ارتكبت الدوحة خطأ أساسيا أوصل الوضع الخليجي الى ما وصل اليه. هناك خطر حقيقي على “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” الذي استطاع المحافظة على حدّ ادنى من التماسك منذ تأسس في العام 1981 في أبو ظبي.
استضاف الشيخ زايد بن سلطان القمة الاولى لدول مجلس التعاون الذي لعبت الكويت بقيادة الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد دورا محوريا في تأسيسه في وقت كانت عاصفة الحرب العراقية ـ الايرانية تهدّد المنطقة كلّها. وهذا ما يفسّر حاليا الجهود التي يبذلها رجل حكيم صاحب خبرة طويلة هو الشيخ صُباح الأحمد امير الدولة من اجل تفادي مزيد من التدهور في العلاقات الخليجية.
يعود الخطأ الذي ارتكبته الدوحة الى تجاهل التغيّرات التي حصلت في المنطقة وفي العالم. هناك قبل كلّ شيء حاجة الى فهم ما هي المملكة العربية السعودية الجديدة وذلك منذ خلف الملك سلمان بن عبد العزيز اخاه الملك عبدالله أوائل العام 2015. وهناك إدارة أميركية جديدة خلفت إدارة أوباما التي اختزلت مشاكل الشرق الاوسط والخليج وازماتهما بالملف النووي الايراني.
تصرّفت قطر في ضوء هذين التطورين وكأنّ شيئا لم يكن. فوق ذلك، استخفّت بعمق العلاقة القائمة بين المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة واعتقدت انّ في استطاعتها اللعب على أي اختلافات يمكن ان تحصل بين الجانبين، علما ان ايّ تمايز بين الرياض وأبو ظبي في شأن اليمن وغير اليمن يمكن ان يكون موضع نقاش يساهم في تطوير التفاهم العميق القائم بين الجانبين. كانت “عاصفة الحزم” التي ادّت الى ضرب المشروع الايراني في اليمن افضل تعبير عن طبيعة التفاهم السعودي ـ الاماراتي وجدواه، فضلا عن صلابته.
يعود ما بلغه الوضع الخليجي من سوء الى حسابات خاطئة قامت بها قطر التي اعتمدت على ان في استطاعتها عمل كلّ ما تريده في المنطقة من منطلق انّها تذهب الى حيث لا يستطيع ان يذهب الآخرون. هذا النوع من التفكير صار جزءا من الماضي، لا لشيء سوى لان الآخرين أيضا يستطيعون الذهاب الى ابعد ما تذهب اليه قطر. يستطيعون ذلك من دون ارتكاب خطايا من نوع بث “الجزيرة” للخطب التي كان أسامة بن لادن يسجلها في مخبأه ويهرّبها الى الفضائية القطرية المسماة “الجزيرة“. كانت تلك الخطب المخيفة تشجّع على الإرهاب وتدخل عقول الصغار في المجتمعات الخليجية خصوصا والعربية عموما في وقت توجد حاجة خليجية وعربية الى الاستثمار في ثقافة الحياة بدل ثقافة الموت التي نادى بها أسامة بن لادن ومن على شاكلته.
قبل مقتله على يد الاميركيين، في ابوت اباد في باكستان في أيار – مايو 2011، كانت “الجزيرة” الوكيل الحصري لخطب أسامة بن لادن. كانت تلك الخطب لا تجد طريقا سوى الى “الجزيرة”. ما وراء هذه الصدفة؟
ما لا بدّ من الاعتراف به انّ قطر استطاعت الجمع بين كلّ التناقضات. جمعت بين القاعدة الاميركية في العيديد والعلاقات العلنية، من فوق الطاولة، مع إسرائيل من جهة وبين الترويج من جهة أخرى لاسامة بن لادن و”حماس” والاخوان المسلمين والقرضاوي و”حزب الله” والحوثيين ونظام بشّار الاسد في وقت واحد.
كانت هذه اللعبة، لعبة الجمع بين التناقضات والاستثمار فيها نكاية بالسعودية اوّلا، اللعبة المفضلة للقيادة القطرية، خصوصا في عهد الأمير حمد بن خليفة الذي كان الى جانبه الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، رئيس الوزراء وزير الخارجية في الوقت ذاته.
