في بلاد ما بين النهرين، بلاد سومر وبابل، بلاد هارون الرشيد وأبي تمام، للتاريخ والحضارة طعم آخر. ودوما كان للبعدين الديني والإثني أثر كبير في النزاعات التي هزت العراق البلد-المركز في قلب المشرق، والبلد- الحاجز مع الفرس والأتراك، وبلد أور وموئل العبرانيين والمسيحية الأولى، قبل أن يصبح من بلاد الإسلام ومسرح فتنته الكبرى. وهو أيضا بلاد الآشوريين والكلدان والسريان والإيزيديين، وكذلك الأكراد والتركمان، وبالطبع العرب. بلد كهذا يختزن من الأساطير والتراث والموقع الجغرافي وثروات النفط والمياه ما جعله قبلة الأنظار ومسرح المطامع والطموحات.
في بداية الحرب على العراق في 2003، قال الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش “إنها حرب صليبية”، ولم يلبث أن تراجع واعتبرها زلة لسان. لكن الرئيس نفسه وبعد هجمات سبتمبر، كان قد استخدم مصطلح الحرب الصليبية في 16 سبتمبر 2001، للإشارة إلى ما أسماه الحرب على الإرهاب فقال “هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب يلزمها وقت”. لكن شعارات الصليب والصليب المعقوف طواها الغرب في الحروب المعاصرة، واستعان بأسماء رمزية مثل عاصفة الصحراء.
في حروب الشرق (إسرائيل، فلسطين، إيران، العراق وسوريا) تبرز إلى الواجهة المسميات الدينية في استحضار للتاريخ والعصبيات وإقحام البعد الماورائي في صراعات المصالح والنفوذ.
في الحرب العراقية الإيرانية أي حرب الخليج الأولى (1980 – 1988) أعاد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين التذكير بمعركة القادسية التي فتحت بلاد الفرس للإسلام على يد العرب، وحينها تكلمت القيادة الإيرانية عن مرور طريق القدس عبر كربلاء.
وإزاء احتدام التحدي مع واشنطن رصعت القيادة البعثية العلم العراقي بعبارة الله أكبر، ومن جهته أصبح فيلق القدس قوة النخبة الخاصة للعمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني الذي نشأ في خضم الحرب مع العراق، وأصبح له ذراعه اللبنانية مع حزب الله وجماعاته العراقية وأبرزها منظمة بدر وأخواتها. بالإضافة إلى ذلك، كرست فترة ما بعد 2003، وأعمال مقاومة القوات الأميركية بروز التنظيمات الإسلامية على أنواعها ونشأة سلفية جهادية في حضن تنظيم القاعدة مع الزرقاوي سلف البغدادي.
هكذا لم تأت مواجهات العراق الحالية من فراغ، بل هي نتاج أخطاء ذاتية وتراكمات واستهداف لهذا البلد الذي يضم مزيجا نادرا من المكونات الدينية والقومية والحضارية، والذي كان إسقاط عاصمته في أبريل 2003، المؤشر لسقوط النظام الإقليمي العربي وبدء تبخر الفعل العربي لصالح هيمنة واشنطن على القرار العالمي بعد الحرب الباردة، وكذلك لصالح صعود إيران في الإقليم.
وهذا الصراع حول هوية العراق ومستقبل تركيبته، اتصل بصراع أقسى حول مستقبل العراق بين مجموعة قوى دولية وإقليمية.
هكذا بعدما كان العراق بوابة العرب الشرقية، وأحد أعمدة أمن الخليج وقواه (إلى جانب إيران والمملكة العربية السعودية) اهتزت التوازنات وأصبح العراق موضع النزاعات بدل أن يكون لاعبا، لأن الرئيس الأسبق صدام حسين تصور، كما شاه إيران، أنه سيكون شرطي الخليج بعد أدائه في الحرب ضد طهران، لكن سقوطه في فخ غزو الكويت كان نهاية وهم العلاقة الملتبسة مع واشنطن.
حاليا مع استئناف التعاون الأميركي- الإيراني في العراق وضد “داعش” هذه المرة منذ صيف 2014، (بعد تفاهمات 2003 – 2011 التي كرست العمل المشترك في العراق)، وكذلك بناء على المفاوضات النووية ونهج إدارة الرئيس أوباما، تعمل إيران على فرض الأمر الواقع في العراق لكي تتكرس الإمبراطورية التي يعتبرها البعض قائمة وقابلة للتمدد.
في قلب معركة تكريت ورمزيتها، يصل الجنرال قاسم سليماني إلى مسقط رأس الرئيس صدام حسين، ويتم تشبيه وقفته بوقفة الجنرال غورو أمام ضريح صلاح الدين في دمشق.
إنه إذن الثأر والانتقام للتاريخ الحربي بين البلدين. في غمرة نشوة التمدد تسقط الأقنعة وها هو علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني يتحدث دون مواربة عن “إيران التي أصبحت اليوم إمبراطورية، كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حاليا، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا، كما في الماضي”.
وأما حسن هاني زادة رئيس تحرير وكالة مهر شبه الرسمية (المقربة من الحرس الثوري الإيراني) فقد كان واضحا بما فيه الكفاية، إذ كتب تحت عنوان “الوحدة بين إيران والعراق لا بد منها”، “آن الأوان لأن يقول الشعب العراقي كلمته الأخيرة وأن يختار بين العروبة المزيفة الجاهلية، وبين الإسلام الحقيقي وينفض ثوبه من تراب الذل العربي”.
مقابل التهليل الإيراني بالإنجازات الحربية في العراق، يسعى الجانب الأميركي للتخفيف من وهجها والاعتراف بأن المعركة طويلة ومعقدة، لأنه يعلم جيدا تاريخ العلاقة مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي تصرف بمنطق أحادي وبدد العمل الأميركي مع جماعة الصحوات من العشائر العربية السنية.
وفي استدراك عشية سقوط المالكي، اقترح الجنرال سليماني إصدار فتوى الجهاد الكفائي كي تكون الميليشيا المسماة الحشد الشعبي بديل الجيش الوطني وكائناته الفضائية التي سقطت في امتحان معركة الموصل. في المقابل لم تنجح واشنطن في بناء الحرس الوطني من عشائر العرب السنة بعد تجربتهم المريرة السابقة، وهكذا يختل كل توازن ويتم تهميش البيشمركة وحكم مسعود بارزاني وتقدم بلاد الرافدين هدية لإيران.
وهذه الهدية مسمومة لأن ما فشل فيه شـاه إيران وصدام حسين لن ينجح فيه قاسم سليماني، لأن العراق ليس لقمة سائغة، ولأن الانتصار القائم على القهر لن يرسخ أوضاعا أبدية، ولأن التطرف سيكون عابرا كما عبر هولاكو العراق بينما بقي حمورابي.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس