من الطبيعي أن يصاحب مغامرة خلود ونضال في الزواج المدني في لبنان، وبمساعدة يساري سابق، ضجة إعلامية كبيرة خصوصاً في بلد يجعل من الحبة قبة، فكيف إذا كان الحدث يشكل سابقة بحجم القبة. ومع أن القلق لا يساور فقط وكلاء الزواج المدني في قبرص من اللبنانيين الذين حولوا هذه المشكلة الى سلعة رابحة، والمحاكم الشرعية وقضاتها وموظفيها الذين يقبصون مرتباتهم من دافعي الضرائب، بل يطاول القلق رجال الدين والسياسة معا من كل المذاهب، ويكاد الموضوع على بساطته المبدئية، إذ يتعلق بالحقوق الأساسية للأفراد بتحديد مصائرهم، أن يأخذ أبعادا سوريالية، ذلك أنه يترافق مع نقاش قوانين للإنتخابات لا تكرس الطائفية فقط، بل يذهب بعضها للدعوة العلنية للفرز المذهبي الصافي، ما يجعلنا نترحم على الفدرالية ونتجه نحو إمارات المذاهب اللبنانية المتحدة.
في تبرير تأييده لمشروع الفرز المذهبي يستحضر أحد مشايخ الكتائب نظرية الملجأ، مظهراً تاريخ لبنان باعتباره تاريخ الأقليات اللاجئة، ما يجعل العودة الى مشاريع ما قبل الكيان منطقياً، رغم أن “حلفاءه” المستجدين يقولون أنه لا يمكن العودة الى قانون الستين غير العصري ويتمسكون بمشروع قانون يعود الى ما قبل1860. هكذا يسير التاريخ الى الوراء على طريقة “التغيير والإصلاح” الذي شهدنا بعضاً من فصوله في الكهرباء والإتصالات والآثار وغيرها من مواقع السلطة والسلبطة.
حزب الله لا يفعل جديداً في تأييده لمشروع الفرز المذهبي، بعد أن كان يلوح دائماً بإلغاء الطائفية السياسية، خصوصاً إذا ترافق قانون الفرز مع نسبية تحميه منها، من بعض “شعبه”، عصا السلاح وجزرة الخدمات والمنافع الخاصة والعامة وما بينهما من فساد وتزوير وسرقة، تشكل مع ما يتواتر لنا من فضائح في الدواء والمرافئ وغيرها مثالاً يحتذى وواقعاً يجب تقديسه.
ويبدو أن ظهير مشروع الفرز هو نظرية الأقليات وما يرافقها من هواجس، والتي وإن كان منبتها في لبنان، إلا أنها أخذت جرعة قوية من ثنايا الربيع العربي. حيث أن الإنتفاضات والثورات أخرجت كل بنى الواقع العربي الى العلن، بما فيه بناه الطائفية التي كانت الأنظمة الدكتاتورية تحجزها تارة وتظهرها تارة أخرى. والجدير بالذكر أن النظام الإستبدادي السوري والمستظل بعلمانية شكلية ومخادعة هو أكثر من أجاد إدارة هذه السياسة. لذا كان دأبه منذ بداية الإنتفاضة إبراز مسألة الأقليات بموازة القمع الوحشي للمتظاهرين السلميين وإرتكاب شبيحة النظام لأعمال وحشية مذهبية استدعت ردود فعل مدانة في بعض الأحيان. ومع تحول الثورة السورية الى ثورة مسلحة ازدادت حدة انكشاف الجوانب الأهلية، حتى أن بعض “المثقفين” قارب مسألة حماية الأقليات بطريقة بدا معها وكأنه يدعم قمع الأكثريات، ما ساهم بتعزيز التطرف عند بعض الثائرين،والذي تغذى أيضا من التردد الدولي والعجز العربي ان لم نقل أكثر.
وإذا كانت شكوك ومخاوف المجموعات اللبنانية خصوصا المسيحية مشروعة، فهل يجب تحويلها إلى أمراض وبائية؟ وهل تعالج بالذهاب إلى الحد الأقصى والتغيير حتى في موقف سيد بكركي من الثوابت الوطنية التي مهّدت للحركة السيادية؟ لقد شكلت رعايته للقاء النواب الموارنة وزعمائهم جنوحاً نحو أقلوية أوصلت لتأييد مشروع الفرز بعد أن وضع شبه حرمٍ كنسي على قانون الستين. في المقلب الآخر نرى في الموقف الحاد لسماحة المفتي في موضوع الزواج المدني الإختياري والذي لامس التكفير ابتعادا عن الإعتدال السني التقليدي. من المفهوم أن يأخذ سماحته موقفاً معارضاً للزواج المدني ربما “لتعارض مفترض” مع بعض النصوص الدينية وربما لتعريضه مصالح المحاكم الشرعية وأهلها للأخطار، إلا أن لهجته المتشددة ليست لمصلحة اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، خصوصاً أنه مفتي الجمهورية اللبنانية، ففتواه تذكرنا بفتاوى التطرف ونظريات النصر الإلهي والحرم الكنسي.
