فضحت المواقف من مشروع اللقاء الارثوذكسي هزال الشعارات الكبرى التي تلحفت بها قوى 14 آذار و8 آذار. فأظهرت ان مشروع العبور الى الدولة او مشروع الدولة الذي رفعته قوى 14 آذار شعارًا لمعاركها السياسية، ليس الا قشرة على سطح بنيتها لم تلامس عمقها، كما فضحت بالمقابل سطحية عناوين الممانعة والمقاومة والنزاهة والعروبة والوحدة التي رفعتها قوى 8 آذار وقاتلت خصومها باسمها. فقد كشف مشروع اللقاء الارثوذكسي هذه الشعارات وأكد انها قشرة رقيقة خارجية لبنية سياسية يشكّل الاستقطاب الطائفي العميق مركز تماسكها وقوتها وشرعية وجودها. استقطاب فرز نفسه بشكل صريح وسريع في ظل التحولات الجديدة التي تشهدها المنطقة وسورية تحديدا.
من المؤكد أنه ليس اللقاء الارثوذكسي في مشروعه المقترح هو من فعل هذا الفعل، بل أن الاداء السياسي العام منذ سنوات هو ما يرسّخ هذه المعادلة الطائفية. وذروة مسار السجال والصراع السياسي القائم على المخاوف الطائفية وصل الى مشروع اللقاء الارثوذكسي، وكشف هذا المشروع واقع ان فكرة لبنان الكيان الواحد والدولة ذات السيادة و”الرسالة” صار فكرة نخبوية ليس لها واقع الا لدى بعض النخب اللبنانية.
اذاً الممارسة السياسية هي التي انتجت مشروع اللقاء الارثوذكسي. الممارسة التي بدأت بتحويل الطائفة من كيان اجتماعي ديني خلاصي الى كيان سياسي ذي بنية داخلية تراتبية ثم إلى حزب. فتحولت الطائفة ضمن هذا المسار الى حاجز سياسي راسخ ومحصّن بين المواطن والدولة. وجاء المشروع الآنف ذكره ليقونن هذا الخلل ويطلق تداعيات تطال هوية الوطن وفكرة الدولة الواحدة، ليبني بعدها هوية جديدة لها، بما يوفره من طاقة اضافية لمسار بدأ من طائفية غير مصرح بها في الدولة الى طائفية مصرح بها بالقانون. مسار يتجه الى قوننة كل المخاوف بما ينذر بتوالد مركزيات كيانية طائفية عشائرية متعددة في سياق لا قرار له الا التفتيت وانهاء الدولة.
لم تكن ردود الفعل السياسية على اللقاء الارثوذكسي خارج منطقه، بمعنى ان القوى السياسية التي رفضته ليست قادرة على إقناع المراقبين أن رفضها يأتي من خارج منطلقات طائفية. فتيار المستقبل المستقر على استقطاب سني وعصبية ترسخت في السنوات الاخيرة، ومع اختلافه مع حليفيه (القوات والكتائب) او العكس، في الموقف من هذا المشروع، لن يستطيع ايجاد صدى لموقفه لدى الآخر، غير تعزيز موقع الطائفة السنية في المعادلة اللبنانية، والاستعداد لتلقف “بشائر” التحول السوري على دور الطائفة السنية ونفوذها.
من هنا ايضا تلقف حزب الله المشروع الارثوذكسي برضى، يتلاقى مع مسار انتهجه منذ سنوات وتبلور مع التحول السوري. هذا المسار بدأ يتشكل مع تضخيم المخاوف الشيعية التي بدأت منذ اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري، وهو تبلور عبر مسار سياسي وثقافي واجتماعي وصراع سياسي زاد المخاوف الشيعية مما حولها، في موازاة اظهار قوتها واستعراض قدراتها على الدفاع والبطش في آن. تلقف حزب الله هذا المشروع ايضا لأنه ينقل النقاش، حول دوره الحامي للطائفة، من موضوع يتم تداوله في الشارع والحسينيات الى نقاش على المستوى القانوني والدستوري. فبعدما كانت معضلة الخوف مسيحية في لبنان من المحيط المسلم، انتقلت هذه المعضلة لتتحول الى خوف مسيحي-شيعي من المحيط السني. وهي معضلة مرشحة، مع التحول السوري وسقوط محور الممانعة ومشاريع الوحدة الاسلامية، الى ان تشكل اساس الحسابات السياسية التي سيتخذها في المستقبل.
تحوّل يمكن تلمسه في السنوات الاخيرة في انتقال حزب الله من خطاب وتعبئة اسلامية بزخم شيعي، الى خطاب شيعي يستجيب لمسار يفرض اولويته: حماية الاقليات، في وجه الصعود السني او “الارهابي” في سورية والعراق والمنطقة.
مشروع اللقاء الارثوذكسي افتتح مبكرا مرحلة ما بعد النظام السوري الاقلوي، واطلق مجددا رحلة البحث في بلورة فيدرالية الطوائف دستوريا. إذ حتى القوات اللبنانية والكتائب لم يخفيا تخوفهما مما يحمله التحول السوري. والا فما معنى اندفاعهما إلى تبني “المشروع الارثوذكسي” وانفصالهما في قضية على هذا المستوى عن حساب تقويض امكانية الموقف الموحد في 14 آذار، ترجمةً لمشروع العبور الى الدولة؟ وهل بدأت بعض القوى المسيحية المنظمة تعيد الاعتبار إلى الفيدرالية التي تبنتها في اواخر الحرب الاهلية، بعدما نجح حزب الله في تحقيقها موضوعيا من دون ان يتبناها في الموقف؟ نجح المشروع الارثوذكسي ولو لم يقرّ، لقد فرض على اي قانون بديل الا يكون انقلابيا عليه، بل اقل درجة وممهداً له، درجة كفيلة ان تزال تماما من طريقه في قانون انتخابات 2017.
alyalamine@gmail.com
كاتب لبناني
البلد
مستنقع الشعب اللبناني المخجللطالما كان النظام الطائفي اللبناني نظام تمييز عنصري وبكلّ ما للكلمة من معنى. يبدأ هذا التمييز بالمفاضلة بين الأفراد والجماعات في داخل كلّ طائفة وملّة وصولاً إلى المفاضلة فيما بين الطوائف والملل المختلفة، وذلك على أساس ما يسمّى أحياناً بـ”الكوتا”، فمثلاً، وبغضّ النظر عن معايير الكفاءة، يمكن لـ”سنّي” عكار ان يصبح جنديّاً، ولكن من الصعب عليه أن يصبح ضابطاً لأن حصّة السنّة من هذه الرتب الوظيفيّة شبه محتكرة من سنّة أهالي مناطق أخرى.. ولكنّ الضابط السنّي لا يمكنه أن يتولّى قيادة العسكر لأنّها حكر على طائفة أخرى، وتندرج هذه الصيغة الكاريكاتوريّة على كافة مناصب الدولة الزمنية والروحية… قراءة المزيد ..