أنجز الحزب الشيوعي الحاكم في بكين في دورته السنوية الأخيرة عملية الإنتقال السلمي من الرئيس “هو جينتاو” ورئيس حكومته “وين جياباو” إلى رئيس جمهورية ورئيس وزراء جديدين هما “تشي جينبينغ” (59 عاما) و “لي كه تشيانغ” (57 عاما) على التوالي، ليقود الرجلان الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان والقوة الإقتصادية العالمية الثانية في السنوات العشر القادمة.
وإذا كانت مهمة الأول الرئيسية تتمثل في تحقيق نهضة عظيمة للأمة الصينية “وفق أسلوب الإشتراكية الصينية”، وتطوير قدرات الجيش الأحمر بوصفه القائد الأعلى لهذا الجيش بهدف مواجهة النزاعات الاقليمية مع اليابان ودول جنوب شرق آسيا، ومواجهة الخطط الإمريكية للتركيز على منطقة الشرق الأقصى، والتعامل مع الإضطرابات الداخلية وإسكات الأصوات الانفصالية او تلك الداعية إلى التعددية السياسية، فإن مهمة الثاني أعقد بكثير. إذ أن المطلوب منه هو تحقيق نمو إقتصادي سنوي أعلى من النمو الحالي المقدر بـ 8 بالمائة، أي العودة إلى نسب النمو التي سادت في العقد الماضي وهي 10 بالمائة.
ومن جملة ما هو مطلوب منه أيضا، للحيلولة دون نشؤ أوضاع تؤدي إلى تفاقم التذمر الشعبي، إعادة توجيه الإقتصاد نحو نموذج يركز على الاستهلاك الداخلي بدلا من التركيز على التصدير، وردم الهوة ما بين المقاطعات الفقيرة والغنية، وإنجاز العديد من مشاريع البنى التحتية الكبرى في المقاطعات الأولى، والحد من الإرتفاع الرهيب في أسعار العقارات، وتقليص نفقات ورواتب المسئولين الحكوميين، والتصدي لمشاكل الفساد المتفاقمة في أجهزة الدولة البيروقراطية، وإيجاد حلول دائمة لنسب التلوث العالية للجو والمياه والأرض، والتعامل الجدي مع سياسة الطفل الواحد للعائلة الواحدة الممقوته في مجتمع تزداد شيخوخته يوما بعد يوم. كما انه ضمن المطلوب من حكومته اقناع واشنطون بأن الصين بريئة من تهمة تصدير الهجمات المعلوماتية التي أتهمتها بها إدارة الرئيس “باراك أوباما” مؤخرا، وأنها مستعدة للتعاون لمكافحة الإجرام المعلوماتي، كيلا تخسر الصين الأسواق الأمريكية التي تعد واحدة من أكبر الأسواق المستقبلة لصادراتها.
وعلى حين يقول بعض المراقبين أن رئيس الحكومة الجديد رجل تكنوقراطي كفؤ وقادر على إنجاز الملفات سابقة، يرى فيه البعض الآخر من المراقبين العكس. فالمعجبين به يستندون في مزاعهم إلى معطيات كثيرة مثل درجاته العلمية (حاصل على الدكتوراه في الإقتصاد الريفي، ويجيد الإنجليزية بطلاقة) وخبرته الأكاديمية (عمل مدرسا للحقوق في جامعة بكين وهي الجامعة التي تدرّس فيها زوجته “تشينغ هونغ” الآداب حاليا) ومناصبه الرسمية السابقة (تسلق وظائفه إنطلاقا من رابطة الشباب الشيوعي التي هي منشأ كل كوادر الدولة والحزب الحاكم، ليصبح حاكما لمقاطعة هينان في وسط البلاد والتي تعتبر الأكثر إكتظاظا بالسكان، ثم حاكما لمقاطعة لياونينغ في شمال شرق الصين والمعروفة بمنشآتها الصناعية الكبيرة، قبل أن يرعاه ويقربه رئيس الوزراء السابق جياباو بحكم إنتمائهما إلى مقاطعة واحدة هي “أنهوي”)، هذا اضافة إلى إنجازاته وبصماته التنموية (نجح في التسعينات في اعداد خطة محكمة لتحويل اراضي مقاطعة هينان من اراضي قاحلة الى مكان جاذب للاستثمارات، وانجز في مقاطعة لياونينيغ في عام 2004 شبكة من الطرق التي ساهمت في إزدهار التجارة الداخلية).
