تمنّيت أن يكون تصريح النائب السابق مسلّم البراك في قضية توقيف جريدتي “الوطن” و”عالم اليوم” مرتبطا بالدفاع عن مبدأ الحرية وقيمة التعبير، ولكن ما كل ما يتمناه المرء يدركه. فقد شاب تصريحه نقص كبير مما أوجد شرخا في بنية المبدأ وفي جدار القيمة.
فالبراك، وقبل الأمر القضائي بإغلاق الصحيفتين لمدة أسبوعين بسبب تناولهما لقضية “الشريط” الذي كان النائب العام قد أصدر قرارا بمنع النشر فيها، هاجم الموقف الحكومي من عملية الإغلاق، غير أنه استثنى الدفاع عن حق “الوطن” في الصدور واكتفى بالدفاع عن “عالم اليوم”، وكأنه يرسم لنا مشهدا يوضح من خلاله بأن الدفاع عن حرية الرأي والتعبير من شأنه أن يتجزأ إذا خضعت معطيات تلك الحرية للمصلحة السياسية.
أي أنه لم يجد أي إحراج في صفع المبدأ وركل القيمة. في حين عرف عنه دفاعه المستميت عن العديد من المبادئ لا عن مشاهد تلك المبادئ، كونه يمثّل رمزا معارضا في الشارع السياسي.
لذلك أقول: حينما تتحول حرية الرأي والتعبير من مبدأ وقيمة إلى وسيلة، فإننا سنقودها وفق تصوّراتنا المصلحية بدلا من أن توجّهنا وترسم لنا أسس القيادة والعمل.
فحينما نحتج على استغلال السلطة السياسية لحرية الرأي والتعبير لتحقيق أهدافها ومصالحها الضيقة، فمن باب أولى أن نطلق هذا الاحتجاج ضد الآخرين الذين يعارضون توجهات السلطة ويرفعون شعار الدفاع عن المبادئ والقيم.
وبعبارة أخرى، فإن المعضلة تكمن في الآتي: في اعتبار حرية الرأي والتعبير لازمة من لوازم العمل الديموقراطي حينما تكون سلاحا بيدي، لكنها تصبح تهديدا لأمن المجتمع ولقوانينه حينما تكون سلاح الآخر ضدي.
فحرية الرأي والتعبير هي فوق هذا وذاك. هي الأصل الذي تتمخض عنه قوانين الحياة في علاقتها بمختلف العناوين، بما فيها عنوان الديموقراطية. لذا هي حاجة مجتمعية دائمة، قبل أن تكون حاجة مؤقتة سياسية أو غيرها.
فنحن لا نحتاج إليها لتنظيم عملية الغالب والمغلوب في صراعاتنا السياسية فحسب، بل هي ضرورة ثقافية لابد أن تتغلغل في جميع مناحي الحياة، ومطلب فكري يجب أن يؤثر في مختلف مجريات حياتنا الطبيعية. فلا يمكن أن تكون مشروطة بلعبة سياسية، ولا أن يتم استغلالها في جانب معين.
ولأن هذه الحرية لم تكن ولم تُصبح ضرورة ثقافية أو فكرية، فقد فضحت الكثير من المزاعم، خاصة أولئك الذين تتجه بوصلة الحرية صوبهم قبل غيرهم، بوصفهم رافعي شعارها الأساسيين والمدافعين عنها بضراوة قبل أن يتبناها أصحاب الأيديولوجيات “التكاملية” “النهائية”.
لقد فضحت المزاعم التي تُمصلح الدفاع عن حقوق الإنسان من أجل اهداف هي في المحصلة غير إنسانية، لأنها مارست التمييز تجاه مختلف صور الحريات بحجة ان لا حرية لأعداء الحرية، في حين كانت هي من هؤلاء الأعداء من دون أن تدري.
ولأن الشارع السياسي في الكويت أوجد واقعا سياسيا ثم اجتماعيا جديدا، من أبرز صوره ارتفاع سقف الشعارات الساعية إلى ديموقراطية واقعية، وبروز المظاهرات والمواجهات، واستخدام العنف، وفرز المختلفين في إطار عناوين سياسية/ اجتماعية متمايزة، ورفع قضايا، والسعي للقفز على القانون من أجل معاقبة البعض… كل ذلك أدى إلى شحن المجتمع وانقسامه بصورة لم يشهدها من قبل، وهو ما هدّد عناوين مبدئية أساسية، كعنوان حرية الرأي والتعبير.
ولا تتوانى السلطة السياسية، التي هي صاحبة النفوذ الأكبر، في ظل النظرة المطلقة التي تسود ثناياها، في إلقاء أسباب ذلك الشحن على الشارع السياسي وعلى الشعارات المرفوعة والمطالب المرجوّة. لكني لا أبرئ العديد من المنتمين إلى حراك الشارع السياسي من مسؤولية تأجيج الشحن.
ولأن حرية الرأي والتعبير كحاجة مجتمعية، لا فقط سياسية، يفتقدها الكثيرون، ويتعمّد البعض تجاهلها، بل جعلها متناقضة حفاظا على مصالحهم ودفاعا عن مكتسباتهم، لكنها تعتبر مدخلا مهما لخفض الشحن. فالسلطة لن تقدِم على أي خفض ما دام ذلك يفقدها مصالحها ويجبرها على تقديم تنازلات سياسية. بينما الشارع السياسي قادر على تبنّيها بكل أريحية، بل لابد أن يتبناها بصورة مبدئية قيمية، كونها تتوافق مع الشعارات والمطالب التي يرفعها، ولأنها المدخل لتبني عملية التسامح والتعايش بمختلف عناوينه التي يحتاجها مستقبل البلاد.
كاتب كويتي
fakher_alsultan@hotmail.com