استَند مونتسكيو، صاحب نظرية فصل السلطات ومؤلف رائعة “روح الشرائع” و”الرسائل الفارسية”، على خلاصات عمل مواطنه الرحالة الفرنسي جان شاردان ليفهم طبيعة الاستبداد في بلاد فارس، وليوافقه الاستنتاج بأنّ الدين في تلك الربوع يمثل تحدياً لإرادة الأمير، أي السلطان.
لكن منذ الثورة الإيرانية في القرن الماضي تغيّر الأمر بشكل جذري، إذ إنّ التأطير الديني الذي كان محرّكاً لسقوط الشاه، جرى ببساطة احتواؤه تحت عباءة المرشد الأعلى طبقاً لنظرية ولي الفقيه حيث تجتمع السلطة السياسية والدينية والعسكرية والقضائية بشخص قائد الجمهورية الإسلامية.
من هنا فإن تجربة ما يسمى الديموقراطية الإسلامية وفق النمط الإيراني، لا تعدو كونها تنظيماً داخليا له طابع تشاوري يسهم في تقنين الصراعات وخلق انطباع بوجود أجنحة فيما تبقى الصلاحيات بيد المرشد.
وهكذا لم يتمكن الإصلاحي المنفتح محمد خاتمي من إحداث اختراق طيلة ولايتيه الرئاسيتين (1997 – 2005)، وسرعان ما تم قمع “الحركة الخضراء” عام 2009 إثر الانتخابات الرئاسية وحينها لم يلتفت الرئيس الأميركي باراك اوباما إلى المعارضة الايرانية وكان همّه البدء بما سماه “الانخراط” مع إيران أي الحوار معها حول الملف النووي والتطبيع في آن معاً.
لا يعوّل على الاستحقاق الانتخابي المرتقب أواسط حزيران – يونيو المقبل في إحداث اختراق أو تغيير، لكنه سيكون مناسبة لرصد مدى شعبية المرشد علي خامنئي (جرى ضم الانتخابات الرئاسية والمحلية لضمان نسبة مشاركة كبيرة) وتوجهاته الداخلية وخياره في تغليب المواجهة أو في تقليد سلفه في “تجرع كأس السم” وقبول التسوية حول الملف النووي، علماً أن عدم تمتّع خامنئي بشرعية الخميني تمنعه من اتخاذ قرار بهذه الصعوبة، ويبرز ذلك عندما يتجرأ الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني عليه ويقول: “أنا الذي جئت بخامنئي من مشهد الى طهران، وأنا الذي جعلته قائداً”.
ومما يزيد الموقف تفاقماً ليس الوضع في سوريا، فحسب، التي تتحول تدريجياً إلى “فيتنام المحور الايراني”، بل ايضا الوضع الداخلي الإيراني بسبب أثَر العقوبات الاقتصادية، حيث فقد الريال الإيراني ثلثي قيمته أمام الدولار منذ أواخر 2011 .
هكذا يصل الاستحقاق الانتخابي في ظروف محلية وإقليمية ودولية معقدة، ونتيجة تطور الوضع السوري ومسلسل الملف النووي، يمكننا القول إنه منعطف مصيري في تاريخ الجمهورية الاسلامية.
وما اعتماد طهران على سلبية او تواطؤ موسكو وبكينغ، ومراوحتها بين إشارات المرونة والتشدد في الملف النووي والملفات الإقليمية، إلا وسائل لضمان ابتعاد واشنطن والغرب عن أي تفاعل مع الساحة الداخلية الإيرانية وتمرير الموعد الانتخابي من دون صعوبة.
بانتظار موعد الإعلان بعد أسبوعين عن لائحة المرشحين المعتمدين (ضربة إضافية لكل خيار ديموقراطي حقيقي)، المسألة الاكيدة الوحيدة هي الدخول في مرحلة ما بعد أحمدي نجاد الذي لا يحق له الترشح من جديد، والذي لن يتمكن من إيصال أحد أنصاره في مواجهة مرشح القائد.
بيد أن هذه الانتخابات تبدو مفتوحة على المفاجآت، لأن خامنئي يخشى من تحالف غير معلن بين الإصلاحيين المبعثرين وأنصار أحمدي نجاد، وهذا الاحتمال يزيد من التشتت، ولو أنّ المرشد يرغب في الاساس في وصول مرشح من “لجنة 2 +1 ” (علي اكبر ولايتي، محمد قاليباف وغلام علي حداد عادل)، لكن بروز ترشيحات مثل رئيس مجلس الأمن القومي سعيد جليلي وسلفه الأسبق الشيخ الاصلاحي حسن منتظري، يزيد من خلط الأوراق.
ومع أنّ الأرجح وصول عمدة طهران قاليباف الجنرال السابق في الحرس الثوري الايراني، أو مستشار خامنئي وزير الخارجية السابق وطبيب الأطفال الدكتور علي أكبر ولايتي، نلمح تصعيداً كلامياً وإثارة للمخاوف بهدف التعبئة والتحشيد.
في هذا الاطار، يحاول مكتب الإمام خامنئي وجماعة الحرس الثوري الإيحاء بأن سوريا هي الناخب الاكبر لإثارة الهمة الوطنية التي يحاول الخارج تحديها في مقارعة النظام السوري، الذي يعتبر جوهرة المحور الامبراطوري الإيراني وجسره نحو المتوسط وممثله الإقليمي “حزب الله”.
منذ يومين اتّهم اللواء رحيم صفوي، المستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة في إيران، “الأميركيين بالسعي إلى إسقاط النظام السوري قبل الانتخابات الإيرانية”.
وللمزيد من التشويق والتهويل، وجّه داود أحمدي نجاد، شقيق محمود أحمدي نجاد، انتقاداً شديد اللهجة إلى الرئيس الإيراني، متهماً إياه بالتواطؤ مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) لإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وفي مقاربة اكثر جدية وصرامة، دخل المرشد الأعلى خامنئي على الخط عند استقباله مجموعة من أركان الدولة والنظام متحدثاً عن “الملحمة السياسية التي ستتجلى خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة”، مشيراً إلى إن “الرئيس الذي سينتخب خلال الانتخابات المقبلة ينبغي أن يتمتع بروح الصمود”.
في هذا السياق ربما، يأتي إرسال طائرة من دون طيار فوق حيفا في الاسبوع الماضي بالتوازي مع المزيد من الانغماس في الوحل السوري من القصير إلى دمشق وضواحيها، وكأن صاحب القرار في طهران يخوض معاركه ويسعى إلى الحفاظ على إنجازاته على وقع الحدث السوري والاسهام في أول كارثة كبرى في القرن الحادي والعشرين، حيث أن وضع النظام السوري حاليا بالقياس لإيران يشبه وضع إيطاليا موسوليني في الحرب العالمية الثانية بالقياس لألمانيا النازية.
khattarwahid@yahoo.fr
جامعي وإعلامي لبناني
الجمهورية
سوريا الناخب الأكبر في طهران؟
لعنة الله على الظالمين