بعد البحث والتدقيق والتمحيص يسعى “حزب الله” الى إظهار ما يقوم به على انه أشبه بالأحجية المستعصية الحل، او لنقل انها معادلة وضعت في الأساس كي لا تجد من يفك طلاسمها.
وعليه، يجب الاكتفاء بما يصدر عن الأمين العام للحزب، لنخرس لا لنفهم. فما لديه مقدّس تماماً كما النصوص المنزَّلة، ومَن يجادل إما جاهل وإما شرير لئيم. أصحاب الصفتين هاتين، ممنوع عليهم التداول في المسائل المصيرية، كعمليات تنظيف البلاد من آخر إرهابي، وبكل الجدل الدائر بعد تناقضات معارك الجرود الشرقية اللبنانية.
ليس صحيحاً ان ما جرى في هذه الجرود منذ البداية يبقى ضمن مخطط محور الممانعة لإبقاء نظام الأسد، صوناً للجمهوريات التي يشملها الاستعمار الإيراني في المنطقة، ولا لزوم للتعليق على الاخراج الذي شهدناه في المرحلة الأخيرة.
وفي حين كشف المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبرهيم أن مصير الشهداء العسكريين كان معروفاً منذ العام 2015، يقول الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله: كان المطلوب من اجل السماح لداعش بالخروج من المنطقة، اولا كشف مصير الجنود اللبنانيين، وثانيا هناك عدد من شهداء حزب الله مدفونون في القلمون ونحن نريد جثامينهم، كما طالبنا بكل الاسرى والشهداء في معارك البوكمال من كل الجنسيات.
واذا صدّقنا اللواء إبرهيم، يصبح الـ”اولاً” بدون جدوى ليبقى الـ”ثانياً” بيت القصيد.
يسقط الكلام ان “اللجوء إلى الحسم العسكري الشامل كان ممكناً وسهلاً لكنه كان سيضيع قضية مصير العسكريين اللبنانيين”.
ماذا عن الـ”ثالثاً” التي تحمِّل المجتمع الدولي مسؤولية مصير “الدواعش” وعائلاتهم “المدنية” والجرحى والمرضى، نتيجة حصار التحالف لقوافلهم في الصحراء؟ هم بالطبع غير الذين حاصرهم الحزب والجيش الاسدي في حمص وحلب وحماه ومضايا والغوطة…
يبدو ان الشعب السوري غير الداعشي ابن سبعة، و”الدواعش” ومعهم جبهة “النصرة” أولاد تسعة. هذا ما يمكن للجهلة واللئام ان يستنتجوه، فيتم تحقيرهم وتقريعهم وتخوينهم لأنهم اعتبروا ان ما جرى في الأسابيع الأخيرة يدل على ان القضية ضائعة منذ وقوع الواقعة. ولا يقتصر الضياع على الملف الموجع للشهداء العسكريين الذي ذهبوا فرق عملة، بل يشمل الدولة المتناثرة مؤسساتها ومرافقها في العدم.
والا كيف نقرأ كلام الرئيس سعد الحريري بأن ما حصل كان نتيجة صفقة حصول الدولة اللبنانية على معلومات عن مكان وجود جثث الجنود مقابل تمكن مقاتلي “داعش” من مغادرة الأراضي اللبنانية من دون قتال، مع أسرهم، ليؤكد أنه والرئيس ميشال عون سمحا لهؤلاء المقاتلين بعبور الحدود، لكن نقلهم بالحافلات إلى شرق سوريا كان بقرار من “حزب الله” والسوريين.
لا يوضح الحريري او قيادة الجيش او رئيس الجمهورية او “حزب الله” كيف تمت الصفقة ومَن تفاوض مع مَن، وما الى ذلك من تفاصيل تتعلق بمثل هذه العملية!
يعيدنا هذا الطرح الى ملف الرهائن الأجانب خلال ثمانينات القرن الماضي، الذي تكشفت تفاصيله مبيِّنةً المغانم التي حصدها النظامان الإيراني والسوري في مفاوضات هذا الملف.
وهذا نتيجة من نتائج تحكم “حزب الله” بالدولة اللبنانية التي تخضع أكثر فأكثر للسيطرة الإيرانية.
ولا يهم ان في لبنان انتخابات رئاسية حصلت وحكومة تشكلت وجيشاً وطنياً يفترض ان نحتمي بمجده. فالامر سيان في سوريا والعراق. كل هذه الإجراءات الشكلية لا وظيفة لها الا في الاستهلاك الداخلي. اما الواقع فيمكن ملاحظته في مدى التشابه بين أدوار رؤساء الدول التي تحتلها إيران، سواء في لبنان او “سوريا المفيدة” او العراق، حيث مفهوم الرئيس القوي مكرس بالقول والشعارات ورفع راية الشرعية الشعبية والانتخابات الصورية التي تعتمد الضغط والتعطيل وفائض القوة لضمان النتيجة، اما الفعل فهو لقائد الأوركسترا الذي يُخضِع الجميع للخطوط الحمر ويمسك بمصير هذه الدول وبسياساتها ويضع لها حدودها في التعامل مع العالم الخارجي وفق المصالح التي تفرضها المرحلة.
ومَن لا يلمس هذه السمات في أدوار الحكم حيث جمهوريات الموز التي تديرها إيران، نردّه الى الجرود الشرقية.
المعركة الدائرة هذه الأيام، يجب ان تقود الى السيطرة الكاملة على جمهوريات تسخِّر الشكلية الديموقراطية لفرض رؤساء لا يعارضونها ويستقوون على شعوبهم بما يخدم التوجه العام.
فالمُراد لهذه الجمهوريات الائتمار بأوامر ممثلي الحرس الثوري الإيراني. والممارسات على الأرض تنسف مفعول الأصوات المشوشة الداعية الى تغليب منطق الدولة والدستور والشرعية على المنطق الميليشيوي الممعن في إلغاء ما عداه.
الجيش الاسدي في هذه المعادلة الإقليمية هو بامتياز “سرايا مقاومة”، كذلك الجيش النظامي العراقي والجيش اللبناني. وطبيعي ان تعمل “السرايات” المذكورة الى جانب “حزب الله” و”جند الله” و”الحشد الشعبي” في خدمة محور الممانعة الذي لا يقبل أي وجود سواه، لأن رأس المحور يعتبر ان لا صوت يعلو فوق صوت “جيش المهدي”، ولا وجود لقوى أخرى تصب في هذا المنحى. من هنا تستنسخ الانتصارات على “داعش” من الموصل الى القلمون الى جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع.
واذا امعنّا في الاجتهاد نجد ان إيران تعمل من خلال قضائها على الثورة السورية وإبقاء الأسد في منصبه، الى اخضاع ما ملكت ايمانها في “سوريا المفيدة” لمحورها، عبر تمدد “حزب الله” الذي يؤكد امينه العام استحالة التجزئة والتفكيك.
وفي حين يرى المنتشون بالانتصارات الإلهية الشكلية ان السيناريو الذي اعلنوه يترجم هزيمة نكراء لمَن يدّعي انهم شركاؤه في الوطن، يخلصون الى ان المسار الطبيعي للامور يمنح الفائز السطوة لتغيير الصيغة اللبنانية الحالية التي تشمل اتفاق الطائف.
هنا تتوضح الصورة. لا يهم كثيرا او قليلا اللطف واللياقات بعد الفجور والافتراء والاذى.
العجب في ان يقول البعض انه طالما خرج الجيش الأسدي من لبنان لا بأس من التعامل معه ولا يطالب بمحاسبة هذا النظام على جرائمه السابقة واللاحقة، ابتداء من قصف قصر بعبدا وليس انتهاء بمتفجرات ميشال سماحة وعلي المملوك.
ويدعو الى تطبيع العلاقات مع النظام الأسدي حتى نستطيع تصريف البطاطا والموز.
ولأن المصلحة العامة ترتبط بالبطاطا والموز، وليس بالسيادة وعدم رهن البلاد للمحور الإيراني، يصبح مقبولا عدم محاسبة “داعش” على قتلها الجنود اللبنانيين، وتحويل المعركة الى الداخل والسعي الى همروجة التحقيق لمعرفة المسؤول عما حصل لهؤلاء الشهداء، مع ان نسف التحقيق بدأ مع أصوات ممانعة تروِّج ان لحظة الخطف وما تلاها لم تكن مناسبة للتفاوض بسبب ضعف الدولة اللبنانية. اما اليوم مع عصر القوة الحارقة الخارقة فقد تمت العملية بمشيئة الله، وانتصرنا واحتفلنا، وعلى المهزومين ان يصمتوا ويراجعوا حساباتهم ويموتوا بغيظهم.
وهذا لعمري ما يلائم الاستعمار الإيراني للمنطقة ومن ضمنها لبنان.
sanaa.aljack@gmail.com