بعض اللاجئين استأجروا شققاً، آخرون يعيشون في فنادق أو نُزُل، بعضهم انتهى بعد عبور الحدود إلى المخيمات التي تُشرف عليها المنظمات غير الحكومية والحكومة التركية، وأخيراً، أولئك الذين هربوا من سـوريا أيضاً بلا أي شيء، إلا ما حصَّلوه في الأشهر الأخيرة، يعيشون في حالة من النسيان.
خارج كلِّس (تركيا) أقام عدد غير محدد من السوريين مخيماُ قبل شهرين. بعضم مضى عليه أكثر من عام في المكان، آخرون وصلوا قبل يومين، والآن كلهم يعيشون في حديقة أحمد ايدغلو. أسسوا قرية من الخيام بسقوف من البلاستيك المستعمل وعوازل من الكرتون. عندما تمطر، كما في الليلة الماضية، تتداعى بيوتهم الجديدة من كل الجوانب ويكون عليهم أن يبنوها مرة أخرى. حياتهم تدور من حولها، يجلسون، يتحدثون، يدخِّنون، وينتظرون. استوعبت مدينة كلِّس قدر استطاعتها آلافاً من اللاجئين الذين هربوا من الحرب بأعداد كبيرة، ولم يكن للجميع الحظ نفسه. حركة النزوح في الصيف الماضي أرهقت السلطات التركية، التي لم تجد، وربما لم تبحث، عن حل بهذا الخصوص. في مخيم المقصورات الذي أقيم على الحدود مع ســوريا، على بعد كيلومترات قليلة من هذه الحديقة، يتلقى اللاجئون الطعام والعناية الصحية. هنا، وسط الطريق والأبنية نصف المشيدة، لا يتمتعون بهذه الامتيازات الصغيرة. غادروا وطنهم بلا أي شيء ويعيشون الآن بلا أي شيء. يشترون الطعام من المدخرات القليلة التي يملكونها، لم يزرهم أي طبيب منذ أن جاؤوا إلى هنا وللوصول إلى المستشفى الأقرب يسيرون كيلومترين على الأقل.
من الواضح أنه ليس لديهم أماكن مخصصة للنظافة الشخصية ولا الحاجات الأساسية ومطابخهم ارتُجِلَتْ بأربع قطع من الخشب والحجارة.
مهجورين وغير مطلعين. لا يعلمون ماذا سيفعلون بهم و لا إذا ما كانوا سيحصلون على أي نوع من المساعدة، لا أحد يقول لهم شيئاً. رغم ذلك، ما زالوا مضيافين، لطفاء وكرماء، كرماء جداً. قد يبدو جواً عدائياً بسبب خشونتهم للوهلة الأولى، لكنهم يفتحون لك أبواب بيوتهم بدون أن يطلبوا شيئاً في المقابل. عند الدخول إلى المخيم يتدافعون نحو الكاميرا، يقدمون الشراب وقطعاً من الطعام، يهتمون بك، من أين جئت وماذا تعمل. في الحال يقدم لك أحدهم نفسه للقيام بدور الدليل، يرطن بأربع كلمات بالانكليزية ويساعدك في البحث عن آخر يتحدث أفضل منك. يعيشون في فقر أقصى، في شك ميما سيحدث لهم، لكن مع روح دعابة تساعدهم على الصمود. يشيرون إلى بيوتهم، إلى جبال القمامة المتراكمة والأطفال. يرونك حياتهم الجديدة، يريدون أن يشاهد الناس ذلك وأن يعلموا بما يحدث، ومن ثم، يتحركون لمساعدتهم.
يبدو أن الطبقات الاجتماعية حاضرة أيضاُ داخل مجموعة اللاجئين، حيث، ليس بسبب التمييز، وإنما بسبب التراكم، يناضل البعض أكثر حتى من البعض الآخر ليجدوا ما يعينهم على الخروج من التدهور الاجتماعي والمادي والشخصي الذي يغرقون فيه.
الرامي، مدينة الأشباح
عدنا اليوم إلى مستوطنة اللاجئين في حديقة أحمد ايدغلو. هنالك استقبلَنا أحمد، ثمانية عشر عاماً، وأسرته، جميعهم من إدلب، غرب حلب. في خيمته ينام ستة، هو، أشقاؤه الثلاثة، والوالدان. باستقبال مهذب بقدر ما هو صادق قاموا بدعوتنا للدخول وقدموا لنا القليل الذي لديهم. في الداخل، مع جمال ومأمون، اثنان وعشرون عاماً وعشرون عاماً على التوالي، تحادثنا، سواء معهم أو مع أقربائهم، حول أوضاعهم الشخصية وتجربة مغادرتهم لمدينتهم.
مع أحمد وجمال كمترجمين من العربية إلى الانكليزية قدموا لنا محمد الحمود، ثلاثون عاماً، الآتي من مدينة الرامي، جنوب غرب إدلب. من خلال المعابر الحدودية الخطرة التي لا يسيطر عليها الجيش التركي، وصل قبل عام إلى كلِّس (تركيا). قصة بلدته الصغيرة مرعبة حقاً. بدون تردد، يروي لنا عن الأيام التي أصبحت فيها الثورة قوية، وعن اللحظة التي ضربت جذورها بعمق، والأمل الذي أثارته. الآن، في العام الثالث من الحرب، لم يبق أحد في الرامي.
يعيش محمد الآن مع أسرته وعشرات من الجيران الذين هربوا من شوارع تحولت إلى ميادين إعدامات بالرصاص روتينية. في “الرامي” مفرزة لجيش الأسـد تستند إلى قاعدة مناطقية، وعند بداية الحرب، صارت مصدر عذاب من قمع بلا نهاية. قُتل السكان بشكل عشوائي، “بدون أي سبب على الإطلاق”، يعلق بلا تردد. كانت الدبابات تدخل في كل وقت إلى المدينة والقنابل تتساقط بشكل متواصل. لم يكن بوسع السكان أمام هذه الوحشية إلا الهروب. عمل هو مع الجيش السوري الحر ناقلاً الأسلحة والوقود، مراعاةً للظواهر تقريباً أكثر مما هو إيمان أعمى بهم، حسبما تدل عليه كلماته. في رحلة إلى دمشق لزيارة شقيقه السجين تم اعتقاله بدون سبب ظاهر، إلا أنه استطاع الخروج حياً من السجن بعد فترة قليلة. الآن هو، كما بقية السكان الباقين على قيد الحياة، يعيش في واحدة من خيام البلاستيك والكرتون، من دون شيء يفعله ومن غير مكان، أفضل أو أسوأ، يذهب إليه.
فيما يدخل أحمد مرة أخرى إلى الخيمة مظهراً الأرغفة الأربعة من الخبز التي “أعطونا إياها للمرة الأولى”، مؤكداً بتهكم، نسأل محمد عن رأيه حول ما حصل، وبالرغم من عدم جدوى ذلك في الوقت الحاضر، أن يقول لنا فيما إذا كان سيغير بعضاً من الأمور التي قام بها. جوابه لا ينم عن شيء، ما يهمه حقيقة، فيما وراء الماضي أو المستقبل، هو “العودة إلى الحالة الطبيعية، إلى العمل، إلى الحياة في قريتي”. لا يريد المزيد من القصص عن القناصة المخبولين أو عمليات القصف على الأسواق، يريد أن يكون مطمئناً. تأكيد يوافق عليه بهز رؤوسهم كلُ الحاضرين. وبينما يروي الجميع حكايات مأساوية، مذابح، ونكات مروعة، مع كأس من البيبسي وكيس من البطاطا، فإنهم يكررون أن “الشيء الوحيد الذي نريده هو الحياة الطبيعية”. إن شاء الله.
الله أكبـر
في شمال كلِّس (تركيا)، باتباع الطريق الوحيد الذي يصل المدينة ببقية البلاد، كان يقام مخيم لاجئين جديد من قبل الحكومة التركية. الخيام مشابهة لتلك التي في مستشفى ميداني، مع رمز الهلال الأحمر، المعادل للصليب الأحمر، منتظمة كلها في أقسام مختلفة. من الطريق كان المخيم يُلمَحُ منتهياً، حتى إنه قيد التشغيل، لكن النزلاء الوحيدين في الوقت الراهن هم عمال يضعون اللمسات الأخيرة. حسب الأخبار التي وصلتنا يبدو أن المستوطنة الجديدة بدأت تعج بالناس، استقبلت مئات اللاجئين السوريين الذين كانوا يعيشون بشكل سيء في الحديقة التي زرناها قبل مدة قصيرة في ضواحي كلِّس. في الأيام القادمة سنذهب لنلتقي بهم من جديد، الآن وقد أصبحوا تحت سقف ثابت.
فجأة وبسرور كبير تلقينا الخبر، كما تلقوه هم حسبما نفترض. إنه ما كانوا يطلبونه، الشيء الوحيد، أن يمكنهم العيش شاعرين بأنهم أفراد من البشر وليسوا حيوانات متوحشة. سقف يحميهم من رداءة الطقس، جدران وأرض لتجنب البرد الذي يلوح في الأفق، وطعام من أجل البقاء لا أكثر. وجوههم المندهشة والمنفرجة كانت يجب أن تكون غير مصدقة لدى رؤية الحافلات التي حملتهم إلى بيوتهم الجديدة، ذلك أنهم قضوا الصيف كله يتساءلون عن موعد وكيفية انتقالهم إلى مخيم “شرعي”، تحت سيطرة وإشراف هيئات رسمية ومنظمات غير حكومية. المعلومات المضللة كانت تقتلهم أكثر تقريباً مما يفعل بؤس حالهم، كانوا يشعرون بأنهم مشردون، بل أكثر إذا أمكن، ومنسيون. كما أشرنا إلى ذلك في أيام سابقة لم يكن قد زارهم أحد ولم يكن هناك من يتوجهون إليه للحصول على أجوبة أو للتعبير عن شكاواهم. كانوا قد وطنوا أنفسهم على البقاء لزمن طويل والعيش بين الأشجار والموارد العمومية، كما تُظهِر ذلك بعض الأرضيات التي صنعوها من البلاط لتبعد عنهم البرد. كانوا يعلمون أنه بالرغم من أنهم لم يكونوا يريدون ذلك النوع من الحياة فإن القضايا الإنسانية ليست دائماً دافعاً للتحرك الفوري، وخاصةً عندما أعطت الحكومة التركية إشارات على أنها ستنقص المساعدة للاجئين شيئاً فشيئاً، ذلك أنها كما تقول أصبحت مثقلة بما يفوق قدرتها.
اليوم، لا أحد منهم، لا أحمد ولا مأمون ولا جمال ولا محمد ولا حتى عائلاتهم على الأرجح، كان على علم بأنهم سينقلونهم. يُظهِر ذلك حالة حديقة أحمد ايدغلو، فيما وراء مدفن النفايات الذي تحولت اليه، حيث نستطيع العثور على الأحذية، قطع من الثياب، كرات أو أكياس من الفليفلة وأكواب على الأرض، صورة تُظهِر كل شيء مضطرباُ بسبب العجلة. كل ما عدا ذلك، بما فيها الأغطية بطبيعة الحال، اختفى. صفوف الخيام البلاستيكية المتتالية، الأطفال المتراكضون طيلة اليوم، النقاشات النموذجية للجيران أو الوجوه الحزينة للبعض مختلطةً مع لطف وابتسامات البعض الآخر. لقد انتقلوا، لحسن الحظ، إلى مكان أفضل. في الوقت الحالي بقيت أطلال ما كان منزلاً اضطرارياً لعائلات بكاملها أُجبِرت على الخروج من بلادها. ما بقي، إضافة إلى القمامة، هم عمال ينظفون المنطقة، أطفال يعيدون البحث في القمامة، رجال شرطه يراقبون المداخل، وقطط، عشرات من القطط.
بالرغم من أنها خيمة في منتصف اللا مكان، في بلد ليس لك، بدون وسائل الراحة في منزلك، بدون عائلتك كاملة، في غياب الأصدقاء، مع الذكرى الرهيبة لكونك عشت ثلاثة أعوام دامية من الحرب، ورحلة حزينة إلى المنفى، وأن يكون عليك أن تعيش في الورق المقوى (الكرتون) علاوة على ذلك، فإن الكثيرين منهم اليوم سيكون لديهم سبب للصمود أطول وقت ممكن. اليوم، لمجرد أن أحداً ما قد فكر فيهم وقدم لهم المساعدة سيقولون الله أكبر وسيكونون، بالرغم من عدم حصولهم على كل ما تم وصفه آنفاً، أكثر سعادة بقليل.
ترجمة: الحدرامي الأميني