تفيد الذريعة، التي يسوقها بعض منتقدي الإطاحة بحكم الإخوان، أن استخدام كافة أشكال الضغط الشعبي، وتعبئة الرأي العام، لإرغام الرئيس الإخواني على الدعوة لانتخابات رئاسية مبكّرة، كان خياراً أفضل من تدخل الجيش في العملية السياسية، وأضمن لمستقبل الديمقراطية في مصر. وهذه الذريعة تعتمد على فرضية مفادها أن أشكال الضغط الشعبي، وتعبئة الرأي العام، كانت مضمونة النتائج، حتى وإن احتاج الأمر إلى وقت أطول.
ويمكن الرد على هذه الفرضية بالقول إن الرئيس الإخواني لم يُظهر أدنى قدر من المرونة في التعامل مع الدعوة لانتخابات مبكرة، بعد حملة “تمرّد”، التي أيدها ملايين من المصريين، وبعد المهلة الأولى التي طرحها الجيش، وبعد مظاهرات الثلاثين من حزيران، التي شاركت فيها الملايين، وبعد مهلة اليومين. وفوق هذا وذاك، ما تزال عودته إلى كرسي الرئاسة شرط الإخوان الأوّل لوقف أعمال الاحتجاج، وشل الحياة العامة، وتكدير السلم الأهلي، والعنف.
عبّر عن هذه الفرضية، ودافع عنها، أشخاص لا يمكن التشكيك في نواياهم الوطنية، ولا في تحفظاتهم على حكم وأداء الإخوان في الحكم، ولا في إيمانهم بالديمقراطية. ومع ذلك، أعتقد أنها فرضية خاطئة. وبالقدر نفسه، أعتقد أن التركيز على فرضية كهذه، يشبه التحديق في الشجرة، وتجاهل الغابة.
والمقصود بهذا الكلام أن قوتين في مصر كانتا في سباق مع الزمن: الإخوان، الذين يحتاجون إلى مزيد من الوقت للاستيلاء على الدولة، والجيش الذي أدرك أن المزيد من الوقت يمنح الإخوان فرصة أفضل للفوز.
وما من معنى للاستيلاء على الدولة دون السيطرة على أدوات القوّة (الجيش، الأمن، الشرطة)، التي تكتسب شرعيتها من كونها ملكية حصرية للدولة، وتُستخدم باعتبارها حقاً من حقوقها. وبالتوازي مع رهان، وطموح، ومساعي، السيطرة على أدوات القوّة، حاول الإخوان تحويل سيناء إلى محمية طبيعية لجهاديات إرهابية مختلفة، لتقوم مقام الميليشيا الخاصة، التي يمكن التلويح بورقتها كلما اقتضت الحاجة. بمعنى أنهم ساروا في طريقين متوازيين: محاولة التغلغل في الجيش، والأمن، والشرطة، ومحاولة حشد ميليشيا خاصة.
ولا ينبغي التقليل من جدية، وخطورة، مسعى، وطموح، وإرادة الاستيلاء على أدوات القوّة. فمن يجلس على مقعد الرئاسة في مصر يملك صلاحيات، وسلطات، واسعة، بما فيها منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وفي المقابل، لم يأخذ الجيش على محمل الجد تطمينات الإخوان، ومزاعم الحرص على عدم التدخل في بنية، واستقلالية، وتوجهات، أدوات القوّة المملوكة للدولة المصرية، كما أسهم سلوك الإخوان إزاء مؤسسات راسخة مثل القضاء في تعزيز مشاعر الشك والقلق. وقد تفاقمت هذه المشاعر على نحو خاص بعد محاولات، ذكرها الأستاذ محمد حسنين هيكل، لاختراق الجيش ومؤسسات أخرى.
وما كان لمشاعر كهذه أن تجد ما يبررها لو لم يصل أداء الإخوان إلى الحضيض، خاصة في موضوع الدستور، وسد النهضة في أثيوبيا، ومؤتمر نصرة سورية في القاهرة، الذي رُفعت فيه أعلام القاعدة. ناهيك، طبعاً، عند تدهور الوضع الاقتصادي، وتفشي مظاهر الفوضى.
