تدنى كثيرا مستوى الحياة البرلمانية. فمجلس النواب، من خلال اللجان النيابية المشتركة، اقرّ ما يسمى، تعديا واستغباءً، “الطرح الارثوذكسي”. هو ليس نتاج شطارة سياسية او “فهلوة” مسيحية. هو نتاج تضخم الذهنية الذمّية واستفحال العقلية الاقلوية. كما يعبر عن اقتناع لدى مؤيديه بنهاية فكرة دولة لبنان الكبير، كوطن نهائي لجميع ابنائه، في دولة موحدة سيدة وحرة ومستقلة. فضلا عن ان هؤلاء المبتهجين بالمشروع الارثوذكسي لطالما بنوا وجودهم السياسي على قواعد سياسية او فكرية او دينية او وطنية تتنافى اخلاقيا وعقائديا وسياسيا ووطنيا مع ما يحمله هذا المشروع من نزعة تفتيتية وتقسيمية.
اقرار المشروع الارثوذكسي في اللجان النيابية هو الخطوة العملية الاولى والرسمية لتقسيم المجتمع، والتأسيس القانوني لفدرالية الطوائف، وبالتالي فدرالية دول في لبنان. ذلك ان الطرح الارثوذكسي بدأ ينقل لبنان الى فضاء ثقافي واجتماعي آخر. فاذا جاز هذا الطرح في الانتخابات النيابية فلماذا لا يجوز على الرئاسات وعلى الجيش وعلى القوى الامنية وغيرها؟
ثمة قاعدة فقهية تقول “حكم الامثال، فيما يجوز ولا يجوز، واحد”. فاذا كان التمثيل السياسي الطائفي مقروناً بشرط الانتخاب الطائفي، فلم لا يتعدى هذا الشرط بقية الشؤون الاقتصادية والادارية؟ واذا كانت جائزة في السياسة فلما لا تكون جائزة في الأمن والدفاع؟ من التداعيات المرتقبة لاقرار هذا الطرح، ان كل طائفة ستعيد تشكيل نفسها على انها وحدة سياسية، والثقافة الوطنية ستتحول الى مركّب اصطناعي، باعتبار ان الثقافة الطائفية هي المرجع والمقرر. فيما الخطاب الاعتدالي سيفقد مبرر وجوده ما دامت الذات المذهبية والطائفية هي الاقوى ومصدر النفوذ والشرعية السياسية وهي المرتجى.
اما مقولة صحة التمثيل الطائفي، التي يوفرها هذا الطرح كما يدعي متبنوه، وهو امر يحتاج في جوهره الى نقاش، فتحتاج الى من يثبت صحتها على مستوى الوطن والدولة. اذ عندما يتم تأمين الارضية القانونية للطائفة كوحدة سياسية، ستفقد الدولة المزيد من مقومات تماسكها من خلال الاعلاء من المصالح الطائفية والمذهبية، في مناخ اقليمي يشجع على هذه الوجهة، ويستدعي الحمايات الخارجية التي ستكون حقأ مشروعا ومبررا في حسابات الخوف والتخويف بين الطوائف والمذاهب.
قد ينطلق رفض تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي لهذا الطرح من حسابات انتخابية ومصالح ضيقة وليس من اعتبارات وطنية، كما يمكن ان يكون تبني التيار الوطني الحر والثنائية الشيعية له منطلقا من حسابات انتخابية وليس لاسباب تتصل بالعقلية الاقلوية ومأسسة الطائفية والمذهبية سياسيا. الا ان ثمة جانبا لا يمكن تغييبه، وهو المتصل بالشأن السوري. فمع اقتناع حلفاء النظام السوري في لبنان، وعلى رأسهم التيار الوطني الحر وحزب الله، بأن هذا النظام لن يستعيد زمام المبادرة في سورية، يسعى الطرفان الى توفير لما تبقى من نظام الاسد فرصة لبننة سورية بدخولها في لعبة الحصانة الطائفية وكيانيتها، والنجاة من المسؤولية باحالة الجرائم على حرب طائفية يصبح المجرم فيها عادة بطلا في نظر طائفته ايا كانت الطائفة.
فاذا اتيح للطرح الارثوذكسي ان يطبق في لبنان، ونجح دعاته في ترسيخه بالحياة السياسية، سيوفر ذلك فرصة لخيارات مماثلة له في سورية. وستصبح الدعوة الى تشكل الكيانية العلوية سبيلا الى حماية ما يتبقى من نظام الاسد ومن وظيفته الايرانية والروسية. فالتترس بالطائفة يوفر لاصحابه فرصة الحماية الدولية في سياق تحول الموقف الدولي مما يجري في سورية من اعتبارها ثورة الى وصفها اخيرا بالحرب الطائفية. وبما ان الشعور الاقلوي هو الغالب، بسبب استثماره البارع ايرانيا، الذي نجح في اقناع هذه الاقليات بأنه مصدر حماية لها كما هو الحال في لبنان من جهة، وبسبب عجز الثوار في سورية عن الارتقاء بسلوكهم ونموذجهم الى مستوى الثورة من جهة ثانية، إنتعشت المخاوف وترسخت من غلبة سنية قادمة. وليس عبثا ان يتسلح مهاجموا الطرح الارثوذكسي
بتسميته”مشروع ايلي الفرزلي نظراً الى ماتنطوي عليه هذه التسمية من رمزية تشي بان لسورية يدا في صناعته.
الطرح الارثوذكسي لن يمر في لبنان ولو اقرته الهيئة العامة، ففرص الطعن بدستوريته متوفرة عبرأكثر من طريق، لعل ابرزها رئيس الجمهورية الذي اعلن صراحة انه سيقدم طعنا به امام المجلس الدستوري. لكن ذلك لا يعني ان هذا الطرح يسقط في المجلس الدستوري، بل هو نجح في فرض منطقه الذي يترسخ في الحياة السياسية ومنطلقاتها. هو عمل موفق من الرئيس بشار الاسد. طرح لا يستطيع الرد عليه من لديه اوهام انتخابية، بل من يدرك ان التاريخ سيذكر له فضيلة حفظ لبنان من افاعي التقسيم.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد
الأرثوذكسي اللبناني: مقدّمة لانتخابات سورية
Bravo, a nice article. The worst is yet to come.