صدر مؤخرا كتاب هام للدّكتور محمد عبد المطلب الهوني بعنوان “سيف القذافي : مكر السياسة وسخرية الأقدار” عن “دار مدارك للنّشر”. ننشر في ما يلي تقديم الدّكتورة رجاء بن سلامة لهذا الكتاب.
قتل أوديب أباه من حيث لا يعلم، وتزوّج أمّه، وأصبح ملكاً. ثمّ استفاق على عبث الأقدار به، ففقأ عينيه. أمّا سيف الإسلام القذّافيّ فلم يقتل أباه رغم صراعه الطّويل معه، ولم يصبح ملكاً ولا رئيساً، واستفاق على أصابع يده اليمنى المقطوعة، بعد أن انتقل من وضع الوريث إلى وضع الطّريد ثمّ السّجين الذي سيحاكم على خيبته وتخييبه للآمال.
لقد قُرئ الأدب دائماً بمنظار السيّاسة والتّاريخ، حرصاً من دارسيه على ردّ الهزل إلى الجدّ، وعلى تنزيل الخياليّ في الواقع، من باب التّكفير ربّما عن الاهتمام بنشاط ذي طبيعة لَهَويّة. فلماذا لا نعكس الآية، ونقرأ السّياسة بمنظار الأدب، ولماذا لا نهتمّ بالنّفس والذّات، وبالنّفسيّ والذّاتيّ في قصّة رجل حُكم عليه أن يكون سياسيّاً يؤمن بالدّيمقراطيّة، وأن يكون في الوقت نفسه ابناً لآخر مجانين الحكم في تاريخنا المعاصر؟ اقترحنا في هذه الصّفحات قراءة أدبيّة نفسيّة لهذه الحالة السّياسيّة، دون ادّعاء الإلمام والاستفاضة، أو ادّعاء تقديم مفتاح وحيد لفهم هذه الشّخصيّة الفريدة من نوعها.
لقد ذكر مؤلّف هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ التّراجيديا صراحةً في توطئته فقال: “ربّما كان بنيامين بربرBenjamin Barber في تصريحه لوكالة رويترز بتاريخ 11-04-2012 الأكثر دقّة عندما قال إنّ سيرة سيف هي تراجيديا تحتاج إلى سوفوكليس أو إسخيلوس جديد لكتابتها.”
فكيف تذكر التّراجيديا في خبر تورده وكالة أنباء؟ وكيف يمزج الإعلاميّ الخبر بالأسطورة، والحاضر بالماضي السّحيق؟ ثمّ ألا يكون الوعي التّراجيديّ الدّافع الأساسيّ لوضع المؤلّف لهذا الكتاب، والمحرّك الأساسيّ لكتابته؟
إنّ عقدة الـ”أوديب” كما فهمها سيغموند فرويد تعني امتزاج مشاعر الكره والحبّ إزاء الوالد أو الوالدة، وتعني سعي الابن اللاّشعوريّ إلى تأكيد كيانه بأخذ صورة الأب أو مكانته أو مكانه، على نحو متفاوت بين الأفراد في مدى حدّة الازدواج، ومقادير الكره والحبّ، ومقادير الشّعور بالذّنب، ومدى بقاء هذه العلاقة التّنافسيّة بعد تجاوز مرحلتي الطّفولة والمراهقة. وتجسّد أسطورة الملك أوديب هذا الواقع البشريّ على نحو كاريكاتوريّ، بحيث يصل الكره إلى القتل، ويصل التّنافس على الأمّ إلى الزّواج، ويصل الشّعور بالذّنب إلى سمل العينين. فمن سمات التّراجيديا حدّة المشاعر، وجريُ البطل فيها إلى الكارثة من حيث لا يدري، فيخيّل إلينا أنّ الأقدار تسخر منه أو تعبث به. ولكم تردّدت لفظة الأقدار في هذا الكتاب، لا سيّما في آخر فصوله، ولكم بدا لي دور الكاتب شبيهاً بدور الجوقة التي توقف الدّراما في التّراجيديا لتعلّق على أفعال البطل وترى ما لا يراه، أو دور الكاهن تيريزياس، يفكّ طلاسم الأحلام، ويطلق النّبوءات.
حدّثنا الكاتب الكاهن عن مرارة فوات الأوان وعن مأساويّة الفرصة الأخيرة الضّائعة، فقدّم لنا مرافعته “أمام محكمة القدر” قبل أن يحصل المحظور: “وطلبت من أحد الشّباب أن يأتي بورقة وقلم لأضع عليها العناوين الرّئيسيّة التي يجب أن يتضمّنها خطابه. وجاءني أحد الشّباب، ويدعى فتحي لاغة، بورقة وقلم، وأخذت أتحدّث إلى سيف وأدوّن النّقاط الرّئيسيّة التي أجملها في ما يلي :
1- إدانة العنف الذي وقع في المنطقة الشّرقيّة، وإعلان الحداد لمدّة أسبوع، وتنكيس العلم على كلّ مباني الدّولة، وتعزية أهالي الضّحايا.
2- تشكيل لجنة من المستشارين من القضاة، مشهود لهم بالنّزاهة، لمباشرة التّحقيق في هذه الأحداث، وتعهّد الدّولة بتطبيق القانون، ومعاقبة المتورّطين، أيّاً كان مستوى مراكزهم السّياسيّة والأمنيّة.
3- الإعلان عن انعقاد مؤتمر الشّعب العامّ خلال أسبوع للتّصديق على الدّستور الدّائم، وإصدار قانون الإدارة المحلّيّة والقوانين المنظّمة لمؤسّسات المجتمع المدنيّ.
4- إعلان القبض على البغدادي المحمودي رئيس مجلس الوزراء، والوزراء الأكثر فساداً، ورؤساء الشّركات والمؤسّسات العامّة الفاسدين، والتّعهّد باسترجاع الأموال المنهوبة إلى الخزينة العامّة، وتقديم كلّ الفاسدين إلى العدالة.
5- الإعلان عن تشكيل حكومة نزيهة ووطنيّة، واقترحت عليه أن يكون الدّكتور محمود جبريل رئيساً لها.
6- إعطاء الحقّ للشّباب الليبيّ للتظاهر سلميّاً بلا عنف أو استفزاز.
كما طلبت منه أن يتّفق مع أبيه قبل الخطاب على الإعلان بإيقاف العمل بأحكام كلّ المقولات التي وردت في الكتاب الأخضر لحلّ المشكل الاقتصاديّ.
كانت السّاعة تقترب من الثّالثة صباحاً. وكنت منهكاً بعد ذلك اليوم العصيب. وبعد أن انتهيت من هذه النّصائح التي كانت بمثابة مرافعة أمام محكمة القدر، ردّ سيف بكلمة واحدة: ولكنّها آخر طلقة. قلت: نعم، ويجب أن تطلقها فوراً، وإلاّ أصبح الوقت عدوّاً آخر لا يمكن التّحكّم به. بدا لي مقتنعاً بكلّ ما قلت.
”خسر الكاتب هذه المرافعة، وخسر سيف الإسلام الطّلقة الأخيرة. وانفتح باب طلقات الرّصاص على مصراعيه، وسالت دماء اللّيبيّين. هل كان بإمكانه أن يربح هذه الطّلقة، وأن تُنصِت محكمة القدر إلى مرافعة المستشار؟
فقد كان خطاب سيف الإسلام يوم 20 فبراير/ شباط 2011 صادماً للمؤلّف وللجميع. أذكر أنّنا كنّا متسمّرين في تونس أمام التّلفاز، مستغربين انحياز سيف الإسلام التّامّ إلى والده وتبنّيه خطاب العداء والاحتقار: “وفي وقت متأخّر، رأيت سيفاً على التّلفاز في بدلة أنيقة، يتحدّث إلى الشّعب اللّيبيّ. كانت لحظات رهيبة، خطّ فيها القدر مستقبل شعب ومصير وطن. كانت كلمات مرعبة، أشبه بطلقات المدافع العشوائيّة على سكّان آمنين. كان خطاباً كارثيّاً يتحدّى إرادة الشّباب الثّائر، ويستفزّ كرامتهم. كان حديثاً ينضح بسفه القوّة واستقالة العقل.”
كان هذا الخطاب نوعاً من الإعلان عن عودة الابن الضّالّ إلى مملكة أوهام الأب بعد القطيعة مع أحلام الإصلاح. فكان ردّ المؤلّف على هذه القطيعة بإعلان قطيعته مع سيف الإسلام القذّافيّ في رسالة مفتوحة نشرها يوم 12 مارس/آذار 2011، أدان فيها انقلاب سيف على مبادئه وحمّله فيها مسؤوليّة انضمامه إلى قتلة الشّباب اللّيبيّ المنتفض، وأدان فيها ربّما تضييع سيف لتلك الطّلقة الأخيرة : “نعم، لقد كنتَ نظيفاً خارج هذا النّظام بالأمس القريب، وها أنت اليوم تلبس جلباب أبيك المتّسخ بفعل أربعة عقود من العمل في مذابح ومسالخ الدّكتاتوريّة وورش القمع والعسف الذي كنت تنتقده… يا لخيبة المسعى! لقد حدّدت مصيرك، وها نحن على مفترق الطّرق في هذه الأيّام العصيبة من تاريخ ليبيا تتحدّد مصائرنا وترمي بنا الأقدار كلاّ في سبيله.”
كان لا بدّ من هذه القطيعة ليبرّئ الكاتب ساحته من دماء اللّيبيّين بعد أن يئس من إمكان الإرسال بخطاب مفتوح إلى الشّعب اللّيبيّ يطمئنه ويمتصّ غضبه، وربّما يضع البلاد على سكّة انتقال ديمقراطيّ غير دمويّ.
لكن لماذا اختار سيف الإسلام لنفسه ولبلاده أسوأ مصير: لم يطلق الطّلقة الأخيرة الفاتحة لإمكانيّة سيناريو عمليّة سياسيّة، ولم ينضمّ إلى الجماهير الغاضبة، ولم يغادر البلاد؟ جرى إلى ما لا تحمد عقباه، ولم ينجُ من القتل إلاّ بأعجوبة.
إنّ من أهمّ سمات التّراجيديا أن يكون البطل غير آثم وغير بريء في الوقت نفسه. إنّه صاحب “عثرة” يسمّيها أرسطو hamartia، ويقول كيركغارد في توضيحها في كتابه “عودة التّراجيديّ”: “العقاب الحقيقيّ في التّراجيديا يقتضي عنصر خطأ، والألم التّراجيديّ يقتضي عنصر براءة. العقاب التّراجيديّ يريد عنصر شفافيّة، والألم التّراجيديّ يريد عنصر ظلمة” (ص118). لا يوجد مصير تراجيديّ إلاّ وقد التبس فيه الخير بالشّرّ، وكانت عاقبة البطل مزيجاً من عقاب الآثمين وألم الأبرياء، وامتدّت ظلال حقيقته الفريدة على حقائق النّاس لتظهر عسر الجزم، وعسر الحكم الأخلاقيّ القاطع، إلاّ إذا كنّا في محكمة فقهاء القسوة.
ما الذي جرى حتّى يجري طائر سيف الإسلام بغير ما أراد هو وما أراده مَن حوله؟ إذا اتّضح السّبب بطل العجب. وقد عمل الكاتب على إبطال العجب، فكان كالنّسّاج الممسك بخيوط متشابكة يحاول فرزها وتمييز بعضها عن بعض قبل ضمّها ووضعها على نول الكتاب. ولكنّه بهذا العمل المتأنّي على فهم السّبب وإبطال العجب انتقل من الغضب على سيف الإسلام إلى التّأمّل المرير في مصيره، فنقلنا من الخطإ المدان إلى العثرة المحيّرة، وفتح بذلك باب التّراجيديّ، واختار أن تكون هذه السّيرة “خارج المدح والقدح”.
