انطلق الحراك الثوري العربي من تونس أواخر العام 2010، حينها كان الغرب الأوروبي غافلا عما يجري على الضفة الأخرى من المتوسط، فإذا بانتفاضة ليبيا تحرك السكون ليس فقط من أجل إنقاذ بنغازي (في تطبيق نادر للتدخل الإنساني الدولي أقره مجلس الأمن من دون تنبه روسيا والصين) وإنهاء حكم القذافي، بل لأن الدول الأوروبية الفاعلة كانت ترى في هذا البلد الشاسع والغني بالنفط والغاز، “ألدورادو” اقتصادي وحصنا ضد “الإرهاب” والهجرة غير الشرعية.
وفيما امتنعت ألمانيا وترددت إيطاليا، فرملت واشنطن الاندفاع الفرنسي وتبنت تنفيذ القرار الأممي من خلال حلف شمال الأطلسي. اندفع الغرب لإتمام المهمة وجني المكاسب، لكن من دون دراسة وافية أو خطط بديلة لإعادة بناء الدولة وبسط الاستقرار.
في أواخر العام 2011، حزم رجال الأعمال الغربيون حقائبهم وأسرعوا الخطى نحو ليبيا ما بعد القذافي القادرة، نظريا، على دفع فاتورة إعادة الإعمار التي قدرها البعض بنحو 80 مليار دولار. لكن الراكضين وراء الاستثمار في بلد جار لأوروبا، فيه نفط يمتلك أفضل المواصفات وتنقيبه سهل ويسير الكلفة، توهموا سهولة المرور من الحكم الفردي نحو الديمقراطية الموعودة، ولم يرصدوا مصاعب بناء حكم ديمقراطي في ليبيا. لأن التجارب العالمية الأخرى تشير إلى أن وفرة الموارد الطبيعية-والبترول بوجه خاص- غالبًا ما تؤدي إلى تركز السلطة والثروة معًا في أيدي عدد قليل من الأفراد، ومن ثَم، تحول دون تحقق الديمقراطية. فحالات “الألدورادو” غالبًا ما تقترن بديمقراطيات ضعيفة أو حكم قوي أو فوضى قاتلة.
للوهلة الأولى، تبدو الصورة في ليبيا اليوم شديدة السواد والبلد أمام مستقبل مجهول، لأن مشروع الدولة فشل وقامت بدلا منه ميليشيات وتنظيمات عسكرية هامشية تقوم على أساس ديني أيديولوجي قبلي وجهوي، مما أدى إلى انعدام الأمن وتفاقم الأمر مع تدخلات إقليمية وإهمال دولي.
لكن الناظر إلى النصف الملآن من الكأس يدرك أن المخاض الحالي بكل تعقيداته وآلامه، لم يكن مستبعدا لأن المرور من الملكية إلى الجماهيرية لم يرسخ أسس دولة عصرية، بل كان هناك إقصاء وفساد واستبداد وانقسامات مغطاة ولا تبرز إلى العلن، لأن السلطة كانت تشتري بالكثير من الوسائل السلم الاجتماعي والقبلي والمناطقي.
ومن هنا فإن قرار المحكمة الدستورية الليبية يوم الإثنين 9 يونيو عدم دستورية انتخاب أحمد معيتيق رئيسا للحكومة، يبشر بإمكانية قيام دولة قانون ولو على المدى المتوسط. وفي نفس الاتجاه أتت الانتخابات التشريعية في 25 يونيو وهي ثاني انتخابات تشريعية تجرى في ليبيا، بعد سقوط نظام معمر القذافي. ومع أن نسبة المشاركة فيها كانت ضعيفة، لكنها تفتح الباب أمام المرحلة الانتقالية الثالثة، بعد المرحلة الأولى مع مجلس المستشار مصطفى عبد الجليل، والمرحلة الثانية مع المجلس الوطني الانتقالي.
بالطبع وجود بعض الإيجابيات لا يمحو مخاطر انهيار الدولة وسيادة الفوضى فيما يشبه بروز المدن-الدول (إقليم برقة، قوات مصراتة، غرفة عمليات ثوار طرابلس، ميليشيا الزنتان…) وليبيا اليوم سوق سلاح كبير وساحة تصارع إقليمي خاصة ممن يعتبرون أنفسهم أوصياء على “الثورة”، ويريدون اليوم قطف المكاسب ويتورط في ذلك أطراف من العالمين العربي والغربي. وتتعمق الأزمة مع بروز جماعات متطرفة (القاعدة وأخواتها المختلفة) تحاول القبض على مفاصل بقايا الدولة، وتحويل ليبيا إلى معقل لها مع مخاطر عدوى نقل “الإرهاب” إلى الجوار. ومن بنغازي إلى طرابلس، تتواصل الاشتباكات بين ميليشيات متصارعة على النفوذ والمصالح والموارد. ولا تظهر حتى الآن إمكانية نجاح كبير لعملية الكرامة التي شنها اللواء خليفة حفتر،لأن الغرب كان متحفظا عليها تحت شعار “حماية الدولة المدنية والعملية الديمقراطية”.
هكذا بدل أن يتحمل الغرب مسؤولياته في إتمام عملية الناتو ويواكب إعادة البناء بشكل جاد، وليس عبر تنافس محموم على المصالح وتغطية أطراف إقليمية متورطة، “أتحفتنا” مفوضة الأمن الداخلي الأوروبية سيسيليا مالمستروم، في تصريح حديث لها بأن ليبيا تعتبر دولة فاشلة وأنه من الصعب التعاون معها في مجال الهجرة.
بكل سهولة إذن ولأن ليبيا الممزقة لا تتمكن من أن تكون شرطيا لمنع المهاجرين البؤساء من الذهاب نحو “الجنة الأوروبية الوهمية”، يتم وصمها بالدولة الفاشلة، علما أن لديها أطول سواحل على البحر المتوسط يصعب إحكام مراقبتها، بالإضافة إلى ذلك فليبيا أيضا بلد كبيرالمساحة(مليون وثمانمئة ألف كيلومتر مربع) وتتميز بموقع استراتيجي هام، فهي تربط أفريقيا بأوروبا عبر ساحل بحري طويل وتربط شرق الدول العربية بغربها، وفي عاصمتها طرابلس أُحبطت مؤخرا عمليات تهريب كبيرة للمخدرات. أي أن “الإرهاب” و”الهجرة غير الشرعية” و”المخدرات” هي عناصر مهددة للأمن الليبي والإقليمي والأوروبي.
في هذا السياق تبدو دعوة وزير الخارجية الليبي محمد عبدالعزيز، منذ يومين، لوضع إطار قانوني للانخراط الدولي الأكثر فعالية في ليبيا، حيث طالب بالحصول على مساعدة مجلس الأمن الدولي، خاصة فيما يتعلق باحتمال نشر بعثة استقرار وبناء مؤسسات تابعة للأمم المتحدة لتمكين الحكومة من ضمان الانتقال السلس من الثورة إلى بناء دولة سيادة القانون ونظام الحكم القادر على البقاء.
آن الأوان إذن للعمل على خلق معادلة تقوم على احترام السيادة الليبية من جهة، وعلى تحمل مسؤولية فعلية وليس تغطية الأمور باستبدال اللبناني طارق متري بدبلوماسي غربي ليتولى مهمة مبعوث الأمم المتحدة الخاص. الأهم أن يرفع الكبار أيدي التدخل العبثي في الشأن الليبي، ويسهموا في مواكبة واحترام خيارات الليبيين في المصالحة الوطنية والنظام الفيدرالي المعترف بالخصوصيات المناطقية والإثنية، لكن ليس على حساب ليبيا ومستقبلها.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس