خلال عقود الطفرة النفطية إبتداء من منتصف السبعينات لوحظ أن نصيب الهند من كعكة المشاريع التنموية وتجديد البنى التحتية في المملكة العربية السعودية كان متدنيا مقارنة بنصيبها من هذه الكعكة في دول أخرى في المنطقة مثل الكويت والإمارات وإيران والعراق. حيث أرست المملكة معظم عقود المشاريع الإنشائية الكبرى على شركات أمريكية وأوروبية وكورية جنوبية، ولم تمنح الشركات الهندية سوى عقود لا يتجاوز إجمالي قيمتها الـ 770 مليون روبية هندية، فيما حافظت فقط على إستيراد العمالة الماهرة وشبه الماهرة من الهند من أجل أن تساهم في تنفيذ تلك المشاريع. وفي مجال المشاريع الصناعية كان أضخم صفقة حصلت عليها الهند من السعودية هي صفقة بقيمة 70 مليون دولار في عام 1980 لإنجاز الأعمال الكهربائية الخاصة بسد جيزان.
الأسباب كانت سياسية بحتة، وإن لم يصرح بها علنا. حيث كان الانسجام السياسي وقتذاك بين حكومتي البلدين مفقودا بفعل عوامل خارجية مثل تباين موقف الدولتين من القضية الافغانية، ومشكلة كشمير، والعلاقة مع الدب الروسي وباكستان، ناهيك عن اختلاف نهج البلدين إقتصاديا.
غير أن الهواجس والشكوك وعدم الثقة التي خلقتها تلك العوامل في ظل إستقطابات الحرب الباردة، فحالت دون تبادل الزيارات على مستوى القمة بين قادة البلدين إلا فيما ندر، تراجعت وصارت شيئا من الماضي منذ إنتهاء الحرب الباردة وإنفتاح الهند إقتصاديا، بل تحديدا منذ الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الهند في عام 2006 وحلوله كضيف شرف في إحتفالات الهند بمرور 60 عاما على إستقلالها. حيث شهدت العلاقات الهندية السعودية مذاك تناميا مضطردا لجهة التعاون الثنائي في مختلف المجالات والحقول، بما فيه التفاهم السياسي حول القضايا الدولية والاقليمية، وفي مقدمتها قضايا مكافحة الارهاب وأمن الخليج وطموحات إيران النووية.
ولعل من أبرز مظاهر تنامي العلاقات بين البلدين الكبيرين ما حدث على صعيد التبادل التجاري، إذ صارت السعودية الشريك التجاري الرابع للهند، وصارت الهند أكبر مصدر للواردات السعودية (بنسبة 12.4 % من إجمالي الواردات السعودية لعام 2008 )، ثم ما حدث على صعيد التواجد الهندي في المملكة حيث تحول هذا التواجد من مجرد قوى عاملة إلى شركات ومؤسسات هندية تتعاون مع الشركات الوطنية وتتنافس مع كبريات الشركات العالمية في تقديم الخدمات الهندسية والاستشارية بما في ذلك خدمات تصميم وبناء الطرق والمطارات والجسور ومحطات توليد الطاقة ومعالجة المياه وتقنية المعلومات، وأخيرا ما حدث على الصعيد الإستثماري، حيث يبلغ حجم الإستثمارات الهندية في السعودية اليوم أكثر من ملياري دولار موزعة على نحو 500 مشروع مشترك، ولاسيما مشاريع الطاقة، من بعد أن كان مثل هذه الاستثمارات نادرة في العقود الماضية. وتسعى الهند من خلال شركاتها الأكثر خبرة وتطورا وقدرات على الظفر بالمزيد من فرص الاستثمار داخل السعودية التي تبلغ قيمة خطتها الخمسية المنتهية هذا العام 400 مليار دولار.
وهكذا يمكن القول أن قرار الرياض مؤخرا بمضاعفة مبيعاتها من النفط إلى الهند كتعويض لشركتي “هندوستان بتروليوم كورب” و”مانغلور للتكرير والبتروكيماويات” عن توقفهما عن استيراد الخام الايراني بسبب رفض شركات التأمين العالمية للتأمين على شحنات النفط المصدرة من إيران، هو قرار ينسجم مع ما بلغته علاقات البلدين من تفاهم وتعاون وشراكة في السنوات الاخيرة.
وفي السياق نفسه لا بد من الإشارة إلى تطور آخر حدث في مايو الماضي وهو إختيار شركة أرامكو النفطية السعودية المملوكة للدولة لشركة “لارسن أند توربو” الهندية العملاقة (شركة تأسست على يد مواطنين من الدانمارك في بومباي في عام 1939 لإنتاج الألبان الدانماركية، ثم أجبرتها ظروف الحرب العالمية الثانية على تحويل أنشطتها إلى مجالات أخرى) لتنفيذ مشاريع بنحو 300 مليون دولار في المملكة تشتمل على بناء محطة ومنشآت قادرة على معالجة 75 مليون قدم مكعب من الغاز، و4500 برميل من المكثفات يوميا من حقل “مدين” للغاز الذي أكتشف في الثمانينات في شمال المنطقة المغمورة من البحر الاحمر على بعد 26 كيلومترا من ميناء ضبا (180 كيلومترا غرب تبوك)، مع إنشاء خطي أنابيب بطول 98 كيلومترا لنقل الغاز والسوائل الهيدروكربونية إلى محطة كهرباء متطورة من أجل توليد الكهرباء ومد الصناعات في هذه المنطقة الغنية بخام الحديد بحاجتها من الغاز.
وبهذا أسدت الرياض للهند من خلال ترسية العقد المذكور على شركة من أكبر شركاتها، العاملة في مجالات المقاولات والاعمال الهندسية والخدمات المالية وتقنية المعلومات وصناعة الحديد والاغذية ومعالجة مياه الصرف الصحي، خدمة جليلة خصوصا إذا ما علمنا مدى ما تتعرض له هذه الشركة وشقيقاتها من متاعب بسبب ضعف السوق الهندية وتباطيء الإقتصاد المحلي نسبيا.
والمتوقع أن يفتح هذا التطور الباب امام هذه الشركة العملاقة للحصول في المستقبل على عقود ومشاريع مجزية أخرى في السوق السعودية. فقد صرح رئيسها التنفيذي “كريشنامورتي فنكاتارامانان” قائلا ان شركته، بعدما فازت مؤخرا بمشروع إنشاءات في مطار أبوظبي الدولي بقيمة 244 مليون دولار، ونجحت في الحصول على عقود من شركة النفط الكويتية بقيمة 321 مليون دولار، وحازت هذا العام ايضا على عقد لتنفيذ مشروع شامل بقيمة 190 مليون دولار لتصميم وبناء وتشغيل “محطة الدوحة الجنوبية” لمعالجة مياه الصرف الصحي في قطر، وأنجزت العديد من أعمال الإنشاءات في عدد من المجمعات السكنية والتجارية الراقية بدولة الإمارات، وأقامت مصنعا لتجميع المفاتيح الكهربائية والمنتجات ذات الصلة في الدمام، ونفذت مرافق تصنيعية ومنصات بحرية للنفط والغاز في صحارالعمانية، فإنها باتت أكثر إصرارا على المنافسة للفوز بمشاريع أخرى في منطقة الخليج العربي بقيمة ثلاثة بلايين دولار، بينها أعمال إنشائية أخرى لصالح أرامكو السعودية، وإقامة مصفاة للنفط في سلطنة عمان.
ويأتي دخول “لارسن أند توربو” إلى السعودية من بعد دخول ثلاث شركات هندية أخرى إلى المملكة هي:
• “شركة رايتس”، المملوكة للدولة الهندية والتي فازت في وقت سابق بعقد لتشغيل خط قطار الشمال – الجنوب الذي يربط “حزم الجلاميد” إلى الشرق من مدينة عرعر مع “رأس الزور” إلى الشمال من مدينة الجبيل بطول 1486 كيلومترا، ويتكون من خطين أحدهما لنقل المعادن والآخر لنقل الركاب، علما بأن لهذه الشركة الهندية شهرة محلية وعالمية في مجال نقل المعادن.
• شركة “دريك أند إسكل انترناشيونال” التي فازت بعقد بقيمة نحو 45 مليون دولار لإستكمال خدمات الهندسة والتصميم والإنشاءات لـمجمع تقنية المعلومات والإتصالات (آي تي سي سي) السعودية.
• مجموعة شركات “بونج لويد” التي إستحوذت بالتعاون مع شركات كورية وإسبانية على عقد بقيمة 400 مليون دولار من شركة أرامكو لتطوير معامل التكرير والتصدير في ينبع شاملة أعمال الهندسة والمعالجة ومد الأنابيب، علما بأن المجموعة نفسها كانت قد حصلت على عقد لتنفيذ مشروع تطوير حقل شاه للغاز في أبوظبي، شاملا تطوير كافة الآبار وخطوط التدفق وخطوط التحويل بتكلفة 442.6 مليون دولار.
*باحث ومحاضر في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh