يشبه موقف تركيا من الصراع في سورية، وعليها، في زمن الثورة على نظام آل الأسد، موقف باكستان من الصراع في أفغانستان، وعليها، في زمن “الجهاد” الأفغاني. في الحالتين حكمت الجغرافيا، وتدخل التاريخ. وفي الحالتين تداخل المحلي بالإقليمي، والاثنان بالدولي، لتصبح تركيا، كما كانت باكستان في الحالة الأفغانية، ممراً إجبارياً إلى سورية. وفي الحالتين لم تكن مصلحة السوريين، وقبلها مصلحة الأفغان، على رأس القائمة، طالما أن الحروب بالوكالة تدور في أرضهم وعليها.
كانت أفغانستان مهمة لباكستان نتيجة اختلاط القبائل على جانبي الحدود، ووجود مناطق كانت في وقت ما جزءاً من ممالك وتحالفات قبلية أفغانية، وأصبحت داخل الحدود الباكستانية. كما كانت مهمة لباكستان في صراعها مع الهند، على كشمير من ناحية، وفي سعيها للهيمنة على شؤون بلد يُراد له أن يكون حديقة خلفية، من ناحية ثانية.
أضيفت إلى الأهمية، سواء أكانت حقيقية أم مُتوّهمة، دلالات جديدة، مع وجود ضياء الحق، الرئيس الباكستاني، الذي انخرط في مشروع لأسلمة البلد، الباحثة عن مشروع، وتاريخ، وهوية، بعد انفصالها عن الهند في حرب دامية، وبعد انفصال بنغلادش (باكستان الشرقية) عنها، في حرب لا تقل دموية. ومع الأسلمة صعدت وتصاعدت في رؤوس ضياء وجنرالاته أوهام وأحلام “المشروع الإسلامي”، الذي يمنحهم عمقاً في العالم الإسلامي، ويمكنهم من وضع أنفسهم وراء عجلة القيادة. وكلمة السر في هذا كله هي الهند.
علاوة على الآمال والأوهام، كان المشروع مربحاً، أيضاً، إذ كانت أفغانستان وسيلة لتعزيز العلاقة بالولايات المتحدة المعنية باصطياد الدب الروسي على أيدي رجال القبائل هناك، كما كانت وسيلة للحصول على مال السعودي المُصاب بفوبيا الشيوعية، والساعي إلى تعزيز علاقته بأميركا الريغانية، حتى وإن استدعى الأمر الانخراط في، وتمويل، نقلاتها الختامية، على رقعة الشطرنج الكونية، في آخر فصول الحرب الباردة.
وكان من الطبيعي، لهذا، ومعه، وبه، أن يُقاوَم الدب الروسي في أفغانستان “بالجهاد”، وأن يتم احتضان، وتشجيع، وتدريب، وتمويل، موجات متلاحقة من الإسلاميين، سواء من المقاتلين القبليين، أو المتطوعين الأجانب، على الرغم من حقيقة أن أولى فصائل المعارضة الأفغانية كانت وطنية، وإسلامية معتدلة.
وكما حدث في لبنان، عندما عمل حافظ الأسد على “تلزيم” حزب الله مقاومة إسرائيل في الجنوب، وأسهم في تقليص وعرقلة نفوذ، ونشاط، بقية القوى الوطنية اللبنانية، عمل ضياء الحق، وجنرالاته، على تلزيم “المجاهدين” مقاومة الروس، والنظام الماركسي في كابول، بدءاً من الإخوان، والوهابيين، وصولاً إلى الطالبان.
ونجم، سواء مباشرة أو مداورة، عن حكم الجغرافيا، وتدخل التاريخ، واختلاط “لعبة الأمم” بأوهام الجنرالات ومشروع الأسلمة، والحروب بالوكالة، دمار أفغانستان، وإشعال نيران حرب أهلية ما تزال مستعرة منذ ستة وثلاثين عاماً، وولادة “القاعدة”، و”الأفغان العرب”، والطالبان، مع كل ما أنجب هؤلاء، في كل مكان طالته أيديهم، من كوابيس وكوارث.
فلنعد إلى تركيا: هناك الحدود المشتركة، وكما كان الشأن بين باكستان وأفغانستان، مناطق مُتنازع عليها، وسكّان حيث لا ينبغي أن يكونوا، وهناك الماضي الذي لم يمض تماماً: تاريخ الإمبراطورية، الذي يحلم الأتراك باستعادته، ولا يحاول السوريون نسيان جراحه. وهناك “المشروع الإسلامي” بطبعته التركية ـ الأردوغانية، وهي أكثر تعقيداً من أوهام وأحلام ضياء الحق وجنرالاته. فتركيا ليست كباكستان بلا هوية ولا تاريخ. وهناك لعبة الأمم، وحروب الوكالة، ومال السعودي المُصاب بفوبيا الشيعة الإيرانيين، ورهانات الأميركي، الباحث عمّا يحفظ ماء الوجه، وأمن النفط، وإسرائيل، وطرق التجارة الدولية، وهناك الإسلام السياسي، وقد أصبح صاحب باع وذراع، وميليشيات جهادية جوّالة تشبه جيوش الإقطاعيين في القرون الأوروبية الوسطى. وهناك كلمة السر في المشروع التركي ـ الأردوغاني: الحلم الإمبراطوري العثماني.
على طريق هذا الحلم، تمارس تركيا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بسورية، وهي أفغانستانها، دور المقاول في العلن، وفي الباطن: تستضيف، وتسلّح، وتدرّب، معارضي نظام آل الأسد، وتسهّل مرور “المجاهدين”، والسلاح، والمال، إلى الداخل السوري. ولكن ما لا يحظى إلا بقدر أقل من الاهتمام يتمثل في حقيقة أن “قلب” تركيا مع الإسلاميين، لا مع الوطنيين السوريين، وما يجعل ميل القلب أكثر غواية أنه يتقاطع مع هواية وهوى وأهواء كبار المُموّلين.
وبما أن مفردة “الإسلاميين” غالباً ما تكون فضفاضة، ولأسباب مُتعمّدة، تندرج فيها أطياف وتجليات مختلفة “للقاعدة” سواء تمثلت في “جبهة النصرة”، أو الدواعش، أو ما لا يحصى من الميليشيات المسلحة التي لا يتجاوز نفوذها حدود حارة، أو شارع، في مدينة. وهذا يأخذنا إلى عالم الظلال، حيث تكثر التكهنات، والتأويلات، ويصعب العثور على حقائق صلبة، ناهيك عن حقيقة أن “الدعم” يتفاوت من حيث الحجم، والمدة الزمنية، والأهداف، والشروط.
المهم، أن العطاء، في العلن، رسا على “جبهة النصرة”، مع عدم استبعاد “دعم” سبق للدواعش. وهؤلاء وأولئك من أطياف “القاعدة”. ولعل في هذا ما يعيد التذكير بما حدث في أفغانستان، ولأفغانستان، عندما رسا العطاء على الطالبان، وقبلها الأكثر تشدداً من “المجاهدين”. والمهم، أيضاً، أن هذه الأخبار ليست جيدة لسورية.
أخيراً، يجدر التنويه أن كل ما تقدّم لا يعفي نظام آل الأسد من مسؤولية تفوق الجميع. ولا يعني أن بشّار ابن حافظ الأسد يستحق أن يكون جزءاً من مستقبل سورية. ولا يعني التعاطف مع المشروع الإمبراطوري لآيات الله في طهران. كل ما في الأمر أن باكستان أسهمت في تدمير أفغانستان، وأن أردوغان على خطى ضياء الحق. مسكينة سورية.
khaderhas1@hotmail.com