إستماع
Getting your Trinity Audio player ready...
|
درست جولي داندوران التاريخ في جامعة السوربون في باريس، ثم أصبحت أستاذة التاريخ الحديث في جامعة لورين في مدينة ميتز. هي متخصّصة في مسائل الحرب والاستعمار، ومؤلّفة كتب عدّة، من ضمنها سيرة حياة الجنرال هنري غورو بعنوان Le Général Gouraud: Un Destin Hors du Commun, de l’Afrique au Levant (الجنرال غورو: مصيرٌ خارجٌ عن المألوف من أفريقيا إلى المشرق العربي) الصادرة عن منشورات Perrin في العام 2022، إضافةً إلى كتاب يقدّم لمحة عامّة عن القوات الاستعمارية الفرنسية في القرنَين التاسع عشر والعشرين، بعنوان Les Troupes Coloniales: Une Histoire Politique et Militaire (القوات الاستعمارية: تاريخ سياسي وعسكري)، وصادر عن منشورات Passés Composés في العام 2024. أجرت “ديوان” مقابلة مع جولي داندوران في أواخر آذار/مارس للحديث عن كتابها حول غورو، وتحديدًا فترة تولّيه منصب المفوّض السامي الفرنسي في لبنان وسورية.
مايكل يونغ: وضعتِ كتابًا عن سيرة حياة الجنرال هنري غورو الذي أعلن قيام دولة لبنان الكبير في 1 أيلول/سبتمبر 1920، من بين أمورٍ أخرى. لماذا قرّرت الكتابة عنه؟
جولي داندوران: لي تاريخٌ شخصي يربطني بالشرق، وتحديدًا بسورية ولبنان، لأن عائلتي عاشت في تَدمُر وبيروت في ثلاثينيات القرن المنصرم. بعد إجراء بحث أكاديمي أولي عن جدّتي، مارغا داندوران، حمل عنوان Marga d’Andurain 1893–1948: Une Passion Pour l’Orient, Le Mari Passeport (مارغا داندوران 1893–1948: شغف بالشرق، زوج جواز سفر)، وصدر عن منشورات Maisonneuve & Larose, Nouvelles Editions في العام 2019، رغبتُ في متابعة العمل على المنطقة، لكن من خلال الاستناد إلى الأرشيف والوثائق التاريخية، لأنني أردتُ التدرّب لأصبح مؤرّخة.
أدين بالكثير إلى أحد القيّمين على أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، بيير فورنييه، لأنه عرّفني إلى مجموعة غورو في العام 2000 تقريبًا. فاكتشفت أن حياة هنري غورو (1867–1947) المهنية كانت شديدة التنوّع، وامتدّت من أفريقيا إلى الشرق الأوسط، مرورًا بالحرب العالمية الأولى. شكّلت مجموعة غورو أرشيفًا استثنائيًا خارجًا عن المألوف بالفعل (وتضمّنت حوالى 500 صندوق من الوثائق والسجلات التاريخية). كانت هذه فرصةً فريدة من نوعها لامرأة شابّة أرادت “العمل في التاريخ” وهي في الجامعة. فقد كنت على وشك التعرّف إلى عالم مجهول، أي الجيش، وإلى رجل كان أيضًا مجهولًا بالنسبة لي. نظرت إلى عملي البحثي هذا على أنه قفزةٌ نحو أمرٍ جديد، ومغامرة فكرية مثيرة للاهتمام للغاية. كل ما عرفته أن غورو ساهم في إنشاء سورية ولبنان مباشرةً قبل الانتداب. ثم دفعني عملي البحثي أثناء كتابة أطروحة الدكتوراه إلى الرغبة في فهم مساره المهني بالكامل.
يونغ: هلّا عرضتِ لنا بإيجاز خصائص النهج الاستعماري الجديد الذي انبثق في أواخر القرن التاسع عشر – والذي يمكن للمرء ربما أن يسمّيه شكلًا “أكثر ليونة” من الاستعمار – وأصبح غورو من دُعاته؟ كيف أثّر هذا التغيّر على حياته المهنية؟
داندوران: كان غورو بالفعل ممثّلًا لشكلٍ من أشكال الاستعمار الذي حاول أن يعطي لنفسه وجهًا إنسانيًا خلال عشرينيات القرن الماضي تقريبًا، حين ظهر في فرنسا مصطلح “النزعة الإنسانية الاستعمارية”. نبعت نظرياته من التدريب الذي تلقّاه من المارشال هوبير ليوتي في المغرب قبل الحرب العالمية الأولى، ولكن أيضًا من إدراكه أن الاستعمار لا يمكن اختزاله بمجرّد الهيمنة. أدرك غورو ذلك في وقت مبكر من حياته المهنية، حوالى العام 1900. في ذلك الحين، أصبح مقرّبًا من سياسيين وعسكريين “مناصرين للشعوب الأصلية”، أرادوا إحداث تغيير في كيفية ممارسة الاستعمار. كانت هذه الاستجابة مثالية لمطالب سياسيين فرنسيين كانوا يتحرّكون في هذا الاتجاه. فنظام الانتداب الذي أعقب الحرب العالمية الأولى كان شكلًا أخفّ وطأةً من الوصاية الدولية مقارنةً مع نظام المحميات قبله، والذي كان بدوره أقل طغيانًا من نظام المستعمرات الذي كان سائدًا في السابق.
يونغ: أيُّ صفاتٍ في مسيرة غورو المهنية كضابط استعماري دفعت السلطات الفرنسية إلى اختياره ليكون ممثّل فرنسا في منطقة المشرق، وقائد جيشها هناك، قبل تعيينه المفوّض السامي الأول في لبنان وسورية؟
داندوران: وقع اختيار رئيس الوزراء آنذاك جورج كليمنصو على غورو بناءً على نصيحة قدّمها له ما عُرف بـ”اللوبي الاستعماري”. أُوصي بغورو لأنه من جهة، كان ضابطًا استعماريًا ذا معرفة بأفريقيا والعالم العربي (باعتباره تولّى الخدمة في المغرب في ظل ليوتي بين العامَين 1912 و1914). ومن جهة أخرى، كان قد أصبح قائد حربٍ مهمًّا بحلول نهاية الحرب العالمية الأولى وتمّ التفكير بترقيته إلى مشير ميداني. فمن أجل التعامل مع القائد البريطاني الأعلى في سورية إدموند ألّنبي، كانت فرنسا بحاجة إلى ضابط ذي مكانة مماثلة. لم يتمتّع عددٌ يُذكر من رفاق غورو بمثل سلطته وصفاته. فهو كان أيضًا جنرالًا فعّالًا ومطيعًا جدًّا للسلطات السياسية، وبالتالي استطاعت هذه الأخيرة، وكليمنصو تحديدًا، وضع ثقتها فيه. أخيرًا، كان غورو كاثوليكيًا، ما أكسبه تأييد الموارنة في لبنان، وأبدى حرصًا على نيل رضى المسلمين الذين كنّ احترامًا كبيرًا لهم منذ البداية. سمحت له ميوله الروحية أيضًا بفهم تعقيدات الشرق الأوسط، وميّزته عن الضباط العلمانيين أو الماسونيين الذين كانوا معادين لجميع الأديان.
يونغ: توضحين في كتابك أن المساعي التي بذلتها فرنسا لتأسيس سلطة انتداب في سورية (وبدرجة أقل في لبنان) كانت أكثر صعوبةً ممّا توحي به السجلات التاريخية. ما كانت أبرز القضايا السياسية والإدارية التي شغلت تفكير غورو والسلطات الفرنسية بين 1920 و1922 في ما يتعلق بسورية ولبنان؟
داندوران: واقع الحال أن قصة الوجود الفرنسي في الشرق الأوسط مُخفَّفة إلى حدٍّ ما، على غرار جميع السرديات الاستعمارية. كذلك، نسارع في الكثير من الأحيان إلى نسيان التسلسل الزمني للأحداث الذي يشرح الطريقة التي اتُّخذت من خلالها القرارات. كان غورو كتومًا جدًّا في مذكراته بشأن التنافس بين فرنسا وبريطانيا عند وصوله إلى المنطقة. وفي رسائله الخاصة إلى ضباطه، بدا واضحًا تصاعد وتائر التوتّر مع البريطانيين، لكن غورو كان رجلًا يتمتّع بالكياسة، وبالتالي استطاع الحفاظ على نهجٍ تصالحي مع ألّنبي. كذلك، حتى إذا كانت ملاحظاتي تزعج أحيانًا اللبنانيين اليوم، تظهر سجلات الأرشيف أن علاقته مع الموارنة لم تكن دومًا متناغمة. فغورو كان يتعرّض إلى ضغوط من البطريرك الماروني الياس بطرس الحويك ومن اللبنانيين، فيما كان يحاول أيضًا تحقيق توازن بين العرب المؤيّدين للأمير فيصل واللبنانيين (لا يجب أن ننسى أنه عُيّن في الشرق لإيصال الأمير فيصل إلى عرش سورية). في النهاية، واجه غورو معارضة من القوميين العرب المناصرين لفيصل والذين لم يثقوا بتاتًا بقرارات فرنسا.
في البداية، كان غورو وفيصل ملتزمَين بالحوار، بيد أن علاقتهما تدهورت شيئًا فشيئًا لأن المواقف المتشدّدة على الجانبَين فاقمت الانقسام بينهما. فقد تأثّر الرجلان بوجهات النظر الراديكالية التي عبّر عنها مناصرو كلٍّ منهما.
يونغ: من بين الأمور التي تشدّدين عليها أن لا غورو ولا روبير دو كيه، الأمين العام للمفوضية السامية في بيروت، رغبا في تطبيق سياسة “فرِّق تسُد” في سورية من خلال إرساء نظام فدرالي. ما الذي يدفعك إلى قول ذلك، وإن كنتِ على حق، ما كان الدافع خلف تفكيرهما؟
داندوران: “فرِّق تسُد” مفهومٌ استراتيجي يرقى إلى العصور القديمة، ويستند إلى زرع بذور الشقاق بين المجموعات المعارضة المحلّية لفرض قوة خارجية. هو تكتيك حربي كغيره من التكتيكات القائمة على الحنكة والدهاء. لكن حتى لو استُخدمت هذه الاستراتيجية خلال الحروب الاستعمارية، لم يُطبَّقها الضباط الاستعماريون بشكل منهجي لأنها اعتمدت إلى حدٍّ كبير على السياق.
في سورية ولبنان، لم يطبّق غورو ودو كيه هذه الاستراتيجية كما قيل مرارًا. فهما وصلا إلى منطقة المشرق بفكرة إنشاء “سورية الكبرى”، وهي دولة-أمة واسعة تضمّ سورية ولبنان وقيليقية وأجزاء من فلسطين. وارتكز منطقهما على مفاهيم قومية وفكرة أن الدولة يجب أن تكون كبيرة قدر الإمكان لتتمكّن من مقاومة الدول المجاورة. في هذه الحالة، أراد غورو أن تكون سورية دولة قوية ومتمكّنة وقادرة على مقاومة تركيا التي كانت تتشكّل على مرأى منه بقيادة مصطفى كمال. كانت هذه المسألة مهمة جدًّا له ووجّهت تفكيره حول تنظيم الدولة السورية. نائبه روبير دو كيه شاركه وجهة النظر هذه. لكن أثناء التحضير لقيام “سورية الكبرى”، لاحظا التوتّرات التي أحدثها ذلك: فحلب لم ترغب في هيمنة دمشق؛ ودمشق لم ترِد أن تصبح بيروت عاصمةً لها؛ وبيروت لم تشأ دفع الأموال للسوريين. تمّ التعبير عن هذه التشنّجات المحلية بوضوحٍ. لذا، رأى غورو ودو كيه أن الحكمة تقتضي طرح نموذج فدرالي مستلهَم من النموذج الأميركي، بحيث توحّد “الولايات المتّحدة السورية” بلدان المنطقة تحت راية فرنسا. انطلق طرحهما من اعتبارات براغماتية أكثر من اعتبارات انتهازية أو استراتيجية.