كيف كان سيف لا بريئاً ولا آثماً، أو بريئاً وآثماً؟ وكيف بقي منتزعاً بين أوهام والده وأحلامه هو؟ وكيف أضاع نفسه عندما وجد أباه أو عاد إليه؟
لم يجد سيف الإسلام نفسه ابناً عاديّاً لأب عاديّ، قد يتصارع معه قليلاً أو كثيراً ليبني ذاته بمعزل عنه، ولم يجد نفسه ابناً لملك في دولة قد يكون دوره فيها أوضح، أو ابناً لرئيس جمهوريّة لها قوانين واضحة يخضع فيها انتقال الحكم لإجراءات وتراتيب واضحة، حتّى وإن كانت صوريّة. ولم يجد سيف الإسلام نفسه في مواجهة نظام بوليسيّ قمعيّ يحمل واجهة ديمقراطيّة، كما هو الشّأن في دول الجوار قبل زلزال 2011. بل وجد نفسه ابناً لقائد ليس ملكاً ولا رئيساً للجمهوريّة، بل نصف إله كما يقول مؤلّف الكتاب، وفي دولة لا دستور لها، ولا صيغة ممكنة فيها للتّداول على الحكم. إنّها حالة سياسيّة هي أقرب إلى إدارة الفوضى منها إلى النّظام. ذلك أنّ الفوضى هي التي تمكّن الحاكم من المتعة المطلقة بالسّلطة، ومن إصدار “التّوجيهات” بديلاً عن تطبيق القانون: يقول الكاتب في وصف الفوضى التّشريعيّة السّائدة بليبيا: “فكانت القوانين الصّادرة عن الدّولة لا تجد تقويماً معياريّاً لشرعيّتها مهما كانت متضاربة فيما بينها أو ماسّة بالحقوق الأساسيّة للمواطن. فأدّى ذلك إلى فوضى ّتشريعيّة عارمة. وأُقرّت قوانينُ العقوبات الجماعيّة، كإنزال عقوبة بقبيلة كاملة، أو مدينة، لخروج فرد أو من مجموعة من أفرادهما على السّلطة. وكان ذلك منافياً لأبسط القواعد القانونيّة، وهي المسؤوليّة الشّخصيّة عن الجريمة، وإيقاع العقوبة على الفاعل فقط. كما اُستحدثت عمليّاً قاعدة القانون المزاجيّ في ما كان يعرف بـ”التّوجيه“. وهو كلام شفويّ للقائد يحظى بالإلزام، حتّى وإن كان مخالفاً للتّشريعات المعمول بها. ولم يكن هذا التّوجيه يحظى بالنّشر في الجريدة الرّسميّة حتّى ينال صفة الذّيوع في النّاس.” ويمكن أن نقدّر حجم الاعتباط والمتعة المطلقة بالسّلطة والسّاديّة من خلال موقف القائد ممّن كتب مقالاً نقديّاً في صحيفة كانت تتبع مشروع سيف الإسلام الإعلاميّ وكان مديرها المسؤول مؤلّف الكاتب. فقد أمر “بخطف الدّكتور البعجة، وضربه، والاعتداء عليه جنسيّاً، وتصويره في ذلك الوضع”.
ومن مظاهر قدامة هذا النّظام وغرابته ونحن في القرن الحادي والعشرين التّداخل التّامّ بين الدّولة والأسرة في ذهن القذّافي وبعض أبنائه وأفراد قبيلته. وأطرف الأمثلة التي قدّمها الكاتب على ذلك قصّة غضب القذّافيّ على ابنه السّاعديّ. فقد ترك زوجته وأبناءه بطرابلس وأقام بإيطاليا. فما كان من القائد إلاّ أن أغلق السّفارة والقنصليّات اللّيبيّة في إيطاليا.
لذلك كان التّناقض بين القائد وابنه كبيراً. وقد عبّر عنه الكاتب بقوله: “لقد وضع في سلّة حياته كلّ العناوين المتناقضة مع عناوين والده: الدّيمقراطيّة بدل التّسلّط، الليّبراليّة بدل النّظريّة الثّالثة التي تحتكر فيها الدّولة كلّ شيء باسم الشّعب، استرضاء الإسلاميّين بمن في ذلك أولئك الذين حاولوا اغتيال أبيه، التّقارب مع النّخب المثقّفة التي كان يحتقرها والده، الإعجاب بالغرب بدل اتّهامه بالهيمنة، احتقاره القبيلة وحركة اللّجان الثّوريّة، اللّتين يعتبرهما والده الأسّ الأساس للبقاء في الحكم”.
وقد كان الكاتب شاهداً على صراع مغلوط حسب رأيه بين الأب ووريثه: “كانت فكرة الدّيمقراطيّة عند سيف بمثابة سراب يسعى إليه ليملأ قرَبه الفارغة، وكانت تمثّل للقذّافي الأب البحر الذي غرق فيه فرعون وأصحابه. وكلاهما كان يعيش في عالم الأوهام.” الأب يكره الدّيمقراطيّة، والابن يريدها، ولا أحد يريد ما يراه المؤلّف ملائماً للمرحلة وهو بناء دولة المؤسّسات أوّلا والتّنمية المستدامة والنّهوض بالتّعليم والصّحّة. وهل من الممكن مصارعة الوهم، والحال أنّه أقوى من الخطأ لأنّه مرتبط بالرغبة الدّفينة؟ “كنت أحاول أن أشرح لسيف كلّ هذا، ولكنّه كان يرفض تحليلي جملة وتفصيلاً، لانتشائه ببعض الأفكار التي درسها في جامعات الغرب، وتشجيع بعض المثقّفين له في هذا الاتّجاه، والحال أنّهم لا يدركون واقع مجتمعاتهم البائس”.
عمّقت السّياسة الصّراع الأوديبيّ، أو عمّق الصّراع الأوديبيّ الهوّة السّياسيّة بين القائد وابنه. فكان أهمّ ملفّ اهتمّ به دون أن تتوفّر الشّروط الدّنيا للعدالة الانتقاليّة ملفّ جرائم نظام أبيه من تعذيب وقتل واغتيال للمعارضين بالخارج، وكأنّه يريد أن يحاكم أباه عبر محاكمة أعوانه. وكان شغوفاً بهذا الملفّ فلم تردعه تحذيرات المؤلّف والدّكتور شكري غانم ممّا سمّاه بـ“البالوعة العفنة” التي “لن ينجو أحد من الغازات السّامّة المنبعثة منها” إن فتحت.
وكان الابن مستعجلاً إصلاح ما أفسد أبوه، نهماً شرهاً. فانطبق عليه حسب الكاتب المثل الإيطاليّ: “من يضع لحماً كثيراً على المشوى، يحرق أفضله”. فقد “أراد ان يصلح كلّ شيء، فلم ينصلح ايّ شيء”، باستثناء إطلاق سراح مساجين الرّأي أو تحسين أوضاعهم. بل إنّه أصبح في السّنوات الأخيرة، ومن حيث لا يدري، أداة بيد الفاسدين و“القطط السّمان” التي حاول مطاردتها. واستعدى من حيث لا يريد ولا يدري كلّ الأطراف الفاعلة في المشهد السّياسيّ: من أبيه إلى إخوته إلى اللّجان الثّوريّة إلى الحرس القديم إلى قبيلته. وعندما اشتعلت البلاد غيظاً، حاول استرضاء هؤلاء، فاستعدى الجماهير الغاضبة، والشّباب الذي طالما عوّل عليه، فكان أن خسر الجميع، وأصبح “طريدة تائهة”. هكذا يصفه الكاتب يوم هروبه من طرابلس: “كان سيف ذلك اليوم طريدة تائهة. فالثوار يبحثون عنه لقتله، وأبناء عمومته قرروا التخلص منه ومعاقبته على ما اقترفت يداه في قيام هذه الثورة أو الاشتراك في هذا التآمر حسب توهمهم. وكان وحيداً بعد أن انفضّ الجميع من حوله، وحتى إخوته ما عادوا يطلعونه على وقائع الحرب الدائرة في البلاد مما جعله يطمئن للبقاء في طرابلس حتى لحظة سقوطها”.