وما كان لمشاعر كهذه أن تجد ما يبررها، أيضاً، لو لم تنجح حركة “تمرّد” الشبابية في إقناع ملايين من المصريين بالتوقيع على وثيقة تدعو لسحب الثقة من الرئيس الإخواني. وما كان لمشاعر كهذه، أيضاً وأيضاً، أن تجد ما يبررها لو لم يكن الجيش مؤسسة وطنية كان وجودها ركناً من أركان بناء الدولة الحديثة في مصر، ولو لم تكن للوطنية المصرية نفسها خصوصية فريدة.
لذا، وفي سياق كهذا، فقط، يمكن النظر إلى معنى ومبنى انحياز الجيش إلى المصريين، الذين تظاهروا، بالملايين، ضد حكم وسلطة ومشروع الإخوان في مصر. وفي سياق كهذا، أيضاً، تبدو فرضية إرغام الرئيس الإخواني، بالضغط الشعبي، على الدعوة لانتخابات رئاسية مبكّرة، خيالية تماماً، والأسوأ أن من شأنها منح الإخوان ما كانوا يحتاجونه من وقت لاستكمال عملية الاستيلاء على الدولة، والسيطرة على أدوات القوّة.
ولنفكر في فرضية مضادة: ماذا لو تمكّن الإخوان من السيطرة على أدوات القوّة؟
لو حدث ذلك لفتكوا بالمصريين، ودخلت مصر في نفق معتم طويل ينفتح على احتمالات كثيرة من بينها تحلل سلطة الدولة، وتخريب الهوية المصرية، والحرب الأهلية.
التفصيل الأخيرة في صورة الشجرة والغابة: مشروع الإخوان في مصر لم يكن مصرياً خالصاً، بل كان ترجمة لطموحات قوى إقليمية، ودولية، إلى جانب قوى غير دولانية، عابرة للحدود والقوميات. لكل تلك القوى مصالح لا تتفق، بالضرورة، مع القوى الأخرى، لكنها تلتقي معها في نقاط من بينها أن الاستيلاء على مصر يمثل الجائزة الأهم في كل تاريخ الإسلام السياسي.
وهذا يفسر، في جانب منه، السلوك الانتحاري للإخوان وأنصارهم في مصر: تهديد الأمن القومي، وشل الحياة العامة، وتكدير السلم الأهلي، وشن عمليات إرهابية، في محاولة لاستعادة السلطة. ويفسر، في جانب منه، أيضاً، سعار القوى الإخوانية، والمتعاطفين معها (السياسي والإعلامي) في الإقليم والعالم.
كما ويفسر، أيضاً وأيضاً، حقيقة ما حدث ويحدث في مصر: الجيش أنقذ مصر عندما انحاز إلى شعبها، وتُخاض اليوم في مصر وعليها معركة العالم العربي كله لدحر الموجة الإسلاموية، التي سرت واستشرت منذ أواسط السبعينيات، ففككت دولاً، وخرّبت مجتمعات، ودمّرت وطنيات، وأشعلت أكثر من حرب أهلية. لذا، الحرب في بر مصر المحروسة حربٌ عليها وعلينا.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالكلام عن مستقبل الديمقراطية فلنقل حين نرى الشجرة الغابة معاً: مصر فازت، والديمقراطية لم تخسر.
khaderhas1@hotmail.com
كاتب فلسطيني
مصر فازت، والديمقراطية لم تخسر..!!
شكرا للاستاذ حسن خضر على تحليله المنطقي وعلى عدم اندفاعه وراء المظاهر ضاربا عرض الحائط بالحقائق كما يفعل الكثيرون اليوم ممن يريدون الظهور بمظهر المدافعين عن الديموقراطية في حين يخدمون دكتاتورية تتخذ من الدين غطاء لفرض اشد انواع الدكتاتورية.