وتماشى هذا الطرح بالكامل مع توقعات عصبة الأمم الفتيّة في ذلك الحين، التي أيّدت مبدأ تقرير المصير الوطني الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون آنذاك. شكّل المشروع الفدرالي الذي قدّماه ببساطة محاولةً للتكيّف مع التوتّرات السائدة، وسياسة ارتكزت بشكل كبير على ما كان ممكنًا، بدل ما كان مرغوبًا فيه.
يونغ: ما الخلاصات التي توصّلتِ إليها بشأن غورو حين أنهيت العمل على سيرته الذاتية؟ هل دفعتك أبحاثك إلى إعادة النظر في انطباعاتك الأولية عن الرجل؟
داندوران: كما ذكرتُ في بداية المقابلة، لم تكن لدي أفكار مسبقة حين بدأت أبحاثي، لأنني لم أعرف شيئًا عن العالم الاستعماري أو غورو. لكن، مثل الجميع، لم تكن لدي صورة إيجابية جدًّا عن الاستعمار أو الاستعماريين. أدركت أنه شكلٌ من أشكال الهيمنة أو الحرب أو الاثنين معًا، من دون أن أعرف فعليًا آليات تطبيقه.
اليوم، أصبح لديّ رؤية أدق وأشمل تجاه الاستعمار. هو بالفعل شكٌل من أشكال احتلال الأراضي والهيمنة، بدأ في الأساس مع اكتشاف مناطق جديدة من العالم. هذا الجانب واضح للغاية. مع ذلك، لم يكن احتلال الأراضي هذا دومًا عنيفًا أو على شكل حربٍ. بل تمّ عن طريق التفاوض حينًا، وعن طريق الحنكة حينًا آخر. وفي أحيان أخرى، حظي وصول الفرنسيين (أو البريطانيين أو غيرهم) بقبول سكّان رأوا في الاستعمار وسيلةً لتطوير أراضيهم وإفساح المجال أمام التقدّم والحداثة.
لم ينتهِ عمل المؤرّخين على الإطلاق عند هذا الحدّ. بل لا يزال أمامنا شوطٌ كبير لنقطعه كي نتعلّم المزيد عن الحملات الاستعمارية وكيفية تطوّرها على مرّ الزمن. فحتى لو أن بعض القواسم المشتركة الواضحة تظهر للعيان بين غزو الجزائر في العام 1830 والثورة التي اجتاحت سورية في العام 1925، لا يمكننا المقارنة بين مراحل زمنية مختلفة وافتراض أن كل شيء يبقى على حاله. تظهر الأنظمة القانونية المختلفة التي تعاقبت – بدءًا بالمستعمرات ومرورًا بالمحميات ووصولًا إلى الانتداب – أن النخب المحلية ظلّت تتحدّى الأشكال الاستعمارية أو تعيد التفاوض بشأنها. هي لم ترفض التواصل مع الغرب، لكنها لم تُرد كذلك تذويب هويتها وطمسها.
أما بالنسبة إلى غورو شخصيًا، فقد تعرّفتُ إلى عالمٍ جديدٍ عليّ تمامًا بفضل أرشيفه المهني والخاص على السواء. لا غنى عن مراجعة المصادر المهنية والخاصة للتوصّل إلى فهم الرجل وحياته المهنية، وأيضًا للتمييز بين هذَين الجانبَين. لاحظت أنه ينتمي إلى فئة من الضباط لم تعد موجودة في فرنسا، أي فئة المستكشفين العظام الذين لم يتوانوا عن التخلّي عن حياتهم المريحة لاستكشاف العالم أولًا، ثم غزوه عن طريق تسخير أنفسهم لخدمة وطنهم، ما سمح له بمزاولة ما يسمّيه البعض “مهنة نبيلة”.
قد ينتقد البعض خيار غورو الشخصي. لكن ما فاجأني فعلًا في الجنرال ورفاقه أنهم قطعوا مسافات بعيدة من دون أن يعرفوا ما إذا كانوا سيعودون إلى وطنهم على قيد الحياة. هم كانوا في المقام الأول مغامرين ذوي إرادة صلبة، شعروا بالفضول حيال العالم المحيط بهم، وكانوا مستعدّين لبذل حياتهم في سبيل استكشافه.
ديوان كارنيغي