ولكنّ سيف الإسلام لم يعِش صراعاً بينه وبين القوى التي رفضته أو رفضت محاولات إصلاحه فحسب. فالأمر لا يقتصر على هذا التّناقض، بل يتجاوزه إلى التّمزّق، أي التّناقض الباطنيّ بين سيف الإسلام وسيف الإسلام، وهو تناقض من سمات التّراجيديا أيضاً. فكيف يمكن أن يهنأ بالعيش والنّضال السّياسيّ من آمن بالدّيمقراطيّة، ودرس في جامعة فيينّا العلوم السّياسيّة، ووجد نفسه وريثاً في جمهوريّة، بل في جماهيريّة، لن يصل إلى الحكم فيها إلاّ بالانتقاض على مبادئ الجمهوريّة والدّيمقراطيّة؟ ثمّ كيف يكون الابن الذي لا يختلف فقط مع أبيه، بل يجد نفسه في وضع المصلح لما أفسده أبوه طيلة أربعين عاماً؟ أيّ يسر في حياة من “أراد أن يوقف حياته على جبر الضّرر الذي ألحقه أبوه باللّيبيّين وبالعالم” كما يقول الكاتب؟
ولا يمكن فهم سيف الإسلام وموقفه الأخير دون الانتباه إلى مختلف أبعاد علاقته بوالده. فمن مكوّنات “عقدة الأوديب” الشّعور بالذّنب نتيجة الصّراع مع الأب والرّغبة في قتله رمزيّاً. فالاستماتة في الصّراع مع الأب هي الوجه والقفا، هي الشّعور بالذّنب من ناحية، والتّماهي مع الأب من ناحية أخرى. أمّا الشّعور بالذّنب فهو ملازم لكلّ ثورة على الأب، وهو الذي عجّل بعودة الابن الضّالّ أو ساعد على عدم رضوخه للأطراف الخارجيّة –التّركيّة والقطريّة- التي طلبت منه تزعّم حركة التّمرّد مع الإسلاميّين. وأمّا التّماهي، فهو نوع من التّقليد اللاشعوريّ لموضوع نرتبط به، رغبة في الهروب من العاطفة السّلبيّة نحو هذا الموضوع. وأبرز ما لفت انتباهي وأنا أقرأ الكتاب هو مدى تشابه سيف مع أبيه في عدّة مواقف وأساليب في التّصرّف رغم تعارضه الجوهريّ، الشّعوريّ، معه كما أسلفنا.
فقد انتبه الكاتب إلى بعد أساسيّ من أبعاد التّضادّ التّامّ بين القائد وابنه، يفضي في نهاية المطاف إلى تشابهما في وهم الخلاص: “هذا التّضادّ مع أبيه يعكس رغبته الدّفينة، اللاّشعوريّة، في أن يكون المخلّّص الذي جاء من صلب ذلك الذي توافق الجميع على اعتباره مدمّراً. أي أنّه كان يعتبر نفسه صاحب مشروع تاريخيّ، وهو في الحقيقة صاحب وهم خلاصيّ، لأنّه كان في قرارة نفسه مؤمناً بحصول معجزة تخلّق المهديّ المنتظر من نطفة اليزيد.” كان القائد صاحب نظريّة ثالثة جاء بها مخلّصاً مبشّراً، وكان ابنه، من حيث لا يشعر، مخلّصاً ممّا جاء به والده، مصلحاً لما خرّبه، مطلقاً سراح مَن سجَنه، جابراً ضرر من ألحق بهم ضرراً. ولم يكن يمتلك الأدوات الكافية لهذه المهمّة المثاليّة، أو لنقل بالأحرى إنّه لم يكن يرى الواقع المعقّد من حوله حتّى يعدّل مهمّته أو يعتمد سياسة المراحل أو يعمل بنصائح السّياسيّين المحنّكين المحيطين به.
لقد كان شبيهاً بأبيه في ثوريّته الدّونكيشوتيّة. فمثلما كان أبوه يأمر بهدم المباني التي تحوي أنشطة لا يقرّها، وكأنّه إله محّاء، يزيل من خارطته من لا يريد، وجدنا سيف الإسلام مثلا يقرّر هدم ضريح سيدي عبد السّلام الأسمر: “… قد أمر أمامي مدير مكتبه عبد الرّحمن الكرفاخ بالذّهاب إلى مدينة الزّليطن وهدم ضريح الشّيخ عبد السّلام الأسمر، وقد وقفت ضدّه في هذا القرار الخاطئ وجادلته مجادلة عنيفة، وبيّنت له خطورة الأمر على سمعته السّياسيّة وانعكاساته السّلبيّة على النظام برمّته. وقد عدل في نفس اللّيلة عن هذا القرار”. ولئن عمل على إخراج ليبيا من عزلتها الدّوليّة، وكان طرفاً فاعلاً في المفاوضات المتعلّقة بقضيّة لوكربي وقضيّة الممرّضات البلغاريّات، فإنّنا وجدناه يناكف الغرب على طريقة أبيه، فيدعو سنة 2006 إلى مظاهرة في بنغازي ضدّ الرّسوم الكاريكاتوريّة التي عُدّت مسيئة للرّسول، ويخادع البريطانيّين، فيعود مع مفجّر طائرة لوكربي في نفس الطّائرة، ليظهر “بمظهر الفاتح المنقذ في تلك المناسبة، مخالفاً بذلك الاتفاق الذي تمّ مع الحكومة البريطانية”.
لقد رأى الكاتب في مثل هذه الأفعال “قفشات” و“أفعال شغب” “كانت تعويضاً عن الفشل الذّريع في تحقيق الأهداف التّنمويّة والإصلاحات الكبرى.” ولكنّ سيف الإسلام كان يختار أعمال شغبه هذه من جنس أعمال شغب أبيه. لقد سبق أن أشرنا إلى قول الكاتب إنّه “وضع في سلّة حياته كلّ العناوين المتناقضة مع عناوين والده”. فلنقل الآن إنّه أخذ من سلّة حياة والده كلّ العناوين التي أشبه بها أباه.
وماذا نقول أيضاً؟ هل نقول إنّ من أشبه أباه ما ظلم؟ أم نقول إنّ من أشبه أباه ربّما ظلم، إن كان أبوه ظالماً؟ وكيف يستطيع أن ينجو من شرنقة أبيه من كان أبوه حاكماً آخر بأمر اللّه يضع قناع الحداثة ليوهم العالم بأنّه “حاكم بأمر الثّورة”؟ وكيف يمكن أن يحيا وينطلق مَن بنى أبوه مملكة شبيهة بالقبر؟ ألم ترد صورة القبر وإصلاحه على لسان الكاتب : “فما اختصّ به القذّافي هو صنعه قواعد اقتصادية لضبط السلوك الإنتاجي والاستهلاكي والاستثماري للناس في دولة تقوم على الريع واستدعاؤه أفكاراً اقتصادية تنتمي إلى القرون الخوالي. فكان كمن يرمّم قبراً ليسكنه قبل حلول أجله. هذا هو القبر الذي حاول سيف الإسلام إغلاقه وبناء صرح ضريح علّه يكون أكثر ملاءمة لاستقبال أحياء”؟
وكيف يمكن أن يكون طليقاً من ولد وهو يحمل اسماً مبصوماً بأوهام أبيه العُظاميّة: من “سمّاه أبوه سيف الإسلام، لأنّه، عندما كانت أمّه حاملاً به، رأى أبوه في منامه الرّسول وهو على فرس أبيض يقدّم له”سيفاً”؟ ألم يقضِ حياته وهو سيف مسلّط على أبيه يصارعه، لينهيها وهو سيف يتقلّده أبوه ليواصل هذيانه إلى آخر لحظة؟
ليس هذا التّقديم تحليلاً نفسيّاً لشخصيّة سيف الإسلام. فالتّحليل النّفسي لا يكون متاحا إلاّ بسماع الذّات في إطار معيّن، وفق قواعد يجب أن تراعى. إنّه تحليل نفسيّ أدبيّ لمصير سيف الإسلام، شاركتُ فيه الكاتب حياءه واستنكافه من الفرجويّة المستبيحة لكلّ المجاهل.