نظرة من الداخل في استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي
في 15 أيلول/سبتمبر، خاطب وزير الدفاع ورئيس أركان جيش الإسرائيلي السابق موشي “بوغي” يعالون منتدى سياسياً في معهد واشنطن. وفيما يلي ملخص لملاحظاته.
تسبب الزلزال المستمر الذي يُصيب العالَم العربي على مدى السنوات الخمس الماضية بإعادة توجيه المشهد السياسي، وساهم في تعميق عدم الاستقرار الذي من المرجح أن يظل قائماً في المستقبل المنظور. وتعود إعادة ترتيب الأوراق إلى انهيار نظام الدولة القومية الذي فرضته القوى الاستعمارية، ونشوء دول بشكل مصطنع مثل سوريا والعراق وليبيا التي أخذت تتفكّك وتترك فراغات خطرة في موقع السلطة. ومن غير المرجح أن تعود هذه الدّول المنهارة مرة أخرى إلى وضعها الطّبيعي؛ بل على العكس من ذلك، من المحتمل أن يُعاد تشكيلها ضمن أقاليم متجانسة عرقياً أو اتّحادات هشّة.
يجب أن تكون إسرائيل رصينة وواقعية في التعاطي مع جوارها الذي يشكل خطراً، ويجب أن يأتي ردّها وفقاً لبعض المبادئ الواضحة. أولاً، عليها ألّا تنخرط في التفكير الغارق بالتمني أو إظهار سلوك متعال من خلال محاولة فرض الديمقراطية أو إطار الدولة القومية على بلدان غير مستعدة لقبول مثل هذه الترتيبات. فالديمقراطية الحقيقية هي أكثر من مجرد إجراء انتخابات – وتتطلّب عملية طويلة المدى من التعليم والتنشئة الاجتماعية، وهذه الدول لم تمارس بعد تلك العملية.
ثانياً، لا ترغب إسرائيل في التدخل في النزاعات العربية الداخلية، مع أنها ستكون حازمة عندما تصبح مصالحها مهددة وسترد بأساليب واضحة ومتوقعة. فقد تعلّمت جزءاً من هذا الدرس من خلال الأحداث التي تلت دعمها للرئيس اللبناني بشير الجميل خلال حرب عام 1982. واليوم، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية عمداً موقفاً حيادياً، من خلال عدم اتّخاذها موقف علني بشأن ما إذا كان على الأسد أن يبقى في السلطة في سوريا أم لا. وفي الوقت نفسه، لن تسمح بخرق سيادتها في مرتفعات الجولان، أو تسليم أسلحة متطورة لأعدائها، أو نقل الأسلحة الكيميائية؛ وسبق أن أظهرت قوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” أنها سترد بحزم على مثل هذه الأعمال. وإلى جانب هذه الاستراتيجية، تقدّم إسرائيل أيضاً مساعدات إنسانية في سوريا، من بينها الغذاء، والعلاج الطبي، والوقود، من أجل تحسين الظروف الصعبة لضحايا العنف وتفادي تضخّم مشكلة اللاجئين.
واعتمدت إسرائيل مقاربة مشابهة مع حركة «حماس»: فهي ترد على الهجمات الموجهة إليها بعد قيام الحركة بإطلاق الصواريخ، إلا أنها تسعى إلى تفادي التصعيد في الحالات الأخرى وتقدّم الدعم الإنساني لشعب غزة، بما في ذلك المياه والكهرباء. ومن جهة اخرى، يساهم تعاون إسرائيل الاستراتيجي وغير المسبوق مع مصر والأردن في تحقيق أمنها الشامل في المنطقة.
وإجمالاً، أدّت هذه الاستراتيجية إلى قيام حالة أمنية هادئة إلى حد ما على الرغم من الاضطرابات الإقليمية. ويتردد «حزب الله» في مواصلة الصراع مع إسرائيل، ولم يحدث أي هجوم عبر الحدود من قبل الجهاديين السنة في سوريا، من بينهم تنظيم «الدولة الإسلامية». إضافة إلى ذلك، بما أنّ إسرائيل كانت تحمّل «حماس» مسؤولية إطلاق جميع الصواريخ من غزة، لكن هذه الهجمات لم تعد متواترة حالياً؛ كما أن موجة الطعن التي بدأت منذ عام قد تبددت إلى حد كبير.
ويأتي التهديد الأكبر على إسرائيل من مكان أبعد، هو إيران. فعلى الرغم من أن الاتفاق النووي قد أطال جدول طهران الزمني لصنع قنبلة [نووية]، إلا أنه جاء مرفقاً بمجموعة كبيرة من النتائج السلبية أيضاً. فالإيرانيون سيحتفظون بالبعض من بُنيتهم التحتية النووية، وبالتالي ستكون لهم القدرة على صنع سلاح [نووي] في السنوات العشر القادمة. كما أنهم مستمرون في نقل الأسلحة التقليدية بانتظام إلى جماعات إرهابية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، من بينها «حزب الله»، والميليشيات الشيعية المتطرفة في العراق وسوريا، والحوثيين في اليمن. وباختصار، ساعدت إيران في إنشاء بنية تحتية إرهابية في القارات الخمس – وهو واقع ينقض صورتها كدولة معتدلة تحت رئاسة روحاني. ويرى البعض أن طهران هي جزء من الحل للنزاعات الإقليمية التي تعكّر الأجواء، بسبب استعدادها لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». بيد، لا يجب اعتبار معارضتها لتلك الجماعة الجهادية السنية أكثر من مؤامرة للتخلص من خصم إيديولوجي والحصول على موطئ قدم أكبر في المنطقة.
وعلى الرغم من هذه التهديدات، خلق الزلزال الجيوسياسي فرصاً لإسرائيل أيضاً. فحالياً، ينقسم الشرق الأوسط إلى أربعة معسكرات رئيسية هي: المحور الشيعي الإيراني، الذي يشمل نظام الأسد و «حزب الله» والحوثيين في اليمن؛ ومعسكر «الإخوان المسلمين» بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ولكنه يضم أيضاً عناصر في مصر و «حماس» ؛ والمعسكر الجهادي العالَمي، والذي يشمل تنظيمي «الدولة الإسلامية» و «القاعدة»؛ والمعسكر السني العربي، الذي يضم السعودية ومصر والأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة، وغيرها. ولإسرائيل والمعسكر الأخير عدة أعداء مشتركين، وبينما يُعتبَر التعاون بينهما قوياً (وإن كان هادئاً)، فمن مصلحتهما المشتركة أن يعزّزا هذا التعاون حتى بدرجة أكبر.
يجب أن تنضم الولايات المتحدة إلى إسرائيل في الإعلان عن اصطفافها إلى جانب المعسكر السني العربي. ومن الخطوات الأخيرة في هذا الاتّجاه، التوقيع على «مذكرة التفاهم» الثنائية التي ستمنح بموجبها واشنطن لإسرائيل 38 مليار دولار كمساعدة عسكرية على مدى العقد القادم. غير أن الدول السنية قد رددت خيبة الأمل الإسرائيلية من إدارة أوباما، بسبب عدم معالجة مخاوفها بشأن الاتفاق النووي، وسماحها لوكلاء إيران باثارة المشاكل في المنطقة، وترددها في التزامها للزعماء السنة، بمن فيهم حسني مبارك وعبد الفتاح السيسي، في أعقاب الثورات في مصر. ويقيناً، لا تطلب هذه الدول من الولايات المتحدة نشر قوات برية في المنطقة – ولا تريد من واشنطن سوى أن تكون أكثر التزاماً من خلال دعم الشركاء على الأرض بواسطة الضربات الجوية والاستخبارات، وجعل تحالفاتها معروفة بصورة أكثر علنية.
وأخيراً، فبينما تحوّل تركيز العالَم في السنوات الأخيرة وإلى حد كبير ليشمل قضايا عربية أوسع نطاقاً، ما زالت القضيّة الفلسطينية تنال قدراً كبيراً من الاهتمام. فحل النزاع سيكون أمراً مثاليّاً، إلا أن حلّه غير ممكن في الوقت الراهن. وعلى عكس الاعتقاد السائد، لا ينبع جوهر الصراع من الأراضي المتنازَع عليها التي احتلتها اسرائيل في حرب عام 1967، إنّما من واقع عدم استعداد الفلسطينيين قبول وجود إسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي. وطالما أنهم غير مستعدين للاعتراف بشرعية إسرائيل، ليست هناك قيمة في تقديم تنازلات إقليمية. وهذا الأسلوب في التفكير يبدد أيضاً الفكرة القائلة بأن عمليات الانسحاب الاسرائيلية الأحادية الجانب من شأنها أن تخلق الزخم السياسي لخطة السلام.
وبما أن الهوّات شاسعة جدّاً من أن يتمّ ردمها في هذا الوقت، يجب على إسرائيل إدارة الصراع بدلاً من محاولتها حلّه. وللتوجّه نحو قرار سياسي، يجب أن تركّز إسرائيل على بناء المجتمع الفلسطيني من أسفل إلى أعلى من خلال تحسين الاقتصاد والبنية التحتية وإنفاذ القانون والحوكمة في السلطة الفلسطينية. وفي النهاية، سيتوجب على الفلسطينيين أيضاً إجراء تغييرات جذرية على نظام تعليمهم، والتوقف عن تشويه صورة اليهود، والاعتراف بحق إسرائيل في جزءٍ من الأراضي على الأقل. وبمعنى آخر، لا يمكنهم إحراز تقدّم في قضية السلام بينما يدّعون أيضاً أن تل أبيب هي مستوطنة. وهذه التغييرات الكبيرة في المجتمع الفلسطيني هي شرط مسبق للمفاوضات الحقيقية.