كان من الطبيعي ان أزور “ثانوية حسن الحجة” بمجرد عودتي لطرابلس من لندن سنة ١٩٨٤حيث انهيت شهادة phd في الرياضيات، نظرا لما تحمله هذه الثانوية من ذكريات هي حصيلة ثلاث سنوات مكثفة اختلط فيه العلمي بالنضالي بالشبابي بالاجتماعي، كما سنرى في السطور القليلة القادمة.
ولم يكن المدير عند زيارتي سوى الأستاذ عصام كبارة الذي اصبح استاذنا في الفيزياء، عندما ساعدني الحظ والكفاءة (وقدومي من مدرسة النموذج التكميلي التي أتممت فيها شهادة البريفه في ثلاث سنوات كانت كافية لأخذ الشهادة المتوسطة، نظرا لكفاءة أساتذتها وصرامة مديرها وجدية برامجها) بأن أقبل في الأول ثانوي في هذه الثانوية الفريدة والتي جعلها الراحلين، مؤسسها د.حسن الحجة وناظرها فيلسوف البساطة والمحبة الشيخ أنور بكري، فضلا عن الأساتذة إدمون كحالة وعصام وياسر كبارة وخريستو نجم وكوستي بندلي ورفاقهم، إحدى القبلات التربوية الأهم في لبنان وإحدى الشواهد على نجاح المراهنة الشهابية على دور التعليم الرسمي في توسيع قاعدة الطبقى الوسطى والتي ساعدت في لبننة “الأقضية الاربعة” وخففت من احتكار المدارس الخاصة ذات الصبغات الطائفية والطبقية للعملية التربوية، خصوصا مع تعزيز الجامعة اللبنانية في ستينيات القرن الماضي وبناء كلية العلوم في الحدث، تلك الكلية التي شكلت مع مؤسسها حسن مشرقية ورفاقه القادمين من زوايا الوطن الأربع الصرح العلمي الأبرز في وطن النجوم، حتى أنّ مبعوثي الكلّية إلى جامعات أوروبا، كانوا يعاملون بتمييز شكل مصدر غيرة وإعجاب في آن من طلاب البلدان الأخرى.
كان لقائي مع المايسترو عصام وديا وطريفا، نظرا لما كان يتمتع به الراحل من طيبة وعفوية، تجعلك تشعر براحة واسترخاء نادرين، وأقول مايسترو لأنه منذ المرة الأولى التي دخل فيها صفنا في خريف 1967 كان واضحا أنه صاحب طريقة خاصة في التعليم تعتمد على إشغال الطلاب بالتمارين وجذب انتباههم بحركات يدوية تجعله سعيدا في أدائه المسرحي لدرجة الإدمان. إلاّ أنّ ما كان يشغل بال المدير هو فكرة تأسيس جمعية خريجي ثانوية حسن الحجة، استشعارا منه ربما للخطر الذي يتهدد الثانوية نتيجة المداخلات والمناقلات والزبائنية التي لا تراعي العملية التربوية والتي كانت قد غزت جميع مفاصل التربية والقطاع العام عموما، وقد استعرض أمامي ثلة من خريجيها والذين برعوا في مهن الطب والهندسة والمحاماة وإدارة الأعمال، فضلا عن أساتذة الجامعات في لبنان والخارج، كما استعرض أسماء من تبوؤوا مناصب إدارية وسياسية وحزبية ومنهم من صم صيته الآذان، علما أنّ شخصيته الودودة والمهادنة أدت لنوع من التراخي في مواجهة فيض التداخلات في الثانوية من قبل شتى أنواع السياسيين العريقين والمستحدثين، بما فيهم بعض الضباط السوريين والتي استفحلت خلال سنوات الحرب الأهلية واضعة الثانوية على سكة تدحرج مريع في المستوى، ما جعلني أعتقد أن جمعية الخريجين المقترحة لن تكون سوى بدل عن ضائع.
