يقول قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر في إرشاده الرسولي المخصَّص لسلام الشرق الأوسط – وأنقل هذا بالمعنى لا بالنصّ الحرفي:
“السلام قيمة ثابتة ومتأصّلة في وعي أبناء هذه المنطقة وثقافتهم وتطلعاتهم منذ القدم. ولذلك نلاحظ أنهم، وعلى اختلاف أديانهم، إنما يحيّون بعضهم بعضاً بتحيّة السلام”.
وقبل أن أدخل في صُلب موضوعنا، أودّ أن أشير إلى نقطة لم أتمكن من إطّراحها جانباً.
فقد يتبادر إلى ذهن البعض منكم أنني أتحدّث بصفة شيعية، وربما تمثيلية بمعنى ما. وقد يكون في ذهن الذين دعوني إلى هذا المنبر، مشكورين، أني بهذه الصفة الافتراضية أحقّق المراد. هنا يوجد خطأ “تقني” طفيف يمكن استدراكه بما يلي: الواقع أنني أشعر بانتماء إلى كل الجماعات المكوّنة للحالة الوطنية اللبنانية، بما فيها المكوّن الشيعي بطبيعة الحال، كما أشعر بمسؤوليةٍ حيال كل منها، دون ادعاء أية صفة تمثيلية، ولو جزئية. هذا على صعيد الاجتماع الوطني الانساني. أما على الصعيد الإيماني، فأرى إلى نفسي مسلماً ومسيحياً في آن معاً، وبمقادير غير متفاوتة كثيراً في الجوهر، وقد أشعر بصلة مع اليهودية بمقدار ما يُتيح لي فهمي لإسلامي ومسيحيتي في إطار الإيمان الإبراهيمي الكبير. على هذا لا أراني أصلح لشهادة على سبيل “العيّنة” وفق التصنيف اللبناني الشائع. وعلى هذا لستُ ههنا لأتضامن معكم من خارج سياقكم، بل لأتضامن مع قناعاتي التي أتعهّدها داخلكم. إسمحوا لي إذاً أن أطرح من على منبركم – منبري هذا بعض الأسئلة والإشكاليات بخصوص المسيحيين في لبنان والمنطقة العربية:
عام 1919 حمل البطريرك الياس الحويّك إلى مؤتمر السلام في باريس مطلب إنشاء دولة “لبنان الكبير” بحدوده الحالية وتكوينه التعدّدي. ومما قاله البطريرك، مخاطباً رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك جورج كليمنصو:
“اسمحوا لي، سيادة الرئيس، أن ألفت عنايتكم إلى ميزة يتفرّد بها مطلبنا هذا؛ وهي أنه للمرة الأولى في الشرق هناك من يريد إحلال “الوطنية السياسية” محلّ “الوطنية الدينية”. وهذا أمرٌ عظيم الشأن، سوف تترتّب عليه نتائج بالغة الأهمية، كما لا يخفى عليكم. وعليه فإن لبنان المنشود يمتلك شخصية خاصة لا يجوز – ومن منظار الحضارة نفسها – التضحيةُ بها لأية اعتبارات مادية”.
هذا الكلام، في سياق خطبة مطوّلة، نُشر للمرة الأولى أواخر العام الفائت، أي بعد نحو مائة سنة، مأخوذاً من ملفات البطريرك الحويك المصنّفة سياسية في أرشيف البطريركية المارونية في بكركي. فرح به عقلي كثيراً، لأنه أكمل دورة قناعاتي التي بدأت بفرضيّة أن اللبنانيين، لا سيما المسيحيين منهم، إنما اختاروا صيغة العيش المشترك في كيان وطني سيّد مستقلّ، ومجتمع تعدّدي مفتوح، بفعل حكمة فطرية وعقل عملي أكثر مما هو بفعل وعي نظري – فلسفي. وهذه على أي حال فرضية لصالحهم. ثم جاء المجمع البطريركي الماروني عام 2006 ليقول إن هذا الخيار ما كان عفوياً لدى الكنيسة بل واعياً، انطلاقاً من أن الشهادة للإيمان لا تكون أحسن ما تكون إلا في إطار العيش مع الآخر المختلف، لا في إطار الاعتزال داخل جماعة صافية – وكان قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، في إرشاده الرسولي عام 1997، قد دعا المسيحيين اللبنانيين إلى الانخراط الفاعل والمسؤول في الدفاع عن القضايا العادلة لمنطقتهم العربية وبالشراكة مع المسلمين، تأسيساً على واجب الشهادة للإيمان.
ثم أتاني كلام البطريرك الحويك ليقول لي إن ذاك الخيار كان واعياً أيضاً ومؤسساً على فكرة سياسية سوسيولوجية متقدمة على زمنها الشرقي. هنا اكتمل فرحي باكتمال دورة قناعاتي القائلة بأن لبنان الكيان، من دون مسيحييه، لا طعم له، ومن دون مسلميه لا حاجة إليه. غيرً أني – وأصارحكم – غضبت في الوقت نفسه: غضبتُ أولاً إذ بدا لي وكأن كلام البطريرك الحويك قد “خُبّئَ” عنّي طوال سبع وستين سنة من عمري، وسحابة قرن من عمر الزمن. ثم غضبتُ تالياً وخصوصاً لما أجريتُ مقارنة خاطفة بين صعودٍ تاريخي مبهر لحيوية مسيحية واثقة وشجاعة، ساهمت في إنتاج تجربة فذّة من التفاعل الإنساني، وبين واقع حالنا في السنوات الأخيرة حيث لم نعد نسمع سوى كرازةٍ بالخوف وانقطاع الرجاء.. وبصخبٍ أحياناً: “نحن المسيحيين قلقون على مصيرنا من وعود هذا “الربيع العربي”، ونفضّل استبداداً موصوفاً عرفناه على استبدادٍ مضمر في أحشاء هذا الربيع! نحن في لبنان ضقنا ذرعاً بشراكة غير منصفة في صيغة عيشنا، ونريد تغيير ملامح هذا الوجه الذي اخترعناه: نريد انتخاب نوابنا بأنفسنا وحصرياً، وانتخاب رئيس الجمهورية من قبلنا أولاً ليصادق عليه المسلمون، وبالتالي نريد عقداً وطنياً جديداً يلاقي فكرة “المثالثة الشيعية – السنيّة – المسيحية” بدلاً من “المناصفة المسيحية – الإسلامية” المعمول بها حالياً بموجب اتفاق الطائف، وبصرف النظر عن العدد! أخيراً وليس آخراً، نريد حمايةً دولية للأقلية المسيحية في لبنان والمنطقة العربية، بوجه إرهاب عجائبيّ البطش والقدرات، وما هو في الواقع إلا إرهابٌ إسلامي، وسنّي تحديداً، كما أخبرنا كل المجتمع الدولي وجميعُ أصدقائنا في المنطقة الذين يرشحون أنفسهم لحمايتنا مشكورين!”…
بصراحة، أشهد أني صُدمت بهذه المقارنة السريعة:
• صُدمتُ أولاً إذ رأيتُ إخوتي المسيحيين، في تصورهم لأنفسهم، كيف انتقلوا من دينامية تاريخية رؤيوية فاعلة، إلى حالة منفعلة متلقّية تتقلّب على سطح صفيحٍ ساخن!
• وصُدمت ثانياً إذ رأيتُ أنهم لم يُصغوا جيداً إلى تعاليم كنيستهم التي بذلت الجهد الأوفي في التجدُّد – وأكثر من”كنيسة” إخوتي المسلمين – كما في التوجيه والموعظة الحسنة، منذ الفاتيكان الثاني عام 1965 حتى زيارة البابا فرنسيس الشجاعة مؤخراً إلى القدس، وما بين ذاك وهذه!
• وصُدمت ثالثاً إذ رأيتُهم يتحفّزون لسحب ملحهم من عجينتي اللبنانية والمشرقية، فقلتُ: فبماذا أملحّ إذاً؟!
وبصراحة أيضاً سأشهد لقناعاتي، ومن الآخر:
• الإرهاب واقعٌ ملموس وخطير، ولكنه في معلوماتي ومعايناتي وتقديري “مصنوع” في القسم الأعظم منه – والإرهاب صناعة كما تعلمون. المفارقة أن الذين يرشّحون أنفسهم لحمايتنا من الإرهاب هم صانعوه وراعوه في الأعمّ الأغلب!
• الإرهاب في المقام الأول هو إرهاب أنظمة استبدادية، من اسرائيل إلى سورية إلى العراق إلى ما شئتم. والمفارقة أنه يجري تعتيم وقح على هذا الجانب، قيُلقى القبض على سلاح الجريمة، ويتم الدعاءُ للمجرم بطول العمر!
• أطروحة حماية الأقليات ورقة استُلَّت من متحف التاريخ الحديث وتمّ وضعها على الطاولة. أنا لا أؤمن مطلقاً بهذه الورقة، بل أقول مع الإمام محمد مهدي شمس الدين: ليس في هذا الشرق أكثريات وأقليات، بل هناك أكثريتان فقط: أكثرية مسلمة تضمّ عرباً وغير عرب، وأكثرية عربية تضمّ مسلمين ومسيحيين… وبإمكان اليهود أن يختاروا الإنتساب إلى أيّ من الأكثريتين. كما وأقول مع البطاركة الكاثوليك في الشرق: “نحن جميعاً، مسيحيين ومسلمين، مسؤولون عن بعضنا بعضاً أمام الله والتاريخ”.
• قناعتي أيضاً أن الصخب الجاري في لبنان هو صخب على السطح، على مستوى الطبقة السياسية التي باتت رهينة منطقها الاستنفاري وارتباطاتها غير اللبنانية. أما العمق الأهلي فيبدو يوماً بعد يوم أكثر تحرراً من هذا المنطق وأكثر استنتاجاً للعبر والدروس.
• أخيراً أرفض التهويل، ولا أهوّن. المسألة هي حقاً شديدة التعقيد والحساسية والحرج. لذا فإن التعامل معها يتطلب حداً أدنى من الانفعال ومقداراً عظيماً من الإحساس بالمسؤولية، ومن الشجاعة والقدرة على الإبداع.
أرجو لاجتماعكم هذا ومداولاتكم أن تخرج
بخلاصات واضحة واقتراحات عملية
من أجل حماية لبنان –
حمى اللهُ لبنان، يا دولة
الرئيس – وبما يرضي الرب والإنسان فيه!
*
لقاء سيدة الجبل،
الخلوة العاشرة
بيروت – 31 آب 2014