يحتاج التحكّم بهذه اللعبة الى ذكاء ودهاء شديدين لم يعودا موجودين لدى القطريين من دون ان يعني ذلك ان دور حمد بن خليفة وحمد بن جاسم انتهى. على العكس من ذلك، لا يزال هناك تحكم للامير الاب بشؤون الدولة والخطوط العريضة لسياساتها، من بعد أحيانا ومن قرب في أحيان أخرى، وذلك بعدما خلف الشيخ تميم والده في العام 2013. في مرحلة معيّنة، مباشرة بعد انتقال السلطة من الشيخ حمد الى الشيخ تميم، وُضع حمد بن جاسم على الرفّ. لكن الحاجة اليه فرضت عودته الى لعب دور وان بطريقة غير مباشرة. حدث ذلك لانّه كان الشخص الوحيد الذي يعرف بدقّة متناهية في كلّ الملفات السياسية والمالية وفي كيفية ادارتها، إضافة بالطبع الى انّه يمتلك علاقة شخصية ذات طابع استثنائي بحمد بن خليفة بصفة كونه شريكه في الانقلاب على خليفة بن حمد في العام 1995. فوق ذلك كلّه، لدى حمد بن جاسم بن جبر رجال في كلّ المواقع الأساسية في قطر، ذلك انّه معروف عنه امتلاكه قدرة على اكتشاف الكفاءات. كان موفقا في ذلك الى حدّ ما طبعا.
تغيّرت قوانين اللعبة وشروطها ولم تتغيّر قطر. ذهبت ضحيّة العجز عن استيعاب المتغيرات التي طرأت ان على الصعيد الخليجي او على الصعيد الاميركي، وحتّى على الصعيد الاوروبي حيث لم يعد نيكولا ساركوزي رئيسا لفرنسا منذ ما يزيد على خمس سنوات.
مثلها مثل ايران، استفادت قطر الى ابعد حدود من وجود باراك أوباما في البيت الأبيض. باستثناء اغتيال بن لادن، لم تقم إدارة أوباما باي خطوة يفهم منها انها تستوعب معنى الإرهاب الذي تمارسه تنظيمات سنّية ولدت من رحم الاخوان المسلمين مثل “القاعدة” او “داعش” او الميليشيات المذهبية التي تتحكّم بها ايران والتي باتت شريكا في الحرب على الشعب السوري او في تغيير طبيعة العراق عن طريق عمليات تطهير لمناطق ومدن من منطلق مذهبي. اعتقدت قطر ان لديها ما يكفي من الذكاء لتجيير الإرهاب والإرهابيين لمصلحتها واستخدامهم في مضايقة من تعتبرهم اعداءها، بما في ذلك النظام القائم في مصر منذ العام 2013 والذي في أساس قيامه رفض شعبي للاخوان المسلمين.
هل تريد قطر التصالح مع الواقع ام تعتقد ان لديها هامشا واسعا للمناورة يمكنها من الاستمرار في لعبة تتجاوز حجمها بدءا بالتهديد بالانسحاب من مجلس التعاون لدول الخليج العربية وصولا الى التلويح بفتح أبواب التعاون في العمق مع ايران وزيادة الاعتماد على تركيا؟
من الأفضل لقطر الاعتراف بان الماضي مضى وان معظم العلاقات التي اقامتها والاختراقات التي حققتها لا تفيدها في شيء، بما في ذلك العلاقة مع تركيا التي يمكن ان تلعب دورا تحريضيا لن يصب في ايّ شكل في مصلحة قطر والقطريين. من المفترض حصول عملية مراجعة في العمق لطريقة التعاطي مع الآخر، خصوصا الأعضاء الآخرين في دول مجلس التعاون الخليجي.
بكلام أوضح، ما كان يصلح ايّام الملك عبدالله لم يعد يصلح في ايّام الملك سلمان. إضافة الى ذلك، ان الرهان على غرق السعودية والامارات في وحول اليمن ليس في محلّه. ما ليس في محله أيضا الاعتقاد ان تركيا يمكن ان تعوض عن فقدان قطر للعلاقات مع الأعضاء الآخرين في مجلس التعاون.
هل قطر دولة طبيعية ام لا؟ يفترض ان تتغلب الحكمة على كلّ ما عداها وذلك عن طريق الاستعانة بوساطة رجل صادق مثل الشيخ صُباح الاحمد. وهذا يعني حصول تغيير كامل في السلوك القطري في عالم لا يرحم. على قطر الاستدارة على سياستها السابقة بشكل جذري تفاديا لما هو اعظم بكثير من الحصار المفروض عليها هذه الايّام.
في هذا العالم الذي لا يرحم، هناك استثمارات ضخمة لقطر بعشرات مليارات الدولارات في مناطق مختلفة. هل تريد من اجل المحافظة على هذه الاستثمارات، بدل تجميدها ومصادرتها، لعب دور الشريك المساهم ماليا ومعنويا وسياسيا في محاربة الإرهاب عوض ان تصبح متهمة بلعب أدوار مرتبطة بشكل او بآخر بالإرهاب؟
عندما يتعلّق الامر بانقاذ بلد وشعبه تسهل كل التضحيات ولا يعود للعناد أي معنى… كلّ ما في الامر ان الذكاء يفرض عدم الاستخفاف بذكاء الآخرين لا اكثر ولا اقلّ، فضلا عن ان اللعب مع الإرهاب والإرهابيين يظلّ سيفا ذا حدّين.