لماذا ينبغي التوّقف أمام قتل الطفل الفلسطيني، في حلب، على يد عصابة من الوحوش الآدمية؟ لأنه فلسطيني؟ هذا جائز، ولكنه ليس كافياً، فلا يحق لهوية طفل أن تميّزه عن ضحايا آخرين فتكت بهم وحوش آدمية. وماذا عن أطفال السوريين، والعراقيين، والليبيين، واليمنيين، والأفارقة، والأميركيين والفرنسيين والبريطانيين، الذين قتلهم الوحش بالسكين أو العبّوات الناسفة؟
في المشهد ما هو أكثر من الهوية. فيه العجز المُطلق لطفل جريح، تملكه الذعر، وآخر أمنياته في حياة لم يبق منها الكثير، أن يموت برصاصة في الرأس، لا بسكين تجز العنق. وفيه نشوة القتل على وجوه الوحوش الآدمية، وجوه ملتحية وباسمة ابتكر أصحابها لأنفسهم مسرحية مثّلوها وأخرجوها، وصوّروها، وسط تكبير يقوم مقام الموسيقى التصويرية، وحوار بين الضحية والجلاّد، الذي يُلوّح بسكينه مرّة، وبرأس الطفل ـ الضحية مرّة ثانية.
القتل، في نهاية الأمر، هو القتل. والموت هو الموت. فالنتيجة واحدة، وإن تعددت الوسائل. كان من الممكن قتل الطفل بعيداً عن عدسة الهاتف المحمول، بلا مسرحة لفعل القتل، ولا تكبير، ولا تهليل، ولا تمثيل. ولكن ما يضفي على هذا القتل المسرحي خصوصيته أنه يُترجم شهوة، ويمكّن صاحبها من نشوة لا تدانيها نشوة المخدرات أو الجنس. في المشهد، إذاً، ما هو أبعد من القتل.
وهذا، على أهميته، لا يستنفذ ما يعتمل في المشهد من دلالات. فالوحوش الآدمية، التي فتكت بطفل جريح، تنتمي إلى جماعة تُسمى “حركة نور الدين زنكي”. وهذا شخص آخر، في قائمة طويلة من الشخصيات في كتب التاريخ، التي يسدد قرويون وفقراء مدن، وعاطلون عن الأمل والعمل، على جانبي خطوط القتل والقتال في سورية القرن الواحد والعشرين، ثاراتها فيَقتلون ويُقتلون باسمها، ونيابة عنها، ويواصلون غزواتها، في حرب وهمية ومُتوهّمة منذ ما يزيد عن ألف عام.
ينحدر نور الدين زنكي من سلالة تركية. حكم حلب في القرن الثاني عشر للميلاد، وقاتل ضد الحملة الصليبية الثانية، وأسقط الدولة الفاطمية في مصر، أي قضى على المذهب الشيعي، وثبّت المذهب السني في مصر وبلاد الشام. ولأمر كهذا أهمية استثنائية في هذا الزمن الأغبر، بالتأكيد.
في سيرة المذكور، إذاً، من العبّوات الأيديولوجية المتفجّرة، ما يكفي لنسف عالم بأكمله. وفي مجرّد أن يرسو العطاء، في تنظيم ما، على اسم كهذا، في سياق صراع سياسي على السلطة بين شعب يريد الحريّة، ودكتاتورية آل الأسد، ما ينطوي على دلالة السلعة والتسليع بقدر ما فيه من دغدغة لمشاعر السلطان العثماني في أنقره، ومشاعر الوهابيين السعوديين، الذين يكنون عداءً للشيعة يتاخم حد العُصاب المرضي. وهذا وأولئك، إضافة إلى الموالي الإيرانيين وآل الأسد، مَنْ أسهم في تشويه طبيعة الصراع في سورية وعليها، من سوري ـ سوري إلى إقليمي ودولي، ومن سياسي إلى مذهبي، ومن سلمي إلى مُسلّح، ومن مُسلّح إلى مسلخ بحجم البلد.
ومع ذلك، العبّوات الأيديولوجية المتفجّرة ليست حكراً على معسكر دون غيره في سورية (وكل مكان آخر في العالم العربي) فحزب الله اللبناني، مثلاً، يطلق على قتلاه في سورية تسمية « الشهداء الزينبيين ». ولسائل أن يسأل: وما علاقة زينب بصراع سياسي على السلطة في القرن الواحد والعشرين؟ ألا تعزز تسمية كهذه فرضية الإيحاء بحرب لم تتوقف منذ ما يزيد عن ألف عام؟
يجدر التفكير في سؤال كهذا بطريقة مغايرة. فلنقل: هل يحق لأحد من الأحياء، في عالم اليوم، أن يَقتل ويُقتل باسم، ونيابةً عن، شخص مات قبل ما يزيد عن ألف عام؟ وإذا حدث وفعل، فهل تكون الحرب حقيقية أم وهمية ومتوّهمة، أي مجرد قناع لرهانات وتناقضات اجتماعية وسياسية، أنجبها الواقع الحي، لا ما تراكم من جثث في ذاكرة التاريخ؟ وكيف ولماذا تضيع ملامح الوجه تحت القناع، ويصبح القناع مُقنعاً إلى حد يضيع معه الفرق بين الواقع والوهم؟ كيف يستولي القناع على الوجه؟
من الحماقة التفكير في احتمال أن يكون أحد من الوحوش الآدمية، التي فتكت بالطفل الجريح مطلعاً على سيرة « زنكي »، أو غيره، أو أن يكون كائناً سنّياً، فهذا الكائن خرافي (بمعايير السوق، والتبادل، والمهنة، والطبقة، والنوع الاجتماعي، والثقافة) كما الكائن « الزينبي »، الذي لا يوجد إلا في خيال صانعيه. هذا لا يعني أن الكائن الخرافي لا يعاني من غواية استيهام كهذا، بل يعني أن هويته المُتوّهمة ملتبسة، وعصية في العلم الاجتماعي على التعريف.
وإذا كان ثمة من ضرورة لخلاصة، فإن الصراع في سورية وعليها، كما في العراق، وليبيا، واليمن، وأفغانستان والشيشان، وباكستان، وفي بلاد لا نعرفها لكنها ستلتحق بالقائمة في وقت ما (ما لم يتم تدمير الوحش شخصاً ونصاً، وتفكيك العبّوات الأيديولوجية المُفخخة في الفقه والتاريخ)، أنجب هذا النوع من الهويات الملتبسة، والكائنات الخرافية، فتحوّلت إلى وحوش آدمية تملكها وهم الانخراط في تاريخ مُقدّس.
الاستيهام لا يكفي لصناعة الوحش، والقداسة ليست أكثر من قشرة خارجية، ولا ينبغي أن تحجب قابلية العنف للعدوى كالأمراض السارية، والإقامة على جانبي خط التماس، وأن الوحوش الآدمية تحتاج إلى تسلية من نوع ما، وإلى إشباع حسَّ تبلّد، بمحاولة استنفاذ كل الوسائل الممكنة، حتى وإن كانت مَرضية ومريضة، للإشباع، في واقع يمثل الموت لعبته ووسيلته لإنشاء صلة من نوع ما بالحياة.
في مشهد الطفل الذبيح نرى الطريدة والوحش ضحايا حاضر تعفّن تحت قناعٍ فيه من العبّوات الأيديولوجية ما يكفي لتدمير العالم.
khaderhas1@hotmail.com