لا يملك أحد، من العاملين في الحقل الثقافي، إمكانية عدم التعبير عن موقف، أو انطباع ما، في لحظة رحيل غابرييل غارسيا ماركيز. وهذا ما حدث، في الواقع، على مدار الأيام القليلة الماضية. لم تبق وسيلة إعلام مرئية أو مسموعة، ولم تبق لغة في أربعة أركان الأرض، إلا وقاربت رحيل “غابو” بطريقة ما.
والمشترك، في أغلب ما نُشر بلغات ووسائل إعلام مختلفة، الكلام عن ماركيز باعتباره رائداً من روّاد الواقعية السحرية. والمشترك، أيضاً، أن الكلام عن الواقعية السحرية، غالباً ما يبقى غامضاً، دون شرح أو توضيح. فلو سألت ما هي الواقعية السحرية ربما تعددت الإجابات بعدد أصحابها. وهذه المقالة، على أية حال، محاولة للكلام عن الواقعية السحرية، ولكن من خلال نماذج تقوم مقام وسيلة الإيضاح، وتستلهم الراهن.
فلنفكر، مثلاً، في مشهد بوتفليقة، على مقعد متحرّك، في طريقه إلى صندوق الاقتراع. ولنفكر، مثلاً ومثلاً، في استعداد بشّار الأسد، للفوز بفترة رئاسية ثالثة، في انتخابات “حرة وديمقراطية تعبّر عن إرادة الشعب السوري”.
ولنبتعد عن هذا وذاك، ولنفكر في قطر، التي لا يزيد عدد مواطنيها عن سكّان مخيم جباليا، ولكنها تنفق ما في الجيب (وهو كثير) حتى يأتي ما في الغيب، لعل فيه ما يمكنها من تشكيل العالم العربي، والاستيلاء على الحواضر.
ولنقترب، قليلاً، من غزة، التي حزم أحد مواطنيها أمره، وقرر دعوة رئيس حكومتها، “لاحتساء كوب من الشاي الغزاوي في بيته احتفالاً بمولوده الجديد”. فاستجاب الثاني لدعوة الأوّل. والمهم في هذا وذاك، وبقدر ما جاء في خبر لوكالة أنباء محلية، أن الأوّل أهدى ضيفه قصيدة، فرد عليها الثاني بكتاب/هدية عنوانه “أبجديات التصوّر الحركي للعمل الإسلامي”.
لا بأس. كل ما ذكرنا لا يمثل شيئاً استثنائياً، ويمكن للقارئ ابتكار قائمة تضم ما لا يحصى من الأحداث، والأخبار الخاصة والعامة، ما ينتمي إلى حياته اليومية منها، وما تجود به نشرة الأخبار على شاشة التلفزيون، وكلها لا تمثل الاستثنائي، والخارق، وغير المألوف.
ولكن من المهم، والضروري، إدراك حقيقة أن ما ذكرنا، وما لم نذكر، يمكن أن يمثل قماشة طبيعية، وعضوية، للواقعية السحرية. وهذه ملاحظة أولى. في كل ما حولنا ما يشكّل مادة خام لما يمكن تسميته، بأثر رجعي، بالواقعية السحرية.
ولماذا بأثر رجعي؟ لأن المادة الخام، والقماشة الطبيعية والعضوية، لا تكفي في ذاتها، ولذاتها، بل هي مشروطة بشيء آخر، لتمكينها من الانتماء إلى ما يمكن تسميته بالواقعية السحرية. وهذه ملاحظة ثانية. والشيء الآخر، هنا، هو الفنتازيا، وجوهرها، وآلية عملها، الذهاب إلى ما بعد، أو قبل، المنطق، وزعزعته.
نقصد بالمنطق وجود علاقات مستقرة وثابتة بين الأشياء الحسيّة أو المجرّدة. وهذا الثبات نسبي، ومتغيّر، ولكن منظومات الفكر الشمولية، الدينية والعلمانية على حد سواء، حريصة على الاستقرار والثبات، ومعادية لاحتمال النسبية، على الرغم من حقيقة كونها فنتازيا وفنتازية، أيضاً، ومن حاجتها، بل وحتى إصرارها، في زمن التأسيس، على زعزعة المنطق نفسه.
والواقع أن أحداً من بني البشر، على مر العصور، وفي يوم الناس هذا، لم ينجُ من لعبة، وحيل، وغواية، زعزعة المنطق سواء عن طريق أحلام اليقظة، أو المنام. في الحالتين يمكن أن تنشأ عوالم سحرية تماماً، وعجائبية، ولكنها تشبه، بالتأكيد، وتُستمد من عناصر في الواقع.
وإلى هذه وتلك تُضاف فعالية التخييل على المستويين الفردي والجمعي، الكامنة في الفنون الشعبية، والأدب، وفي الأزمنة الحديثة الفنون السمعية والبصرية، التي تمكن الناس من عيش حيوات مختلفة، أو التحليق في، والتماهي مع، عوالم أخرى.
وبهذا المعنى، ثمة ما يحرّض على القول: في العقل الباطن لكل إنسان، منذ العصر الحجري، وحتى عصر بيل غيتس والإنترنت، يقيم أعظم الروائيين في الكون، ولكن عدداً قليلاً من الناس ينجح في كتابة ما يستحق الذكر، لأن زعزعة المنطق تحدث في اللغة، وباللغة، وتستدعي مهارات من نوع آخر.
نحن، إذاً، أمام ملاحظتين هما حقيقة أن كل ما في الواقع يمثل قماشة طبيعية للواقعية السحرية، لكن تحققها وتحقيقها مشروط بالفنتازيا، وهذه، بدورها، مشروطة، بالذهاب إلى ما قبل، أو بعد، المنطق.
فلنبحث عن الفنتازيا في مشهد رجل يصوّت لنفسه رئيساً على كرسي متحرّك، ربما عثر عليها الروائي في الكرسي نفسه، أو في مسعى شخص يستفتي الشعب للفوز بفترة رئاسية ثالثة، ربما عثر عليها الروائي في البراميل المتفجرة، باعتبارها من أدوات الدعاية الانتخابية.
ولنبحث عنها، أيضاً، في طموح مَنْ لا يملك موضوعيا إمكانية الفوز في حرب (يعني في الليلة الظلماء، وإذا جد الجد، وعندما يُفتقد البدر) حتى على مخيم جباليا، لكنه يحارب، في الهواء، وبدفتر الشيكات في القاهرة، ودمشق، وطرابلس، والخرطوم، وصنعاء، وتونس، وبغداد، وبيروت. ربما عثر الروائي على الفنتازيا في ما يُدره الإدمان على ألعاب الفيديو من أدرينالين في الدم.
ومسك الختام إذا وصلنا إلى خبر الوكالة المحلية مِنْ وعن غزة، إلى الشاي “الغزاوي” و”أبجديات التصوّر الحركي للعمل الإسلامي” في مكان بلا ماء ولا كهرباء ولا دواء أو حتى هواء، فإن الروائي، إذا ما حالفه الحظ، يضع يده على ما يجعل من “مائة عام من العزلة” مجرد تمرين في فن الرواية. وحينها ربما صح الكلام عن غارسيا ماركيز في غزة.
khaderhas1@hotmail.com