ليس حدثاً عابراً أن يحمل حزب القوات وحتى حزب الكتائب لواء مشروع الفرز المذهبي! فلطالما شكل سمير جعجع نجماً خاصاً في سماء 14 آذار، خصوصاً في المواقف المبدئية والوطنية، وقد ذهب بتأييده للربيع العربي والثورة السورية مسافة بعيدة، خصوصاً بمقاربته مسألية الأقليات حتى بتنا لا نفرق بين سمير جعجع قائد الميليشيا السابق وسمير فرنجية البيك العلماني وصاحب السوابق اليسارية،. لقد بدا مؤمناً بقدرة الشعوب المنتفضة بمنوعاتها، خصوصاً في مصر وسوريا على متابعة قضاياها بكل تعقيداتها والتباساتها بما فيها التباساتها الطائفية، معتبرا انتصار الإخوان المسلمين في مصر نتيجة انتخابات ديمقراطية مسألة طبيعية، حتى قبل انتفاضة الشعب المصري الجديدة والتي لامست “العنف السلمي” ضد أخونة الدولة المصرية. لطالما حذّرنا من مغبة الإندفاع وراء الهواجس والوقوع بفخ العلك الإنتخابي والذي أريد منه جر مسيحيي14 آذار لحلبة يملك فيها حزب الله والتيار العوني أفضلية، وها قد وصلنا بالهواجس والمزايدة الى نوع من الإصطفاف المتظلل بمسألة الأقليات والمتعارض مع المبادئ الأولية للديمقراطية.
لا أحد يعتقد أن مشروع الفرز(لي) سيمر بما فيه مطلقوه، وربما هدف إلى تعطيل الإنتخابات وتضخيم التعارض السني المسيحي في محاولة للإجهاز على ما تبقى من ثورة الأرز والتي أظهرت وحدة لبنانية استثنائية في رد على اغتيال زعيم سني حاول تجسير الهوة بين الطوائف. فكيف يستقيم ما يفعله بعض “ثوار الأرز” بتكسير هذه الجسور رافعين أيقونة التمثيل الصحيح للمسيحيين. فعن أي أيقونة نتكلم حين يصبح بطرس حرب وغيره من المستقلين المسيحيين والناس العاديين مجرد هوامش في دفاتر البعض، خصوصاً ممَن يستقوون بسلاح الآخرين، أو ممن تطربهم نظرية الملجأ، ومن الهزلية أن معظمهم يؤيد الزواج المدني!
في مقال سابق، أسفت لصورة اجتماع قيادات 14 آذار في بيت الوسط بعد اغتيال وسام الحسن، ذلك أنها خلت من قامات لطالما شكلت رموزاً جاذبة، خصوصاً للمستقلين بمذاهبهم ومناطقهم وأمزجتهم المختلفة، ولم يستطع البيان القوي الذاي أذاعه الرئيس السنيورة أن يغير من اهتزاز هذه الصورة. ويبدو أن نابشي نظرية الملجاً ضاقوا ذرعاً بحجم الإنفتاح الديمقراطي لهذه القامات التي يرى أصحابها أن الهواجس والمخاوف تعالج بالتكافل والتضامن بين اللبنانين وليس بإقامة الحواجز والقلاع والملاجئ والمربعات.
من المفهوم أن يعمد حزب الله والتيار العوني وحلفاؤهما الى إضعاف تيار الإعتدال السني، والإعتدال عموما، وابراز وتضخيم قوى التطرف والتي ليست بالضرورة ممثلة بالتيارات السلفية كلها. وقد أدى النقاش في مشروع الفرز المذهبي الى اضعاف الإعتدال في كل المذاهب، علماً أن التأييد الشبابي الذي يلاقيه مشروع قانون الزواج المدني الإختياري يظهر أن الهواجس مضخمة ومسيسة. وهذا يعني أن على القوى الديمقراطية والعلمانية واليسارية وقوى المجتمع المدني المتنور أن تأخذ مزيداً من الأدوار، كما يعني توسيع دائرة “المستقلين” وايجاد اطر عمل مرنة ومتنوعة داخل الحركة السيادية والإستقلالية وحولها، مما سيؤدي الى تنويع الحركة السياسية والتخفيف من الغلواء المذهبية.
لن نكون أمام انهيار في حركة 14 آذار، ولكننا سنكون حتماً أمام تداعيات كبيرة للتحولات والتي يخفي بعضها قلقاً من مسارات الربيع العربي، خصوصاً الربيع الدامي السوري. ومن المرجح أن تمتص قوى الإعتدال، خصوصا بعد مبادرة الحريري، بعض هذه التداعيات، وربما نتجه إلى قانون هجين لايميت الديب ولا يفني الغنم، لأنه من المهم أن تجري الإنتخابات في موعدها حتى لا نقترب من الدولة الفاشلة في ظل أوضاع إقتصادية وإجتماعية وأمنية سيئة وخطيرة. ورغم “انتظارية وحيادية نسبية” لما يجري حولنا، وبما أن موجات التفخيخ والتوتيرالمذهبي والكيل بمكيالين لن تتوقف، فلا بد من ابتداع خطط عمل ديمقراطي صلبة ومرنة لامتصاص هذه الموجات ومواجهة الأخطار على أنواعها.
المهمة صعبة ولها رمزية عالية في ذكرى غياب الرجل الذي أدى زلزال اغتياله مع رفاقه الى إطلاق حركة 14 آذار.