرون، وكانت جزءا عضوياً في نسيجه الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي (من زمن السموأل) فإن أعلى مراحل الإسلام السياسي، اليوم، ممثلة في الجنوح الداعشي، مرشحة لتصفية الوجود المسيحي في العالم العربي. وأكثر من هذا:
كل ما غير الإسلام السنّي مهدد، وكل ما غير الداعشي في الإسلام السنّي مهدد، وكل ما تراكم من الميراث الحضاري لشعوب، وأقوام، وإمبراطوريات، وديانات، وحضارات، وثقافات، ولغات، على مدار آلاف السنين، في هذا الشرق القديم، مهدد.
هل نبالغ؟ ومتى ينبغي أن نخاف من العالم، وعليه؟
عندما يضيع الخط الفاصل بين المعقول واللامعقول، والعقل والجنون، والحضارة والبربرية.
ولكي لا يجهلنَّ أحد على أحد، فلنقل إن ما كان معقولاً في زمن ما، وفي مكان بعينه، لا يكون كذلك في زمن مختلف، ومكان آخر. ومع ذلك، وبه، يبقى ما تراكم من وجود الإنسان على الأرض، منذ نزوله عن الشجرة، وحتى صعوده إلى القمر، تبقى الحضارة كأداة للقياس.
ومع ما تقدّم، وفيه، ومنه، لا معنى للكلام عن كنفاني، اليوم، باعتباره “رئيس هيئة أركان الثقافة الوطنية” كما ذهب البعض بمجازٍ
لا ينتمي إلى عالم الثقافة، إلا في ظل نُظم شمولية في الفكر والسياسة. يعود غسّان كنفاني، ويُستعاد، بقدر ما نعود إلى، ونستعيد، مجاز الأخوين في “عائد إلى حيفا” للتفكير في الهوية باعتبارها ما نُوّرِث لا ما نرث. وهذا بعض ما يمكن أن يُقال فيه، اليوم، وعنه.
khaderhas1@hotmail.com