“إن رؤية هذا الذي أمام أنفنا يتطلب صراعاً مستمراً”
جورج أورويل
الموازنة الحكومية هي من أهم الأعمال السياسية التي تقوم بها السلطة في أي بلد. ومشروع موازنة 2017 يكتسب أهمية استثنائية لأنه من المتوقع تحوّله إلى موازنة فعلية هي الأولى منذ عام 2005. يتضمّن المشروع اقتراحات مالية عدة هي في الواقع مواقف سياسية تكشف طبيعة السلطة السياسية في لبنان وتوجهاتها.
عندما ينظر المراقبون المعنيون في المؤسسات الدولية والخاصة إلى مشروع موازنة، خصوصاً في بلد ذات مديونية مرتفعة كلبنان، فإن أول ما ينظرون إليه لتقويم المشروع هو نِسبتا العجز والدَين إلى الناتج المحلي. في مشروع موازنة 2017، تصل هاتان النسبتان إلى 9,5% (أو 5,2 مليار دولار، وهو عجز قياسي) و147% على التوالي، وهما نسبتان عاليتان جداً بحد ذاتهما والأعلى منذ حوالى عشر سنين. والمقلق، إن لم نَقل الخطير، في الأمر ليس المستوى المرتفع لتلك النسبتين فحسب بل الوصول إليه برغم زيادات كبيرة في الضرائب. فزيادة الضرائب تُفرض عادة لخفض العجز أو تمويل مشاريع إنمائية من أجل تحسين إنتاجية الاقتصاد. فلا هذا ولا ذاك في مشروع موازنة 2017. إنه مشروع زيادة ضرائب وفي الوقت نفسه زيادة قياسية في العجز والدَين!
غالبية الضرائب الجديدة سوف تُموّل نفقات جارية، أهمّها الرواتب والأجور وتحويلات مختلفة داخل القطاع العام وإلى القطاع الخاص. أشير إلى بند أساسي في النفقات يجسّد فعلاً طبيعة النظام السياسي القائم في لبنان. إنه بند الرواتب والأجور، الذي يتضمن أيضاً معاشات التقاعد وملحقات من تعويضات عديدة ومختلفة. نلفت الانتباه إلى أن هذا البند لا يتضمن الرواتب والأجور وتوابعها في المؤسسات العامة كمصرف لبنان وشركة كهرباء لبنان، والمؤسسات الخاصة التي هي فعلياً مؤسسات عامة ملكيةً وتوظيفاً وإدارةً، ككازينو لبنان وشركة إنترا والميدل إيست. ولنا عودة إلى تلك الشركات أدناه.
إن السلة الضرائبية المقترحة تجني 1,6 مليار دولار إيرادات إضافية، ثلاثة أرباعها لتغطية الزيادات على الرواتب والأجور وتوابعها. وبالفعل، فإن هذا البند ارتفع من حوالى 4,9 مليار دولار خلال عام 2016 (استناداً إلى الأرقام الفعلية للأشهر الثمانية الأولى) إلى 6,1 مليار دولار في عام 2017، أي بزيادة 1,2 مليار دولار. تتوزّع هذه الزيادة على كلفة سلسلة الرواتب الجديدة (800 مليون دولار)، والباقي يتلطّى وراء السلسلة المقترحة لإجراء توظيفات جديدة في مختلف الوزارات. هذه مشكلة ظاهرة لمشكلة أعمق.
منذ سنوات والسلطة التنفيذية توسّع التوظيف بشكل غير اعتيادي في القطاع الحكومي البحت، أي في مختلف الوزارات، وهذا بغض النظر عن التوظيف الجديد في السلك العسكري وفي المؤسسات العامة. لقد كانت نسبة العمالة في القطاع العام في السبعينات من القرن الماضي تقارب 8% من مجمل العمالة في لبنان فأصبحت الآن على الأقل 16% وربما حوالى 20% (يصعب التحديد لأن الأرقام المتوافرة أو التي تُنشر في هذا المجال تفتقر إلى الدقة).
