توقع عديدون قبل نشوب الثورات في بلدان عربية ان يكون بديل الأنظمة الاستبدادية نماذج مختلفة من تيار الإسلام السياسي. حصل ذلك في تونس ومصر، وقد يحدث في ليبيا وسوريا.
فعوامل متعددة أدت لانتشار الإسلام السياسي ليقدم نفسه بديلاً لأنظمة الاستبداد. فهو يعمل في مجتمعات لم تخرج قطاعات منها بعد من مفاهيم القرون الوسطى، تأخذ بقشور الحضارة وتستهلك منتجاتها، ولكنها ترفض مفاهيمها السياسية والاجتماعية والثقافية المتعارضة مع موروثاتها القديمة، التي أفضل من يروج لها هو الإسلام السياسي، الذي يقر الناس على مفاهيمهم القديمة على حساب النهوض بالمجتمع للحاق بالمسيرة الإنسانية الحداثية.
كما استفاد التيار الإسلامي من فشل القوميين في السلطة، الذين لم يستطيعوا الوصول اليها إلا بالوسائل الانقلابية، واحتفظوا بها لفترة طويلة باعتماد حكم استبدادي يمارس التجهيل السياسي ويحتكر الثروة ويغذي الفساد، بعد تعطيل فعاليات المجتمع المتنورة ومؤسساته الليبرالية التي كان لها الدور الرئيسي قبل مجيء حكم العسكر، بحيث لم يترك للناس سوى الاختيار بين نظام مستبد ظالم وفاسد، وتيار ظلامي يعيد المجتمعات للقرون الوسطى.
التخلف والجهل والاستبداد والتطرف الديني وغيرها عوامل متداخلة وفرت المناخ الملائم لانتشار الإسلام السياسي وأذرعه المسلحة. واضافة لذلك، في سوريا، كنتيجة للوحشية التي ووجهت بها الثورة الشعبية السلمية من قبل النظام الدموي، وتخلي العالم عنها وفشله في وقف النظام عن ارتكاب جرائمه، ما ادى لحمل السلاح لمواجهته دفاعا عن النفس، الذي افسح المجال لانتشار قوى إسلامية مسلحة تكاد تحتكر العمل العسكري للثورة بعد تهميش الجيش الحر.
ولكن التيار الإسلامي المهيمن ليس واحدا، ففيما عدا جماعة الاخوان الأقرب للتيار الديمقراطي، هناك ثلاث قوى رئيسية: الجبهة الإسلامية وجبهة النصرة وداعش. أعلنت الأولى عند تشكيلها انها تسعى لبناء “دولة إسلامية راشدة تكون فيها السيادة لله وحده مرجعا وحاكما وناظما لتصرفات الفرد والمجتمع” وإنها “تشكلت لتكون بديلا للنظام”، وانتقدت الديمقراطية برفضها المشاركة في أية عملية سياسية لا تعترف بان التشريع لله.
ولا تختلف جبهة النصرة عن الجبهة الإسلامية سوى في انها “اممية” المنشأ والاهداف لتبعيتها لتنظيم القاعدة العالمي الذي يقوده الظواهري. في نفس الوقت لا تختلف داعش عن النصرة والجبهة الإسلامية في مسألة تطبيق الشريعة سوى ان داعش انشقت عن منظمة القاعدة التي كانت تنتمي اليها، فاصطدمت مع النصرة وكافة القوى المسلحة للثورة حتى انها أصبحت تخدم أغراض النظام. كما انها استعجلت تطبيق معايير متشددة في مجتمعات تسيطر عليها، مما نفر الحاضنة الشعبية والقوى الخارجية التي تدعم الإسلاميين المسلحين، واضطر الجبهة الإسلامية لمحاولة تمييز نفسها عنها، رغم التوافق في برنامج تطبيق الشريعة.
لذلك صدر منذ أيام “ميثاق شرف ثوري” ضم الى جانب الجبهة الإسلامية منظمات عسكرية إسلامية -فيما عدا النصرة وداعش-، لتحسين صورة التيار الإسلامي الرئيسي. لا يختلف الميثاق بالجوهر عما طرح سابقا ولكنه يقدمه بلهجة معتدلة مع بعض التشذيب واخفاء الأهداف الحقيقية وراء عبارات “دبلوماسية”. فالميثاق الجديد رفض الغلو والتكفير مشيرا لداعش التي تكفر وتعتدي على “أهلنا”، وأعلن اصحابه أن عملهم ينحصر داخل سوريا. ورحبوا بالتشارك مع القوى الثورية المقاتلة الأخرى لغاية سياسية مشتركة هي اسقاط النظام. وقالوا في الميثاق ان هدفهم إقامة “دولة العدل والقانون والحريات وحقوق الانسان التي يحث عليها الإسلام”.