ومع ذلك فقد وعدت استاذي الذي استنجد بي، كما بآخرين طبعا، بالمساهمة، وهو قد ذكرني بفضل الثانوية على تكون شخصيتي العلمية والنضالية، وهذا ما دغدغ شيئا ما في مخيلتي، ذلك أنني أنتمي للجيل الذي دخل هذه الثانوية الرائدة بعد هزيمة الأنظمة العربية في ١٩٦٧ مباشرة وظهور العمل الفدائي الفلسطيني والذي شكل جاذبا عربيا وأمميا بعد خفوت الجاذبية القومية الكلاسيكية، بما فيها الجاذبية الناصرية، وبعد نشوء الحركات اليسارية والماركسية المستقلة والمتحولة من روافد فكرية ونضالية لبنانية وعربية وأممية مختلفة، بما فيها رافد الانتفاضة الطلابية الفرنسية في ايار١٩٦٨ والتي كادت أن تطيح بديغول أيقونة فرنسا نفسه، وقد استلهم الطلاب اللبنانيون هذه الحركة حين انتفضوا في أعقاب تدمير إسرائيل للطائرات اللبنانية الجاثمة في مطار بيروت سنة ١٩٦٩ “فاحتلوا” الجامعات والثانويات وحتى المدارس، وشكلت ثانوية حسن الحجة مركز الثقل الرئيسي في الحاضرة الشمالية الثائرة دوما، والتي لها في كل عرس ثوري اكثر من قرص بينما تلتقط عادة فتات الأعراس التنموية، وهذه قصة تشكل دراما طرابلسية أخرى لسنا في معرض نقاشها الآن، وإن رغبنا في تظهيرها، تحفيزا لمقاربات جدية لاحقا بعيدا عن ضجيج الإستعراضات والمؤتمرات الصوتية، والتي وإن خففت من الصورة النمطية للفيحاء، إلا أنّ معظمها يطيش في الهواء، بينما تغرق المدينة في مشاكلها حتى البدائية منها والتي لا تحتاج لدعم وتنظيرومظلومية كالنظافة والمخالفات والتعديات ومشاكل السير والإعلانات والنعوات التي حولت المدينة الجميلة لمعرض جثث.
ولا شك أنّ شهر “الإحتلال” وسياقاته ومناخاته شكل جزءا أساسيا من تكويننا النضالي والثقافي والفكري أيضا، نظرا للنشاطات الحيوية التي واكبت الإنتفاضة وللحوارات الليلية الغنية بموضوعاتها والتي كانت تدور بين مختلف المنوعات الشبابية المتقاطرة مساء لهذا الصرح التربوي الاستثنائي، وقد عزز هذا التكوين ورسخه قراءاتنا المبكرة أو قل التهامنا للكتب والمجلات والدوريات (أكثرها مجانا في غرفة خلفية من مكتبة الراحل مخائيل فرح) ومن ثم مطارحاتنا النظرية والمفتوحة بلا حدود مع شتى التيارات والمنوعات في مقاهي المدينة ومينائها وخصوصا في مقاهى التل العالي والأندلس وبور سعيد، دون أن ننسى تاثيرات التظاهرات المنطلقة من الثانوية أو الجامع المنصوري باتجاه التل ومتفرعاته، ومجادلات التسكع في شوارع عزمي والبولفار ومار مارون، علما أنّ زميلاتنا في ثانوية فاطمة الحجة لم يقصرن أيضا وسجلن سابقة لبنانية وعربية تاريخية حين” احتلين” مباني الثانوية خلال الإنتفاضة، رغم كل المضايقات والإشاعات التي فبركتها الأجهزة الامنية وعملاؤها، خصوصا أنّ المعتصمات انتمين بمعظمهن للعائلات الطرابلسية الأساسية، وهذا دليل على مستوى وأهمية الثانوية تربويا والتي جذبت صبايا الطبقة الوسطى، كما على جرأة المعتصمات المنفتحات على الحركات اليسارية والديمقراطية الجديدة والتي شقت أفكارها المتدفقة طريقها بسهولة داخل العقول الفتية والمتحفزة، على خلفية الغليان الوطني والقومي والإجتماعي والثقافي والفكري.
وللطرافة فقد ذكرني الراحل بأنني كنت “المحتل الوحيد” الذي كان يقفز من الشباك للنوم في غرفة المدير بعد انتهاء الحوارات والتخطيطات والسهرات المسائية، بينما ينام الباقون في قاعة الرياضة، مما شكل مصدر ازعاج وتوتر مزدوج لحسن الحجة الذي لطالما شكاني لصديقه وأخي الأكبر.
ورغم الوعد المتكرر للأستاذ عصام بالمساهمة الأساسية في تأسيس الجمعية فقد خيبت أمله، ذلك أنّ كلية العلوم (والجامعة اللبنانية عموما) سحبت الجزء الاوسع من وقتي ووقت زملائي، خصوصأ اننا كنا في مراحل تأسيسية، أكاديميا وبنائيا ونقابيا، حتى أننا عملنا معمرجية ودفاع مدني، الى جانب تأليف المقررات وتعديل المناهج وحتى تدبير إرسال طلاب دكتوراه لأوروبا، وفِي ظروف ضغوط الميليشيات آنذاك وحتى ضغوط العسكر بنوعيهما اللبناني والسوري مع تكون وتصاعد النظام الأمني، علما أن مباني كلية العلوم هي محاذية لقيادة المنطقة العسكرية وكانت مشغولة من قبل القوات السورية قبل أن تبدأ الكلية بقضمها تدريجيا، ولنا أن نتخيل مندرجات هذه العملية وأثرها على حالة المباني.
ولاحقا امتصت الحركة النقابية وحركة المدينة الجامعية في المون ميشال والحركة المدنية عموما ما بقي متاحا من وقتنا المضغوط اصلا.
ويبقى السؤال والذي يضمر جزءا من الجواب: هل كان ممكنا للجمعية التي لم تر النور أن توقف التدهور الكبير الذي اصاب الثانوية الرائدة والذي، وللمفارقة، فاق بأشواط حجم التدهور الإجمالي في التعليم الرسمي وفِي التعليم عموما، أم أن الماشطة لا تستطيع أن تعمل شيئا للوجه الكالح؟
وهل يشكل انهيار المستوى في إحدى الثانويات الأعرق في لبنان جرس إنذار لنا جميعا للعمل على وقف التدهور العام وإعادة الأمل للعملية التربوية المتراجعة مع تراجع البلد ومؤسساته وتحول بعض مراكز القطاع العام بما فيه بعض المؤسسات التربوية لقطع من الخردة؟ علما أنّ التراجع يطال مؤسسة الجامعة اللبنانية التي وإن كان خزانها ما زال عامرا بالطاقات، إلاّ أنّها في طور النضوب، ومع سياسة وضع اليد، فضلا عن سياسة المحاصصة والزبائنية والمركزية الفارغة، فإنّ هذا الخزان بدأ يفرغ وينخره الصدأ. ولا يعتقدن أحد أن ما نقوله يشكل شهادة براءة للمؤسسات التربوية والجامعية الأخرى، خصوصا تلك التي تفرخ كالفطر في كل مكان من البلد السايب.
وأخيرا إذ نتذكر الراحل وغيره ممن حملوا الحلم التربوي الكبير، فإننا نذكر ايضا أنّه وجد عزاءه في توليف كتاب استكتب فيه كثر، بعد أن عجز عن تنفيذ مشروعه الأصلي، وكأنه يحاول من خلاله الحفاظ عى الأثر الطيب، والتذكير بأهمّية التربية في الحياة الوطنية، ذلك أنّه أذا ضاعت التربية ضاع البلد، مركزا وأقضية أربعة. ولمن يقرأ ويتبصر فإن هذ البلد يكاد يكون قد تاسس على التربية أصلا والتي بدأت عى شكل إرساليات ومدارس خاصة منذ القرن الثامن عشر ثم نشوء الجامعتين المؤسستين في القرن التاسع عشر ومن ثم المدارس الرسمية بعد نشوء لبنان الكبير وصولا للجامعة اللبنانية التي أصبحت ذات شأن مع حركة التحديث الشهابي وتصاعد النضال الديمقراطي في البلد.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في 27-2-17