على سبيل المثال، يشير مشروع موازنة 2017 إلى تعيين 355 موظفا جديدا في وزارة المال، منهم 217 محاسبا و98 محرّرا. أما وزارة التربية فسوف تضمّ 1223 استاذاً ثانوياً جديداً، علماً أنه في الأساس، وحتى قبل هذه الزيادة، كان لبنان يتميّز بنسبة عدد الأساتذة إلى عدد التلاميذ في القطاع الثانوي هي من الأعلى في العالم: استاذ واحد لكل 9 تلاميذ في لبنان مقابل استاذ واحد لكل 18 تلميذاً كمعدّل عالمي، بحسب إحصاءات البنك الدولي. كما أن ثمة زيادات عديدة أخرى في عدد الموظفين في كل الوزارات تقريباً. إنه مشروع موازنة للرواتب والأجور ولتوظيفات جديدة، علماً أن غالبية هذه التوظيفات تهدف إلى خدمة منافع سياسية، وطائفية، وشخصية، وليست لتلبية حاجات إدارية. هذا التفشي منذ سنوات في التوظيف والإنفاق في القطاعين الحكومي والعام يُدفع ثمنه، عاجلاً أم آجلاً، من الاستقرار المالي والنقدي المهتزّ أساساً. للأسف، إن المواطن العادي هو الذي سيدفع الثمن بالتأكيد، وبالتأكيد نفسه لن يدفع شيئاً أي من المسؤولين عن هذه السياسات.
إن أهم “الإيرادات” في مشروع موازنة 2017 هي إيرادات غير محصّلة. إلا أنها “إيرادات” حقيقية. أشير تحديداً إلى بندي الضريبة على القيمة المضافة، والضرائب والرسوم الجمركية. إن مجمل الإيرادات عن هذين البندين في السنوات الست الماضية (2011 – 2016) بقيت تقريباً من دون تغيير، لا بل شهدت تدنيّاً طفيفاً في الواردات الجمركية. إلا أنه في المقابل، وخلال الفترة نفسها، ارتفع معدّل قيمة البضائع المستوردة بنسبة 16 في المئة على الأقل، كما ارتفعت قيمة المبادلات التجارية المتمثّلة بالناتج المحلي الاسمي بأكثر من الثلث. هذا دليل دامغ على نقص فاضح في الإيرادات الجمركية وفي حصيلة الضريبة على القيمة المضافة. نقدّر هذا النقص بحوالى 4 مليار دولار خلال السنوات الست المشار إليها.
هناك إيرادات أخرى لا تحصّلها الدولة من المؤسسات العامة إنما تُنفق وكأنها نفقات حكومية “خارج الموازنة”. إنها التحويلات التي كان يجب أن تذهب إلى الخزينة كحصة في أرباح مختلف المؤسسات العامة أو شبه العامة. إلا أن الهدر في تلك الشركات يأخذ شكل توظيف سياسي، وتوزيع خدمات مختلفة، ورواتب ومنافع عديدة للمسؤولين في تلك المؤسسات تتخطى أحياناً ما يُعطى في مؤسسات خاصة أو عامة كبيرة في أوروبا وأميركا. كل هذا الهدر يأكل من أرباح هذه المؤسسات، ويؤدي إلى خسارات أحياناً، في حين أن هذه الأموال يجب أن تدخل إلى الخزينة كأية إيرادات أخرى. هي أموال هدر فاضح يمكن استعمالها لتخفيض العجز أو لنفقات استثمارية إنمائية. إنه نقص قائم في ايرادات الخزينة ويتزايد منذ سنوات عديدة، ويعرف به كل سياسي ومسؤول. وطبعاً، لن يجرأ أحد على التصدي له لأن المصالح مشتركة. لذلك، عند الحاجة إلى زيادة الإنفاق، يعتمد المسؤولون الحل المنطقي الوحيد ألا وهو زيادة الضرائب.
إن الضرائب المقترحة في مشروع موازنة 2017 هي ضرائب تطال فقط، وبقوة، الطبقة المتوسطة في لبنان. فهي تتضمن ضرائب ورسوماً على: القيمة المضافة، وفوائد الودائع المصرفية، والسفر، والسيارات، والعقارات، والمعاملات الرسمية، والمبادلات التجارية عامة، إلخ. الطبقة الفقيرة ليس لديها الكثير لتعطي. والطبقة الغنيّة فإما لن يتأثر مستواها المعيشي بتلك الضرائب أو إنها موجودة أساساً في السلطة، أو الاثنتين معاً. لذلك تبقى الطبقة المتوسطة هدفاً وحيداً سهلاً للضرب بالضرائب، لأن ليس من يمثّلها أو يدافع عنها، من حزب أو تجمّع سياسي أو نقابة أو وسيلة إعلامية.
انهم يتصرّفون من دون منطق معقول، اقتصادياً أو سياسياً. وكأنهم يدركون أن السفينة تغرق، وأنهم لن يتبلّلوا مهما حصل.
لقد فشل العهد الجديد في أول امتحان مهم حين أقرّ مجلس الوزراء اخيرا وبسرعة مرسومي النفط والغاز اللذين تشوبهما التباسات عديدة. ومشروع موازنة 2017 هو امتحانه الثاني.
gaspall5@cyberia.net.lb
-
*كاتب وخبير اقتصادي