أما غير المعجبين فلهم حججهم أيضا. ومنها أن الرجل، الذي كان أول ظهور خارجي له في المنتدى الإقتصادي العالمي في دافوس في عام 2010 ، لئن كان بارعا في الإقتصاد، فإنه يفتقر إلى قوة الشخصية والكاريزما التي تحلى بها سلفه، وتمكن عبرها من تحقيق إنجازات غير مسبوقة مثل الرحلات الفضائية المأهولة، وإطلاق كمبيوتر فائق القوة، وتدشين حاملة طائرات ضخمة وخط قطارات فائقة السرعة، وتنظيم أولمبياد 2008 بنجاح منقطع النظير، ناهيك عن سياساته الناجحة في التغلغل الى قارتي افريقيا وامريكا اللاتينية والاستحواذ على مصادر الطاقة فيهما.
ومن الحجج أيضا أنه رغم إنضمامه المبكر للحزب الحاكم في عام 1978 أي في السنة التي توفي فيها المعلم “ماو تسي تونغ”، فإنه لم يتمكن من خلق حلفاء دائمين له داخل أطر الحزب الشيوعي كي يساندوه في اوقات الشدائد، ولم يستطع فرض نفسه كشخصية قيادية مهابة، ولم تتح له فرصة التعرف على العالم الخارجي.
الملاحظة الأخرى على الرجل هو أنه لم يكن أمينا لأصدقائه من المثقفين والديمقراطيين والليبراليين الذين تعرف عليهم أثناء سنوات عمله في جامعة بكين في الثمانينات حينما كانت الصين في عهدة الزعيم الإصلاحي “دينغ هيسياو بينغ”. إذ تخلى عن آرائه المنفتحه فجأة ليقف ضدهم في أحداث مجزرة “تيان إن من” في عام 1989 . على ان هذه الملاحظة لا تقتصر عليه وحده فآخرون كثر من الزعامات الصينية التي برزت في العقدين الأخيرين مارسوا الشيء نفسه إيثارا للسلامة أو طمعا في مناصب رسمية أعلى في يوم من الأيام. وأحد هؤلاء هو رئيس الجمهورية الجديد “تشي جينبينغ”.
ويقول أحد الأكاديميين المتخصصين في الشئون الصينية من جامعة هونغ كونغ أن رئيس الوزراء الجديد لم يحقق اي انجاز في الملفات القومية التي عــُهدت اليه حينما تولى منصب نائب رئيس الحكومة المنتهية ولايتها، شارحا انه عجز عن الحد من ارتفاع اسعار الشقق والمنازل في البلاد، كما عجز عن مكافحة التلوث الشديد الذي يخيم على معظم المدن الصينية.
من جانب آخر، راقب متابعو الأوضاع الصينية بإهتمام ما دار في الدورة البرلمانية السنوية التي إستمرت 12 يوما في قصر الشعب الكبير بوسط بكين، وأختتمت في منتصف مارس الماضي لجهة ارقام موازين الدفاع والامن الجديدة. حيث أعلنت بكين أن الانفاق على الجيش الصيني أو ما يــُعرف رسميا بـ “جيش التحرير الشعبي” سيزيد بحوالي 11 بالمائة ليصل إلى حوالي 119 مليار دولار (أو نحو 5.4 من إجمالي الإنفاق)، وأن ميزانية الأمن الداخلي ستزيد بنسبة 8.7 بالمائة لتصل إلى حوالي 120 مليار دولار. ويعني هذا ان بكين تولي اهتماما اكبر للتحديات الامنية الداخلية من اهتمامها بالتهديدات الخارجية او تساوي على الاقل بينهما. وهذا ليس بمستغرب اذا ما علمنا ان الاضطرابات الشعبية المسجلة في الصين (بحسب دراسات مدعومة من الحكومة الصينية) زادت من 8700 حادثة في عام 1993 الى 90 الف حادثة في عام 2010 ، علما بأن جهات رسمية وغير رسمية خارجية تزعم بأن هذه الارقام قليلة مقارنة بالواقع.
كما توقف المراقبون مليئا عند الفقرة التي وردت في خطاب الرئيس الصيني الجديد، والتي قال فيها أن على ضباط الجيش والشرطة العسكرية ان يكونوا “قادرين على الانتصار في المعارك.. من أجل تحقيق الحلم الصيني”، إذ تساءلوا عن أي معارك وأي حلم يتحدث الرئيس؟ وهل عادت الصين إلى زمن راديكالية “ماو” وأحلامه الطوباوية؟
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
elmadani@batelco.com.bh