عمليا القوانين والحريات التي سيقبلون بها هي التي يقبل بها الإسلام حسب تفسيرهم لنصوصه. لم يعد التعبير عن الدولة المنشودة “دولة إسلامية راشدة” تطبق شرع الله، بل أصبحت دولة لها قوانين وتعترف بحقوق الانسان التي لا تتناقض مع الشريعة، والفارق طفيف يكاد يقترب من التحايل في التعبير عن نفس الفكرة. الا انه يسجل للميثاق تشديد اصحابه على هوية سورية الثورة وعدم الارتباط بأية مشاريع اسلامية عالمية، ورفض امتلاك أسلحة دمار شامل، والترحيب باللقاء والتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية المتضامنة مع الشعب السوري، فيما كانت تصريحاتهم السابقة تتهم الائتلاف الوطني بالتبعية للأطراف الدولية التي يتعاون معها! وأعلنوا انهم مع تحييد المدنيين وتوفير الامن لكافة الاطياف العرقية والطائفية، ورفض سياسة الانتقام وتقديم مسؤولي النظام فقط لمحاكمات.
لكنهم لم يحددوا طريقة الوصول لأهدافهم بعد اسقاط النظام، اذ ان ذلك اما سيضطرهم للاعتراف بان صناديق الاقتراع الديمقراطية هي التي تحدد من سيطبق برنامجه في السلطة، او سيضطرون مرة أخرى لإعلان رفضهم للديمقراطية داعين لبديلها “الاسلامي”، نظام الشورى الملتبس الذي يحصر القرار والتشريع في نخبة غير منتخبة مما يسمونه “وجهاء القوم واهل الحل والربط”!
اول من انتقد الميثاق الجديد جبهة النصرة التي اعتبرته يرجح الاخوة “الترابية” السورية على الاخوة “الايمانية” للقاعدة التي لا تعترف بتقسيم العالم الى قوميات وشعوب بل تقسمه لمعسكري الايمان والكفر! كما رفضت محاكمة مسؤولي النظام فـ”ليس لهم سوى السيف” برأيها، علما بان النصرة سبق ان اعدمت أسرى من النظام دون ان تكلف نفسها محاكمتهم كما يفعل النظام بمجازره المتعددة. واعتبرت ان أصحاب الميثاق رضخوا لإملاءات خارجية لتغيير مواقفهم المعلنة سابقاً، وطالبتهم بالرجوع عنه او تعديله.
اما الائتلاف الوطني الذي سبق ان اعترض على “الدولة الإسلامية” مع تركها للتصويت الشعبي الديمقراطي، فقد رحب بميثاق الشرف ودعا جميع الفصائل العسكرية والثورية للتوقيع عليه!، مؤكدا ان مستقبل سوريا مع الحرية والعدالة وسيادة القانون في ظل دولة ديمقراطية تعددية يحدد شكلها كل الشعب السوري، رغم ان الحديث عن الديمقراطية وصناديق الاقتراع لم يرد في الميثاق، مما يدعو لاستغراب تناقض الترحيب بالميثاق مع تعارضه الأساسي مع اهداف الائتلاف والشعب السوري. وليس هذا الخطأ الأول للائتلاف وسلفه المجلس الوطني الذي سبق ان رفض الاعتراف بوجود تنظيم القاعدة في صفوف الثورة، الا انه عاد واعترف به مجسدا في داعش المدانة من الجميع، فيما تجاهل جبهة النصرة الفرع الرئيسي للقاعدة.
لعل وحدة القوى المسلحة للثورة رغم اختلافاتها الأيديولوجية وأهدافها المتناقضة المعلنة للمستقبل امر ضروري في مواجهة نظام متماسك ويلقى دعما خارجيا قويا، لكن ذلك يجب الا يمنع انتقاداً سياسياً واضحاً لأي برامج او إعلانات سياسية تتناقض مع اهداف ثورة الشعب السوري في الحرية والديمقراطية. فالدعوة لتطبيق الشريعة ستكون نتيجته استبداد شامل لن يقتصر على الشؤون السياسية والاقتصادية كما في ظل الأنظمة السابقة، بل سيتخطى ذلك للنواحي الاجتماعية والثقافية.
تطبيق الشريعة لا يشكل بديلاً لسياسات الانظمة الراهنة بل امتداداً لها باستبداد يستعبد الإنسان باسم الدين، رغم أن الدين في خدمة الإنسان وليس للتضييق عليه. رفض الديمقراطية وصناديق الاقتراع من قبل القوى السياسية والمسلحة الإسلامية يعني انها ستطبق برنامجها بقوة السلاح الذي تمتلكه الآن وليس بالرضوخ لرأي الشعب، أي تكرار لنظام الحكم الراهن الذي أخضع الشعب بقوة الحديد والنار لما يزيد عن خمسين عاما.
* ahmarw6@gmail.com