المباركة الروسية الضمنية للتدخل التركي المحدود والغلبة الروسية في قيادة المحور مع إيران كما برهن على ذلك استخدام قاعدة همدان، ستعززان من فرص موسكو في إدارة أقوى للملف السوري.
في معارك المواقع وصراع المحاور والتباس التحالفات في “اللعبة الكبرى الجديدة ” في سوريا وحولها، تتسارع الأحداث في الشمال السوري من حلب إلى منبج ومن جرابلس إلى الحسكة، وتتراوح فيها أدوار قوى داخلية وإقليمية بين الصعود والهبوط، لكنها تخفي ألغازا ضمن الأحجية السورية الكبرى عن كيفية صنع وصعود ما يسمى بداعش، إلى تضخيم دور الورقة الكردية وما واكب ذلك من عزف تركي متنوع على كل الأوتار الإقليمية، من تل أبيب إلى طهران تحت عين المايسترو الأميركي والعراب الروسي. كل ذلك بالطبع ليس من أجل بقعة أرض إضافية في شرق يتفكك، بل من أجل تجميع كل طرف لأوراقه بانتظار لحظة المساومة على إعادة تركيب الإقليم كخلاصة لحروب الإرادات والأدوار.
راهنت واشنطن على الحصان الكردي في محاربة تنظيم “داعش” من كوباني – عين العرب إلى منبج، وأغاظ ذلك أنقرة المسكونة بهاجس صعود القوة الكردية على حدودها، لكن رجب طيب أردوغان الذي تعامل مع النزاع السوري وصعود الإرهاب على طريقته، لم يسلم بعدم صنع الوقائع في جواره القريب. وهكذا بعد استدارته في السياسة الخارجية وبعد إمساكه بالوضع الداخلي، انتقل إلى الهجوم صباح 24 أغسطس الحالي وأرسل قواته الخاصة إلى داخل الأراضي السورية، قبل ساعات من وصول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تركيا في أول زيارة رفيعة المستوى لمسؤول أميركي بعد الانقلاب الفاشل وتتماته. بالطبع أتى ذلك بعد قمة بوتين – أردوغان، وبعد اتصالات مع إيران، ولهجة مخففة حيال النظام في دمشق.
جرى تحضير الميدان لمعركة جرابلس والغريب فيها تبخر تنظيم داعش وعدم صموده لساعات قليلة (خلافا للأثمان الباهظة وأشهر القتال في كوباني ومنبج)، مما يذكرنا بتبخر القوات العراقية في معركة الموصل في يونيو 2014، ويزيد من التساؤلات حيال تنظيم وتوقيت الحروب النقالة في مسلسل الفوضى التدميرية الذي يتم على حساب دول المشرق وشعوب الهلال الخصيب في المقام الأول. ليس في الأمر غمز من قناة تركيا لوحدها، لأن ديناميكية التفكك وتحطيم الدول المركزية لن تتوقف في العراق وسوريا وليبيا واليمن، بل يمكن أن تتخطى العالم العربي نحو جواره التركي والإيراني في حال استمرار الحرب الإسلامية – الإسلامية (من مظاهرها إعلان إيران إنشاء ما أسمته “جيش التحرير الشيعي” ليقاتل في العراق وسوريا واليمن). لكن ذلك لا يعني استسهال انتهاك حقوق المكونات القومية والإثنية تحت عناوين الحدود المقدسة أو احترام وحدة الدول.
في المدى المنظور، يمكن للدخول التركي أن يخلق ميزان قوى يسمح بالتوصل إلى ترتيب يجمد النزاع السوري وخطوط القتال.
إن المباركة الروسية الضمنية للتدخل التركي المحدود (زيارة الرئيس الروسي بوتين لتركيا المرتقبة في 31 أغسطس لحضور مباراة كرة قدم ودية، إشارة جديدة لتعزيز التقارب ولتلويح تركيا بذلك في مواجهة حلف شمال الأطلسي الذي تنتمي إليه) والغلبة الروسية في قيادة المحور مع إيران كما برهن على ذلك استخدام قاعدة همدان، ستعززان من فرص موسكو في إدارة أقوى للملف السوري. والملاحظ أن الجهد الروسي يطال المملكة العربية السعودية اللاعب العربي الأبرز في النزاع السوري، إذ بعد عرقلة في مجلس الأمن لقرار حول اليمن، وبعد ممالأة السفير الروسي في صنعاء لمحور علي صالح – الحوثيين، قام ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسية بزيارة طويلة لجدة أسفرت عن تفاهمات حيال اليمن وسوريا.
بيد أن هذا الاندفاع الروسي لتركيز النفوذ من المتوسط إلى الخليج، لن تكون دروبه معبدة وبالتالي سيتوقف الأمر على رهانات الإدارة الأميركية القادمة، وأيضا على مراقبة التقاطعات المنتظرة بين واشنطن وطهران من أجل إحباط الحياكة الروسية للنسيج الإقليمي في المرحلة الراهنة.
كيفما ذهبت العلاقة المستقبلية بين واشنطن وموسكو لا يمكن إعادة تركيب المنطقة على نفس الأسس في الإقصاء والغلبة إن بالنسبة للأكراد أو غيرهم. في ظل انقسام الأكراد بين تيارين رئيسيين: تيار بارزاني وتيار أوجلان، وفي ظل تشظيهم وصراع القوى الإقليمية والدولية حول أدوارهم وأماكن تواجدهم، لا يمكن تصور إقامة دولة كردية تخترق حدود أربع دول، خاصة أن كل الأدبيات الكردية لكل الأطراف تكتفي بالمطالبة بحكم ذاتي والنموذج هو كردستان العراق. بالطبع يمكن للبعض أن يصل إلى حد المطالبة بالانفصال، لكن هذه الأصوات محدودة التأثير. وفي المقابل لا يمكن إهمال عناصر القوة عند شعب يبلغ تعداده حوالي أربعين مليون نسمة، وهو أكبر شعب في العالم من دون دولة. الفيدرالية أو الاتحادية ليست وصفات سحرية لأنظمة دول مهددة بالتفكك، لكنها أساليب حكم أثبتت جدواها من ألمانيا إلى الهند، ويمكن أن تشكل أجوبة على أوضاع دول بعينها أو يمكن أن تكون الفيدرالية المشرقية الجواب على التفتت الكياني والتجزئة الفئوية بعد فشل مشاريع الدول الوطنية العربية بعد الاستقلال.
في هذا الإطار، لا بد من التشديد على رفض تركيب أكثريات جديدة ضمن الكيانات الحالية (سوريا ولبنان) من خلال التطهير والتغيير السكاني لضمان نصر مشروع إقليمي إمبراطوري على حساب المكون العربي السني الأكثري. ولذا من دون مشروع يتم فيه التوفيق بين الحفاظ على حدود الكيانات القائمة، وإقامة منظومة حكم على أساس التعدد والديمقراطية والمواطنة (وليس الانتماء الديني أو المذهبي) لا يمكن تفادي تمزيق الخرائط عبر تسوية بين اللاعبين الخارجيين ومقصهم الأشبه بالمنشار.
لا يمكن في مطلق الأحوال خروج دنيا العرب من كبوتها من دون مشروع تجديدي نهضوي يبعد الأسطورة الدينية ويحترم كل المكونات ويعترف بها.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب