السلطان العثماني سريع التأثر والغضب، وغالبا ما تفشل عضلات وجهه، ونظرات عينيه، ولغة جسده، في التحكّم بما يجيش في صدره من انفعالات. لذا، ينطوي سلوكه، في المحافل العامة، على قدر كبير من الأداء الدرامي، فتدمع عيناه، أحياناً، أو يرسم بكفه شارة “رابعة” تعبيراً عن التضامن والتماهي مع جماعة الإخوان.
وقد تحوّلت هذه الشارة إلى ما يشبه البديل “الإسلامي” لشارة النصر، التي ابتكرها تشرتشل في الحرب العالمية الثانية. وهذا مهم على نحو خاص، ففي كل محاولة للمغايرة والتميّز عن الغرب “الكافر” يتجلى الحقل الدلالي والرمزي في مخيال الإسلاميين، بصرف النظر عن تسمياتهم وراياتهم، بوصفه مرشحاً للنقد والنقض بدءاً من الشكليات، وتوافه الأشياء، وانتهاءً بمعنى الفرد، والدولة، والمجتمع.
وإذا عدنا بالذاكرة إلى شواهد التاريخ، في الشرق والغرب، سنجد الأداء الدرامي، ونـزعة المغايرة، على رأس قائمة المؤهلات، التي مكّنت ساسة مسكونين بوهج السلطة، ونداء القدر، من استنفار وتجنيد عواطف شعبية جيّاشة، واستثمار أحلام وأوهام الخلاص، في مشاريع قيامية، ارتفعوا بها إلى مرتبة الزعيم الأوحد، وانتهى الأمر بالأكثر إفراطا منهم في دور المُخلّص، إلى فتح أبواب الجحيم.
لذا، وبقدر ما للأداء الدرامي، وحس المغايرة، من رصيد ومردود في سياسات الشعبوية، فإن في ميراثهما التاريخي ما يبرر سماع أجراس تُقرع حتى وان بدت واهنة الصوت والصدى، والبحث في المُعتم، والمُلتبس، الذي لم تكتمل ملامحه النهائية بعد، عن إشارات حمراء تنبئ بخطر من نوع ما. ولعل في المحاولة الانقلابية، على النظام الأردوغاني، قبل أيام، وما رافقها وأحاط بها ونجم عنها من تداعيات، ما يصلح كوسيلة إيضاح.
فلنلاحظ، مثلاً، أن البعض يرى في المحاولة الانقلابية مؤامرة أردوغانية لتصفية الخصوم العلمانيين، والمنافسين في المعسكر الديني نفسه، على طريق الاستفراد بالسلطة والزعامة المُطلقة، وتحقيق المشروع العثماني الجديد. والواقع أن في مجرد شيوع وتداول فكرة كهذه، ونجاحها في إقناع البعض، ما يوحي بأن صدقية السلطان العثماني لا تشكو ندرة ما يبرر الارتياب لدى قطاع واسع من الناس في تركيا وخارجها.
يصعب، وبقدر ما أرى الأمر، قبول فرضية المؤامرة الأردوغانية. وفي الوقت نفسه، يصعب دحض شواهد وبراهين محاولة الاستفراد بالسلطة والزعامة المُطلقة، وشبهة المشروع العثماني الجديد، على مدار سنوات مضت. ولعل في متانة شواهد كهذه ما يُسوّغ للقائلين بنظرية المؤامرة الاعتماد عليها لوضع المحاولة الانقلابية في سياق سياسي مُحتمل.
والواقع أن سلوك السلطان العثماني، ونـزعته الثأرية، بعد المحاولة الانقلابية، يُزوّدان أصحاب نظرية المؤامرة بقرائن إضافية. ففي اعتقال آلاف العسكريين والقضاة (على الرغم من صعوبة التدليل على انخراط القضاة في المحاولة الانقلابية)، وفي دغدغة عواطف الأنصار والمؤيدين بضرورة العودة إلى عقوبة الإعدام، وفي مجرّد استخدام تعبير “الخونة”، وضرورة تطهير البلاد من “الفيروس”، ما ينطوي على كل العلامات المُحتملة لصعود فاشية جديدة.
ولعل في هذا ما يعيدنا إلى بدأنا به عن تجنيد الشعبوية في مشاريع قيامية، وخطورة أشخاص تملكهم جوع السلطة، وتوهموا سماع نداء التاريخ. لا يوجد شيء اسمه ديمقراطية إسلامية. هذا ما يمكن أن يُقال وفي الذهن آلاف الكتب، والمؤتمرات، والدراسات، والبيانات، والسجالات، في الشرق والغرب، على مدار أربعة عقود مضت، عن العلاقة بين العلمانية والدولة الحديثة، وعلاقة الدين بالديمقراطية (بتعبير المُفكر العربي، طبعاً)، وما نال النموذج التركي من مديح، وما عُلّقت عليه من رهانات وآمال.
والمفارقة أن النموذج السلطاني العثماني الجديد يتطوّع بتقديم الدليل على أمر كهذا. فقد لعب الناس الذين تحدوا نظام الأحكام العرفية، والبيان الأوّل للانقلابيين، دوراً مؤثراً في إحباط المحاولة الانقلابية. وبين هؤلاء مَنْ ليسوا أنصاراً للسلطان، بالضرورة، فأحزاب المعارضة عارضت الانقلاب، إضافة إلى غير المتحزبين مِنْ المناوئين لعودة الجيش إلى السلطة. وحتى الجيش يصعب التدليل على وجود إجماع في مختلف مراتبة وقياداته على فكرة الانقلاب. فلو توفرت مسألة كهذه، لكنا نقرأ في الصحف، الآن، مراثي السلطان، وأنصاره.
أما دوافع الانقلاب فمن السابق لأوانه القول إنها كانت دفاعاً عن علمانية الدولة، أو بتحريض من جماعة مناوئة في المعسكر الديني، أو كانت دفاعاً عن الديمقراطية في وجه نظام تسارعت تجلياته البوليسية منذ العام 2008.
الأكيد أن فشل مغامرات السياسة الخارجية على كل الجبهات، بما فيها اللعب بورقة الجماعات الإرهابية، تضافر مع ما ترى فيه شرائح واسعة من الأتراك خللاً في السياسة الداخلية: فتح جبهة مع الأكراد، وموجة العمليات الإرهابية، والمحاولات المتلاحقة لتقليص الحريات العامة، وتشديد القبضة الأمنية، وسياسات التعبئة والتحريض الشعبوية، وقضم ما يمكن قضمه من علمانية الدولة الكمالية. فكل ما تقدّم لا يمكن استبعاده من قائمة الدوافع الرئيسة للانقلابيين.
ولو افترضنا، نظرياً، أن السلطان تمكّن من قراءة المحاولة الانقلابية بطريقة صحيحة، فإن أوّل ما ينبغي أن يُرى من دلالات يتمثل في وجود مزاج عام مناوئ ـ في المجتمع، والدولة والجيش ـ للانقلابات العسكرية. وثاني ما يستدعي التفكير والتدبير أن المحاولة الانقلابية نفسها علّقت الجرس في عنق القط، فثمة أخطاء خارجية وداخلية حرّضت على ما ليس منه بد. الخلاصة في الحالتين: الديمقراطية من ضمانات البقاء، والنقد الذاتي من ضرورات النـزاهة الأخلاقية والسياسية، والعفو عند المقدرة من علامات القوي الحكيم.
ولعل في كل قراءة مغايرة للحالتين ما يعزز احتمال الفاشية، ويقلل فرص السلم الأهلي. ومن الواضح، حتى الآن، أن السلطان العثماني يرى بعينين مغايرتين، ويستسلم لانفعالات توجتها غواية الثأر، بالقدر نفسه من حس المغايرة والأداء الدرامي. وفي هذا وذاك مبرر الكلام عن تركيا، وأردوغان، طبعاً.
khaderhas1@hotmail.com
هنالك الاستاذ جورج كتن يكتب بموضوعيه ودون انتماءات
الواضح انه من رابع المستحيلات ان ترى اعلامي او صحفي او كاتب عربي يلتزم بالموضوعية والحيثيات الموءثره بالموضوع المتناول فالشيوعي يكتب ويحلل ويستسهب من منظار أيديولوجيته كما الإخوانجي كما الشيعي كما العلوي كما المسيحي كما كما الخ الخ الخ…..لذلك نحن صامدون في الجهل والتطرف والانحطاط…..كتب احدهم قبيل الانتخابات الاخيره في تركيا ان اردوغان سيخسر، ناسيا الاستقطابات المريضه في المجتمع التركي وتظاهر العلويين تأييدا للسفاح السوري كذلك الامر مع الأكراد والأقليات المسيحيه وما يترتب عليه من رده فعل وريبه السنه الأتراك وتدافعهم لانتخاب اردوغان السني، خاصه بعد ما شاهدوا بطش النظام السوري الطاءفي بامتياز.