الاعتصام الذي نظمته مجموعة من التيارات الاسلامية السنية في وسط بيروت امس، تضامنا مع قضية الموقوفين الاسلاميين المحقة، منصة نموذجية لتظهير “مظلومية السنة”، اتاح الاستقطاب السياسي والمذهبي تعميمها عبر الخطب. لكنه حتى الآن اعتصام لا يفضي الى القول ان الشيخ احمد الاسير او الشيخ سالم الرفاعي او حزب التحرير ولا الشيخ داعي الاسلام الشهال، وغيرهم من الوجوه المتصدية لمظلومية السنة كما يرددون دوما، باتوا الممثل الاقوى داخل الطائفة السنية. فلا الشيخ الاسير استطاع ان يضمن ولاء السنة له، ولا نجحت التيارات السلفية العريقة في طرابلس او حزب التحرير في فرض نفوذها كجهات قابضة على لواء القيادة في الطائفة. فرغم ان من الصعب في طرابلس على سبيل المثال أن تجد لبنانياً سنيا مؤيدًا لنظام بشارالاسد، الا ان اضخم تظاهرة مؤيدة للثورة السورية دعت اليها هذه التيارات لم تجمع اكثر من 3 الاف متظاهر، وهو رقم يعكس حجم هذه التيارات الصاعدة في احسن الظروف ولا يعكس بطبيعة الحال تأييدا لنظام الاسد.
لكن ما تقدم ليس نهاية المشهد، ولا يخفف من تطلعات هذه القوى لمحاكاة نموذج آخر، بهدف التسيّد في مرحلة انفجار الصراع المذهبي. ولا يخفى على المراقب ان الخطاب والنهج السياسي والسلوك الأقوى اليوم هي تلك التي تسير على خط إعلاء الانتماء المذهبي والطائفي. فالتطرف ليس سمة تخص السنًة فيما الشيعة منها براء، ولا هي خصوصية اسلامية، ولا أيضا المسيحيون على اختلاف طوائفهم منها براء. انه الخيار الذي اندفع اليه الكثيرون ويسوقون له عبر الخيار السياسي، وفي علاقتهم مع الجمهور، في التنظير “الاستراتيجي”، في اضفاء البعد الديني والمقدس عليه. وقد شكل مشروع اللقاء الارثوذكسي احد اعمق التعبيرات عن ذروة الخلل التي وصل اليها الذوق التشريعي والانساني. لقد صبّ هذا المشروع الزيت على نار الفتنة المشتعلة، واضاف الى العداوة السنية الشيعية عداوة، وزاد من الشرخ. ولن يخفف الايحاء الحزب اللهي الاخير، بأن تبني الارثوذكسي كان تكتيكا لدفع “المستقبل” وحلفائه للتنازل عن قانون الستين، من حدَة ما أضافه من شرخ مذهبي جديد.
في المشروع الارثوذكسي جرعة نوعية من العنف بمعناه السياسي، لن يخفف من تداعياتها التراجع عنه. فقد رسَخ في الوعي العام الشرخ المذهبي، وأزاح اللبس عن حلف الاقليات، وجاء موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الرافض له اخيراً، انحيازاً لجموع السنّة الرافضين له اليوم بالاجماع ليؤكد ان منطلقاته مذهبية وطائفية، في مقابل تأييد شيعي له بالاجماع ايضا. لكن ثمة فرقاً بين التأييد والرفض هذين. الرافضون، وان كانت ثمة شبهة انتخابية تقف وراء رفضهم ، الا انه رفض مفهوم ويعبر عن انسجام مع مسار سياسي مثَل السنّة منذ عقود. لكن تأييد “الثنائية الشيعية” بدا مفاجئاً وصادمًا لأنه قطع مع كل الادبيات والخطاب السياسي المعهود لديها: من شعار الغاء الطائفية السياسية الى التنظير الفقهي الذي طالما ادّعى حزب الله انتماءه الى فكر اسلامي ثوري نهضوي، من دون ان يبرر تاييده للمشروع الارثوذكسي عبر الخلفية “الفقهية” التي استند اليها. اللهم الا مقولة حفظ النوع.
مشروع اللقاء الارثوذكسي مشروع تخريبي للانتخابات النيابية، لأنه يزيد قبل اقراره من تهشيم الدولة وتهميشها، وهو مشروع ترسيخ خطوط تماس بين الطوائف والمذاهب، وذهاب في الخيار الطائفي الى نهايات يصعب التحكم بتداعياتها. هو يوفر أيضا طاقة اضافية على طريق تسيّد الظواهر المتطرفة داخل الطوائف. وإذا كان تعبيرا عن موقف الضرورة في مواجهة الصعود السني في المحيط العربي، فانه مشروع لم يشِ بقدرة على تحقيق هذا الهدف في لبنان، بل ساهم في استنفار السنّة كغيرهم، ووفّر ارضية ملائمة لتنامي القوى التي لا تعير للحدود والدولة وحرمتها اولوية. بهذا المعنى مشروع اللقاء الارثوذكسي محاولة جدّية على طريق جعل لبنان ساحة تصفية حساب مذهبية بين نموذج اسلامي شيعي يتحصن بمذهبيته ونموذج اسلامي سني صاعد شبيه له طامح لتكرار التجربة ولكن بعقلية اقلوية “ارثوذكسية”.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد